كتب: د. رفعت عبدالله سليمان
التصوف الإسلامي جزء أساسي في التراث الإسلامي حيث تبوأ مكانا هاما في الفكر العربي الإسلامي، والاهتمام بالتصوف قديم، تناوله المؤرخون والعلماء العرب والمسلمون كالطوسي، والكلاباذي، والقشيري وغيرهم، كما ألف فيه الفلاسفة كابن سينا والغزالي وابن خلدون، وتجادل فيه الفقهاء وعلماء الكلام إضافة إلى جهود المستشرقين. ولم يتفق هؤلاء على رأي واحد سواء تعلق الأمر بحدوده أو أصوله فاختلفت الآراء والمشارب حوله. فالتصوف ليس ظاهرة إسلامية خاصة بل إن جذوره وعروقه تمتد في أي فكر ديني عموماً، حتى إن كثيراً من الدارسين ربطه بأصول غير إسلامية كالمسيحية والهندية والفارسية والفلسفة اليونانية. بينما يرفض رأي آخر هذه الصلات جملة وتفصيلاً ويرده إلى أصوله الإسلامية ومنابعه الأولى القرآن والسنة.
أصل كلمة التصوف
من حيث اللغة:
كثرت الأقوال في اشتقاق التصوف عند المسلمين على عدة أقوال، أشهرها:
أنه من الصوفة، لأن الصوفي مع الله كالصوفة المطروحة، لاستسلامه لله تعالى.
أنه من الصِّفة، إذ أن التصوف هو اتصاف بمحاسن الأخلاق والصفات، وترك المذموم منها.
أنه من الصُفَّة، لأن صاحبه تابعٌ لأهل الصُفَّة الذين هم الرعيل الأول من رجال التصوف (وهم مجموعة من المساكين الفقراء كانوا يقيمون في المسجد النبوي ويعطيهم رسول الله Mohamed peace be upon him.svg من الصدقات والزكاة طعامهم ولباسهم) .)
أنه من الصف، فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم من حيث حضورهم مع الله؛ وتسابقهم في سائر الطاعات.
أنه من الصوف، لأنهم كانوا يؤثرون لبس الصوف الخشن للتقشف والاخشيشان.
أنه من الصفاء، فلفظة “صوفي” على وزن “عوفي”، أي: عافاه الله فعوفي، وقال أبو الفتح البستي:
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا وظنه البعض مشتقاً من الصوف
ولست أمنح هذا الاسم غيرَ فتىً صفا فصوفي حتى سُمي الصوفي
أنها في الأصل صفوي، ونقل ذلك الطوسي أبو نصر السراج، في كتابه الذي يعد أقدم مرجع صوفي، عن صوفي فقال: (كان في الأصل صفوي، فاستثقل ذلك، فقيل : صوفي – وبمثل ذلك نقل عن أبي الحسن الكناد : هو مأخوذ من الصفاء) .
بينما أرجع البعض اسم “التصوف” إلى رجل زاهد متعبد في الجاهلية كان يلقب ب (صوفة) واسمه الغوث بن مر بن أد، كما أشار الزمخشري في أساس البلاغة والفيروز آبادي في قاموسه المحيط إلى أن قوماً في الجاهلية سموا بهذا الاسم وكانوا يلون إجازن الناس بالحج في مكة ومن تشبه بهم سمي صوفي. ومنهم نشأت طبقة المتحنفين مثل ورقة بن نوفل.
المستشرقين يرون أن كلمة صوفي مأخوذة من (صوفيا) اليونانية بمعنى الحكمة وعندما فلسفت العرب عبادتهم حرفوا الكلمة وأطلقوها على رجال التعبد والفلسفة الروحية، أو مأخوذة من (ثيوصوفيا) بمعنى الإشراق أو محب الحكمة الإلهية. بسبب المشابهة الصوتية بين كلمة (صوفي) والكلمة اليونانية (صوفيا)، وكذلك لوجه الشبه الموجود بين كلمة (تصوف)، (تيوصوفيا)، وأن كلمتي صوفي وتصوف أخذتا من الكلمتين اليونانيتين (سوفيا) و(وتيوسوفيا) وبهذا الرأي أخذ محمد لطفي جمعة إلا أن نولدكه أثبت خطأ هذا الزعم كما أيده في ذلك نيكلسون، وماسينيون، وبالإضافة إلى البراهين القوية الأخرى التي أقامها نولدكه، فإنه يدلل على أن (س) اليونانية نقلت إلى العربية كما هي سينا، لا صادا كما أنه لا يوجد في اللغة الآرامية كلمة تعد واسطة لانتقال سوفيا إلى الصوفي).
فهذا هو الاختلاف الواقع في أصل لفظة التصوف واشتقاقها، ولذلك اضطر الصوفي القديم علىّ الهجويري المتوفى سنة 465 هـ إلى أن يقول : (إن اشتقاق هذا الاسم لا يصح من مقتضى اللغة في أي معنى، لأن هذا الاسم أعظم من أن يكون له جنس ليشتق منه). وبمثل ذلك قال القشيري في رسالته : (ليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق) . كما أنه مما لاشك فيه أنه لا يصح ولا يستقيم اشتقاقه من حيث اللغة إلا من الصوف، ولو أنه هو اختيار الكثيرين من الصوفية وغيرهم كالطوسي، وأبي طالب المكي، والسهروردي وأبي المفاخر يحيى باخرزي، وابن تيمية، وابن خلدون من المتقدمين. وأرجح الأقوال وأقربها إلى العقل مذهب القائلين بأن الصوفي نسبة إلى الصوف، وأن المتصوف مأخوذ منه أيضا، فيقال : تصوف إذا لبس الصوف) .
من حيث الاصطلاح:
كثرت الأقوال أيضا في تعريف التصوف تعريفا اصطلاحيا على آراء متقاربة، كل منها يشير إلى جانب رئيسي في التصوف، والتي منها:
• قول الشيخ زكريا الأنصاري : التصوف علم تعرف به أحوال تزكية النفوس، وتصفية الأخلاق وتعمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية[11].
• قول الشيخ أحمد زروق: التصوف علم قصد لإصلاح القلوب وإفرادها لله تعالى عما سواه. والفقه لإصلاح العمل وحفظ النظام وظهور الحكمة بالأحكام. والأصول “علم التوحيد” لتحقيق المقدمات بالبراهين وتحلية الإيمان بالإيقان.[12].وقال أيضا: وقد حُدَّ التصوف ورسم وفسر بوجوه تبلغ نحو الألفين، مرجع كلها لصدق التوجه إلى الله، وإنما هي وجوه فيه[13].
• قول الإمام الجنيد: التصوف استعمال كل خلق سني، وترك كل خلق دني[14].
• قول الإمام أبو الحسن الشاذلي: التصوف تدريب النفس على العبودية، وردها لأحكام الربوبية[15].
• قول الإمام ابن عجيبة: التصوف هو علم يعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرذائل، وتحليتها بأنواع الفضائل، وأوله علم، ووسطه عمل، وآخره موهبة[16].
جذور التصوف:
يدعي المتصوفة أن أصل التصوف يرجع كسلوك وتعبد وزهد في الدنيا وإقبال على العبادات واجتناب المنهيات ومجاهدة للنفس وكثرة لذكر الله – إلى عهد رسول الله محمد وعهد الصحابة، فيقول محمد سعيد الجمل: “وأن أول صوفي هو رسول الله محمد بن عبد الله ، لأنه بحد ذاته أول من دخل الخلوة في غار حراء”.[17]. وأن التصوف يستمد أصوله وفروعه من تعاليم الدين الإسلامي المستمدة من القرآن والسنة النبوية. وكوجهة نظر أخرى، يرى بعض الناس أن أصل التصوف هو الرهبنة البوذية[18]، والكهانة النصرانية، والشعوذة الهندية، وأصول الديانة الفارسية التي ظهرت بخراسان[19]. بينما يرفض الصوفية تلك النسبة ويقولون بأن التصوف ما هو إلا التطبيق العملي للإسلام، وأنه ليس هناك إلا التصوف الإسلامي فحسب[20].
بداية ظهور اسم الصوفية:
يقول الإمام القشيري:
«اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله Mohamed peace be upon him.svg لم يَتَسمَّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم سوى صحبة الرسول Mohamed peace be upon him.svg، إذ لا أفضلية فوقها، فقيل لهم الصحابة، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ـ ممن لهم شدة عناية بأمر الدين ـ الزهاد والعُبَّاد، ثم ظهرت البدعة، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادعوا أن فيهم زهاداً، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله سبحانه وتعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة.»
ويقول محمد صديق الغماري:
«ويعضد ما ذكره ابن خلدون في تاريخ ظهور اسم التصوف ما ذكره الكِنْدي ـ وكان من أهل القرن الرابع ـ في كتاب “ولاة مصر” في حوادث سنة المائتين: إنه ظهر بالإسكندرية طائفة يسمَّوْن بالصوفية يأمرون بالمعروف. وكذلك ما ذكره المسعودي في “مروج الذهب” حاكياً عن يحيى بن أكثم فقال: إن المأمون يوماً لجالس، إذ دخل عليه علي بن صالح الحاجب، فقال: يا أمير المؤمنين! رجل واقفٌ بالباب، عليه ثياب بيض غلاظ، يطلب الدخول للمناظرة، فعلمت أنه بعض الصوفية. فهاتان الحكايتان تشهدان لكلام ابن خلدون في تاريخ نشأة التصوف. وذُكر في “كشف الظنون” أن أول من سمي بالصوفي أبو هاشم الصوفي المتوفى سنة خمسين ومئة (150 هـ).»
ظهور التصوف كعلم:
بعد عهد الصحابة، والتابعين، دخل في دين الإسلام أُمم شتى، وأجناس عديدة، واتسعت دائرة العلوم، وتقسمت وتوزعت بين أرباب الاختصاص؛ فقام كل فريق بتدوين الفن والعلم الذي يُجيده أكثر من غيره، فنشأ ـ بعد تدوين النحو في الصدر الأول ـ علم الفقه، وعلم التوحيد، وعلوم الحديث، وأصول الدين، والتفسير، والمنطق، ومصطلح الحديث، وعلم الأصول، والفرائض “الميراث” وغيرها. وبعد هذه الفترة أن أخذ التأثير الروحي يتضاءل شيئاً فشيئاً، وأخذ الناس يتناسون ضرورة الإقبال على الله بالعبودية، وبالقلب والهمة، مما دعا أرباب الرياضة والزهد إلى أن يعملوا هُم من ناحيتهم أيضاً على تدوين علم التصوف، وإثبات شرفه وجلاله وفضله على سائر العلوم، من باب سد النقص، واستكمال حاجات الدين في جميع نواحي النشاط.
أوائل من كتب في التصوف من العلماء:
• الحارث المحاسبي، المتوفى سنة 243 هـ، ومن كتبه: بدء من أناب إلى الله، وآداب النفوس، ورسالة التوهم.
• أبو سعيد الخراز، المتوفى سنة 277 هـ، ومن كتبه: الطريق إلى الله.
• أبو نصر عبد الله بن علي السراج الطوسي، المتوفي سنة 378 هـ، وله كتاب: اللمع في التصوف.
• أبو بكر الكلاباذي، المتوفي سنة 380 هـ، وله كتاب: التعرف على مذهب أهل التصوف.
• أبو طالب المكي، المتوفى سنة 386 هـ، وله كتاب: قوت القلوب في معاملة المحبوب.
• أبو قاسم القشيري، المتوفى سنة 465 هـ، وله الرسالة القشيرية، وهي من أهم الكتب في التصوف.
• أبو حامد الغزالي، المتوفى سنة 505 هـ، ومن كتبه: إحياء علوم الدين، الأربعين في أصول الدين، منهاج العابدين إلى جنة رب العالمين، بداية الهداية، وغيرها الكثير. ويعد كتاب إحياء علوم الدين من أشهر -إن لم يكن الأشهر- كتب التصوف ومن أجمعها.
ظهور التصوف كطرق ومدارس:
يرجع أصل الطرق الصوفية إلى عهد رسول الله محمد بن عبد الله عندما كان يخصّ كل من الصحابة بورد يتفق مع درجته وأحواله:
• أما الصحابي علي بن أبي طالب، فقد أخذ من النبى الذكر بالنفى والإثبات وهو (لا إله إلا الله).
• وأما الصحابي أبو بكر الصديق، فقد أخذ عنه الذكر بالاسم المفرد (الله).
ثم أخذ عنهما من التابعين هذه الأذكار وسميت الطريقتين: بالبكرية والعلوية. ثم نقلت الطريقتين حتى التقتا عند الإمام أبو القاسم الجنيد. ثم تفرعتا إلى الخلوتية، والنقشبندية. واستمر الحال كذلك حتى جاء الأقطاب الأربعة:
1. أحمد بن علي الرفاعي
2. عبد القادر الجيلاني
3. أحمد البدوي
4. إبراهيم الدسوقي
فشيّدوا طرقهم الرئيسية الأربعة وأضافوا إليها أورادهم وأدعيتهم. وتوجد اليوم طرق عديدة جدًا في أنحاء العالم ولكنها كلها مستمدة من هذه الطرق الأربعة. إضافة إلى أوراد أبي الحسن الشاذلي صاحب الطريقة الشاذلية والتي تعتبر أوراده جزءًا من أوراد أى طريقة صوفية موجودة اليوم.
هذا علم من العلوم الشرعية وأصله أن طريقة هولاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريق الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الحياة وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة. وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف ولما نشأ الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على الله باسم الصوفية. ابن خلدون – المقدمة .
التصوف في جزيرة العرب:
السعودية كان إقليما الحجاز وتهامة في شبه الجزيرة العربية في عهد الدولة العثمانية ساحةً للتصوف، فبحكم مكانتهما الدينية بوجود الحرم المكي والحرم النبوي في الحجاز؛ فقد تنوعت الطرق الصوفية فيهما؛ فقد كان هناك طرق السنوسية، والطريقة الإدريسية، الختمية، والكيلانية، والأحمدية، والرفاعية، والبكداشية، والنقشبندية.[25]. وفي الوقت الحالي يتواجد التصوف في الاحساء شرق السعودية وفي الحجاز غرب السعودية، ومن رموز الصوفية في المجتمع السعودي، محمد عبده يماني وزير الإعلام السعودي السابق ومحمد علوي المالكي وعبد الله فدعق .
الكويت
الطريقة الرفاعية هي الطريقة التي أدخلت الصوفية إلى الكويت حسب بعض المصادر، ويستضيف في ديوانه حلقتين أسبوعياً، يلتقي فيها أتباعه لتلاوة الأوراد والأذكار، ويرى بعضهم أن الصوفية في الكويت هي سورية المنبع. لها أتباع في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة الكويت ووزارة الأوقاف، لكنهم يجنبون إظهار ذلك بشكل واضح خشية استهدافهم من جانب التيار السلفي، من أبرزهم الدكتور محمد عبد الغفار الشريف الأمين العام للأمانة العامة للأوقاف وعميد كلية الشريعة سابقا، والدكتور يوسف الشراح، والشيخ حمد سنان، والدكتور عبد الله المعتوق وزير الأوقاف السابق الذي كان ضحية التجاذب السلفي – الصوفي إذ تعرض إلى حملة انتقادات حادة من جانب البرلمانيين السلفيين بذريعة أن وزارته كانت تستضيف أقطاب الصوفية في العالم الإسلامي لإلقاء محاضرات ودروس في الكويت، في الوقت الذي تمنع فيه كتب السلفيين كابن باز وابن عثيمين من معرض الكتاب الإسلامي، ولم تتوقف هذه الحملة إلا بعد الإطاحة بالمعتوق من الوزارة. يعد هاشم الرفاعي الأب الروحي للصوفيين، وأحد المنظرين لأفكارهم والمدافعين عن معتقداتهم. لصوفية الكويت جهود في مجال التقريب بين السنة والشيعة.[28]
البحرين
ينتسب صوفية البحرين إلى عدة طرق، يكتسب الجنيد البغدادي مكانة خاصة، كما تأثروا بشيخهم في البحرين محمد بن علي الحجازي المتوفى في يوليو 1996م والذي كان مجازاً على الطريقة النقشبندية والقادرية. لا تعاني الصوفية في البحرين من مضايقات من قبل الدولة بسبب هامش الحرية الكبير الذي تعيشه الطوائف في البحرين، ويشتكي أتباع المدرسة الصوفية، حسب قولهم، من الحملات المستمرة لتكفيرهم من قبل غلاة السلفية.[29]. كما يعد الشيخ :يوسف بن عبد العزيز بن عبد الله العبد العزيز، الرجل الثاني في البحرين بالأخص بمدينة المحرق حيث كان من كبار المتصوفة انذاك حيث اشتهر بالعلم والتقوى والزهد وتوفي سنة 1990م.
التصوف في الأندلس:
وجد التصوّف طريقه إلى الأندلس منذ القرن الثاني للهجرة وذلك تحت تأثير الاتصال بحركة التصوف عبر الشمال الإفريقي أو عن طريق الصلات المباشرة مع المشرق الإسلامي، إذ كانت حركة العلماء لا تنقطع، فكان هناك من يغادر الشام للإقامة في الأندلس، كما كان علماء الأندلس يقصدون شبه الجزيرة العربية لأداء فريضة الحج فيتصلون بالمتصوفة في مكة والمدينة، بل ويسافرون للتباحث مع علماء ومتصوفة العراق وبلاد الشام وبلاد فارس أيضًا. ازدهر التصوف في الأندلس بدخول القرن السابع الهجري وأصبح محيي الدين ابن عربي أحد رؤوس الصوفية حتى لقب بالشيخ الأكبر.
لاق التصوف ازدهارا واسعا، وهو ما تؤكده عشرات الأسماء التي ورد ذكرها في المصادر التاريخية من أمثال موسى بن عمران الميرتلي وأبو الحجاج يوسف الشبربلي، وأبو عبد الله بن المجاهد، وأبو عبد الله قسم وأبو العباس العرياني ونونة فاطمة بنت أبي المدني القرطبية وأبو عبد الله الشرفي وأبو عبد الله محمد الخياط، وأحمد الحزاز وأبو علي حسن الشكاز وعبد الله المالقي.
من متصوّفة الأندلس الأوائل الذين نالوا قدرًا من الشهرة ابن سبعين، ابن عباد الرندي الذي كان صوفيا على الطريقة الشاذلية، قام بشرح كتاب الحكم لابن عطاء الله السكندري ويظهر أنه ترك أثرا واضحا في المصطلحات التي استعملها الصوفي المسيحي المعروف بالقديس يوحنا الصليبي وأتباعه المسمون بأهل النور، ومن دلائل ذلك استعمال الشاذلية وأهل النور لفظي «البسط» و{القبض» بمعنى النور والظلام، وكذلك زهد الفريقين في الكرامات.
ترك متصوفة الأندلس أثرا لا يُمحى في تاريخ المسيحية في أوروبا وهو ما يظهر جليا في كتابات رايموند ليليو الصوفي النصراني الميورقي، اعتمد على كُتَّاب المسلمين، خصوصا ابن عربي، وتتجلى في كتابات ليوليو رقة ظاهرة للمسلمين تولدت من دون شك من مداومته على قراءة الكتب العربية، فقد كان يرمي إلى أن ينقل إلى النصرانية طائفة مما جرى عليه المسلمون من تقاليد دينية، فدأب على استهلال رسائله باسم المسيح، لأن المسلمين يستهلون كتبهم باسم محمد، وقام بفصل الرجال عن النساء في الكنائس وهو يمتدح في المسلمين إخلاصهم لدينهم وأراد أن تتلى أسماء الله في الكنائس كما يرتل المسلمون القرآن في المساجد وهو يؤكد في كتابه «بلا نكرنا» أنه ألف كتاب «الصديق والمحبوب» على طريقة الصوفية، ولا يبعد أن يكون ألف على نهج ترجمان الأشواق لابن عربي.
التصوف في المغرب الأقصى:
إن تاريخ المغرب هو تاريخ سيادة التيار الصوفي بتعبيراته المختلفة، ولم يشكل هذا التيار محاضن للتربية الروحية فقط، بل محاضن للجهاد أيضا، فلقد كانت الممارسة الصوفية هي الشكل السائد للتدين في المجتمع المغربي وذلك من خلال الرعاية الرسمية للدولة. مر التصوف في بلاد المغرب الأقصى بمرحلتين : مرحلة التبعية؛ حيث تم إدخال التصوف ابتداء من القرن الحادي عشر الميلادي من قِبل حجاج الأماكن المقدسة، ومن الصعب الحديث في هذه الفترة عن تصوف “مغربي”؛ لكون أهم الصوفية المغاربة -أمثال أبي يعزى يلنور، وابن عربي، وعلي بن حرزهم- كانوا شرقيي الصوفية. ومرحلة “مغربة” التصوف التي دشنها عبد السلام بن مشيش، الذي رغم أنه درس على يد أئمة الصوفية التابعين -كأبي مدين الغوث وعلي بن حرزهم- فإنه لم يسلك مسلكهم؛ بل سعى إلى التميز عنهم، وقد أكمل تلميذه أبو الحسن الشاذلي مرحلة “مغربة” التصوف لتصل ذروتها مع محمد بن سليمان الجزولي.
انتشار التصوف في المغرب في البداية كانت تهدف أساسا إلى نشر الإسلام فيما وراء الحواضر؛ حيث بدأ منذ القرن الثالث عشر الميلادي يتوغل في الأرياف.
وبدءا من القرن الرابع عشر الميلادي انتقل التصوف من الإطار الدعوي إلى الإطار السياسي، وبدأت المعالم الأولى للطرق الصوفية تتشكل في العهد الموحدي ليكتمل هذا التشكل مع أبي عبد الله محمد بن سليمان الجزولي الذي يعتبر مؤسس أول طريقة صوفية في المغرب جراء التحولات التي طرأت على بنية المجتمع. ويمكن القول بأن الطرق الصوفية أصبحت ابتداء من القرن الخامس عشر الميلادي مؤهلة لتزويد البلاد بنظام الحكم.[32] وبلغت الزاوية أوج قوتها عند مبايعة شيخ الزاوية الدلائية سلطانا على المغرب. امتدت الصوفية المغربية إلى ما وراء الحدود، فتأسست بمختلف أقاليم الشمال الإفريقي ـ بل وحتى في مصر – زوايا تقبس من معين الطرق المغربية كالعيساوية والتيجانية والطيبية بتونس، كما أحدث المغاربة أورادا خاصة لطرق خارجة عن المغرب مثل القادرية.[33]
يتميز المشهد الصوفي المغربي حاليا بتنوع الطرق والزوايا التي تمتد على طول التراب المغربي، من الشمال إلى الجنوب، ومن أشهرها: الطريقة الكتانية، والعلوية، والبودشيشية، والزاوية الريسونية، ومجلس أهل الله، والطريقة البوعزاوية والطريقة المعينية
ما يميز الزوايا الصوفية بالمغرب هو اتفاقها جميعا على ضرورة “الشيخ” في السلوك إلى الله تعالى، وهذا ما يثير تحفظات منتقدي الصوفية؛ لأن هناك مبالغات غير مقبولة في النظر للشيخ، والاعتماد عليه في الزاد الإيماني والمراقبة والمشارطة.
طبيعة التنشئة السياسية التي يتلقاها مريدو الزوايا والطرق الصوفية تكرس بشكل متزايد الثقافة السياسية القائمة على الانكفاء والانشغال بالدين بمفهومه الطقوسي والشعائري بعيدا عن الاهتمام والخوض في أمور الشأن العام، وبالتالي تكريس مزيد من السلبية السياسية التي تؤدي إلى تزايد عدد أعضاء التيار الديني الشعبي الموالي للسلطة السياسية، بالإضافة إلى أنها تشكل أحد الروافد الأساسية لجلب التأييد وإحياء الولاء الديني والروحي لأمير المؤمنين. تموقع التصوف عنصرا أساسيا ضمن إستراتيجية إعادة هيكلة الحقل الديني بالمغرب، وهي استراتيجية جديدة، من ضمن أبعادها تفعيل التصوف كمحدد للسلوك، بهدف مواجهة التيار السلفي الوهابي بصيغته التقليدية والجديدة، حيث اعتبرت السلطات أن مصدر الخطر يكمن في الإيديولوجية السلفية.
أول مراكز الذكر برزت زوايا أصبحت مراكز للتصوف وتلاوة الأحزاب وقراءة الأوراد والذكر. وكان أنشط هذه الزوايا:
• زاوية حي المخفية بفاس وزاوية حي العيون بتطوان، وقد أسسهما معا الشيخ أبو المحاسن يوسف الفاسي المتوفي سنة 1013 هـ.
• زاوية حي القلقليين بفاس التي أسسها عبد الرحمن بن محمد الفاسي المدعو بالعارف المتوفى سنة 1045 هـ
• زاوية تامكروت بدرعة جنوب المغرب التي أسسها عمر بن أحمد الأنصاري عام 983 هـ
• الزاوية الدلائية التي أسسها في أواخر القرن العاشر أبو بكر بن محمد الدلائي.
• الزاوية المعينية التي اسسها الشيخ ماء العينين الملقب بشيخ الاقطاب
التصوف في مصر:
اشتهرت بمصر عدّة طرق صوفيّة كانت في معظمها وافدة وليست من تأسيس المصريين، كانت تمثل مع بداية ثورة 23 يوليو 1952م نحو 3 ملايين منتسب ينتظمون في 60 طريقة، أيدت جمال عبد الناصر بوضوح في القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية والخارجية من البداية فعلى سبيل المثال وقفت مشيخة الطرق الصوفية مع عبد الناصر في صراعه ضد الإخوان المسلمين.[37] في ديسمبر 1967م سار أكبر موكب صوفي رسمي في مصر تأييدا لعبد الناصر في أعقاب هزيمة 5 يونيو 1967. وما زالت الطرق الصوفية تسير على هذا النهج حتى الآن من تأييد الحاكم وعدم اتخاذ أي مواقف معارضة له، وعدم تأييد أي قوى معارضة. وهذا كله أضعف من إقبال الناشطين الإسلاميين عليها، فلا يقبل عليها إلا راغبي الراحة النفسية والبعد عن مشكلات الواقع بكل تعقيداته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. من أهم الطرق الصوفية في مصر على مر التاريخ:
حلقات الذكر في مصر
• الطريقة القادرية انتشرت طريقته في مصر، وأصبحت هذه الطريقة أصل الكثير من الطرق الصوفيّة بمصر والمغرب.
• الطريقة الرفاعية أسّست بالعراق، ثمّ انتقلت هذه الطريقة إلى مصر عبر أبي الفتح الواسطي أواخر القرن 6ھ/12 م، وأنشأ رباطا له ولمريديه بالإسكندرية عرف برباط الواسطي، واستمر نشاط هذه الطريقة بمصر خلال عصر المماليك وانتسب إليها الكثير من أفراد المجتمع المصري.
• الطريقة السهروردية انتشرت هذه الطريقة بمصر بشكل كبير، وأصبح أتباعها يؤسّسون المدارس والربط الخاصّة بهم لنشر تعاليم طريقتهم.
• الطريقة الأحمدية: أسّسها الشيخ أحمد البدوي، الّذي ارتحل من المغرب إلى مكّة ومنها إلى مصر. لما توفي خلفه في رئاسة الطريقة تلميذه عبد العال الأنصاري.
• الطريقة البرهامية: أسّسها الشيخ إبراهيم الدسوقي (ت:676ھ/1278م)، وهو مصري الأصل والمولد، وانتشرت طريقته في مصر وبقية بلدان المشرق.
غير أنّ أشهر طريقة عمّت مصر ومنها انتقلت إلى المغرب الأوسط وإن كان أصل مؤسّسها مغربي هي:
• الطريقة الشاذلية: وهي منسوبة لمؤسّسها الشيخ أبي الحسن الشاذلي، وهو صوفي بارز الاتجاه، وأصله من شاذلة ببلاد المغرب، ووفد إلى مصر مع جملة من تلاميذه، واستوطنوا مدينة الإسكندرية حوالي سنة 642ھ/1243م وكونوا بها مدرسة صوفيّة. وكان من أشهر تلامذة أبي الحسن الشاذلي الشيخ أحمد أبي العبّاس المرسي الّذي خلفه وتولى قيادة الطريقة الشاذليّة حتّى وفاته بالإسكندريّة سنة 686 ھ/1284م، ثمّ خلفه تاج الدين بن عطاء الله السكندري المصري الّذي ألّف في مناقب شيوخه كتاب لطائف المنن.
شيخ مشايخ الطرق الصوفية بمصر حالياً هو عبد الهادي القصبي، وتأسست بمصر أول فضائية عربية صوفية هي القناة الصوفية، لنشر ثقافة “الاعتدال” الصوفي بالمنطقة.[38]
المراجع والمصادر:
1. التصّوف الإسلامي، مفهومه وأصوله فاطمة داود- جامعة مستغانم نسخة محفوظة 29 أكتوبر 2013 على موقع واي باك مشين.
2. ^ من كتاب حقائق عن التصوف، تأليف: عبد القادر عيسى، ص25.
3. ^ (كتاب اللمع) ص 46 بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود طه عبد الباقي سرور ط دار الكتب الحديثة بمصر 1960 م.
4. ^ كان آل صوفة يجيزون الحاج من عرفات أي يفيضون بهم، ويقال لهم: آل صوفان وآل صفوان وكانوا يخدمون الكعبة ويتنسّكون ولعلّ الصوفية نسبوا إليهم تشبيهاً بهم في النسك والتعبد أو إلى أهل الصفة فقيل: مكان الصفية الصوفية بقلب إحدى الفاءين واواً للتخفيف أو إلى الصوف الذي هو لباس العباد وأهل الصوامع، أساس البلاغة، كتاب الصاد 3، (34 من 60) نسخة محفوظة 13 مارس 2020 على موقع واي باك مشين.
5. ^ محمد عبد المنعم الخفاجي : الأدب في التراث الصوفي، دار غريب للطباعة، القاهرة 1938، ص 23-24
6. ^ القشيري : الرسالة القشيرية، ص 126
7. ^ تاريخ التصوف في الإسلام للدكتور قاسم غني ترجمة عربية ص 67، 68.
8. ^ كشف المحجوب للهجويري ترجمة عربية دكتورة أسعاد عبد الهادي قنديل ص 230 ط دار النهضة العربية بيروت 1980 م.
9. ^ الرسالة القشيرية لعبد الكريم القشيري ج2 ص 550 دار الكتب الحديثة القاهرة.
10. ^ التصوف لمصطفى عبد الرزاق ص 57 إلى 62 ط دار الكتاب اللبناني بيروت
11. ^ على هامش الرسالة القشيرية ص7.
12. ^ قواعد التصوف، تأليف: أحمد زروق، قاعدة 13 ص 6.
13. ^ قواعد التصوف، تأليف: أحمد زروق، ص2.
14. ^ النصرة النبوية، تأليف: مصطفى المدني ص22.
15. ^ نور التحقيق، تأليف: حامد صقر ص93.
16. ^ معراج التشوف إلى حقائق التصوف، تأليف: أحمد بن عجيبة الحسني ص4.
17. ^ خطبة ما هو التصوف؟ الشيخ محمد سعيد الجمل نسخة محفوظة 28 يونيو 2017 على موقع واي باك مشين.
18. ^ عبد الحكيم عبد الغني قاسم، المذاهب الصوفية ومدارسها، مكتبة مدبولي القاهرة، ط1، 1989-1991 ص 28 – 37
19. ^ عبد الحكيم عبد الغني قاسم، المذاهب الصوفية ومدارسها، مكتبة مدبولي القاهرة، ط1، 1989-1991، ص 28
20. ^ حقائق عن التصوف، تأليف عبد القادر عيسى، ص30.