شبهات وردود.. التكرار في سورتي “الرحمن” و “المرسلات”
د. محمد العربي
نجد في سورة “الرحمن” تكرارا لقوله تعالى: (فبأی اّلاء ربكما تكذبان) إذ تكررت هذه الآية في السورة إحدى وثلاثين مرة، ولذلك أسباب، ويمكن تسجيل الملاحظات التالية:
أولاً : إن هذا التكرار الوارد في سورة ” الرحمن ” هو أكتر صور التكرار الوارد في القرآن على الإطلاق.
ثانياً : إنه أي التكرار في هذا الموضع قد مهد له تمهيدا رائعا حيث جاء بعد اثنتي عشرة آية متحدة الفواصل، وقد تكررت في هذا التمهيد كلمة “الميزان” ثلاث مرات متتابعة دونما نبو أو ملل :
(والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) وهذا التمهيد قد أشاع كذلك لحناً صوتياً عذباً كان بمثابة مقدمة طبيعية لتلائم صور التكرار ولتألفها النفس وتأنس بها فلا تهجم عليها هجوما؛ لأن القرآن قد راعى فى فواصل المقدمة التمهيدية ما انبنت عليه فواصل الآية المكررة.
ثالثاً: إن الطابع الغالب على هذه السورة هو طابع تعداد النعم على الثقلين: الإنس والجن، وبعد كل نعمة أو نعم يعددها الله تأتى هذه العبارة : ( فبأی آلاء ربكما تكذبان ).
وعلى هذا الأساس يمكن بيسر فهم علة التكرار الذي حفلت به سورة الرحمن أنه تذكير وتقرير لنعمه وأنها من الظهور بمكان فلا يمكن إنكارها أو التكذيب بها.
فتكرار الفاصلة في سورة ” الرحمن ” يفيد تعداد النعم والفصل بين كل نعمة وأخرى لأن الله سبحانه عدد في السورة نعماه وذكر عباده بآلائه، ونبههم على قدرها وقدرته عليها ولطفه فيها وجعلها فاصلة بين كل نعمة لتعرف موضع ما أسداه إليهم منها، ثم فيها إلى ذلك معنى التبكيت والتقريع والتوبيخ؛ لأن تعداد النعم والآلاء من الرحمن تبكيت لمن أنكرها كما يبكت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها ولقائل أن يسأل: إن هذه الفاصلة قد تكررت بعدما هو ليس بنعمة من وعيد وتهديد، فكيف يستقيم التوجيه إذن بعد هذه الآيات؟
(يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران * فبأى آلاء ربكما تكذبان).
(يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصى والأقدام * فبأى آلاء ربكما تكذبان).
(هذه جهنم التى يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها وبين حميم آن * فبأى آلاء ربكما تكذبان).
وظاهر هذه الآيات بلاء وانتقام وليس بنعم.
والجواب: أن المتأمل يدرك أن فى الإنذار والوعيد للضالين عصمة للإنسان من الوقوع فيما وقعوا فيه فيكون مصيره مصيرهم.
ومن هذا الإعتبار يتبين أن هذه المواضع مندرجة تحت النعم، لأن النعمة نوعان: إيصال الخير ودفع الشر، والسورة اشتملت على كلا النوعين فلذلك كررت الفاصلة.
التكرار في سورة ” المرسلات “:
بقى التكرار الوارد في سورة ” المرسلات ” وقد صنع ما صنع فى نظيريه فى “القمر” و”الرحمن” من التقديم له بتمهيد وله مثلهما هدف عام اقتضاه.
يبد أن التمهيد يختلف عما سبق في “القمر” و”الرحمن” فقد رأينا فيهما اتحادا فى الحروف الأخيرة مع إلتزام نهج معين فيما قبله أما عدا ذلك فإن الأمر يختلف.
فقد اشتمل التمهيد على مجموعتين من الاّيات: أولاهما: لها فاصلة تختلف عن ثانيتهما وهي: (والمرسلات عرفا * فالعاصفات عصفا * والناشرات نشرا * فالفارقان فرقا * فالملقيات ذكرا * عذراً أو نذراً ) .
وختمت هذه المجموعة بقفلة فيها سرالجمال كله: (إنما توعدون لواقع).
وما قبلها مقسم به وهي جواب القسم والمقسم به متعدد كأجزاء الشرط، وذلك -كما تقدم- خصائص تعبيرية آسرة.
وبجواب القسم تنتهي هذه المجموعة ثم تبدأ المجموعة الثانية وهى: (فإذا النجوم طمست * وإذا السماء فرجت * واذا الجبال نسفت * واذا الرسل أقتت * لأي يوم أجلت * ليوم الفصل * وما أدراك ما يوم الفصل * ويل يومئذ للمكذبين ).
وهذه المجموعة تتكون من:
أولاً : شرط يتكرر أربع مرات محذوف الجواب وكله حديث عن أهوال يوم القيامة ومقدمات البعث.
ثانياً : استفهام يعتبر مدخلا لحقيقة مهمة تقودنا إلى الهدف المنشود وهو التوصل إلى مصير المكذبين يوم الدين.
ثالثاً : جواب هذا الاستفهام الذي اشتمل على كلمة: “يوم الفصل” وكانت هذه الكلمة الشعاع الذي قادنا إلى الساحة الكبرى: ساحة القضاء العادل والقصاص الحكيم ( لأي يوم أجلت * ليوم الفصل * وما أدراك ما يوم الفصل * ويل يومئذ للمكذبين ).
فانظر إلى هذا التمهيد الحكيم الذي مهد القرآن به لهذه العبارة حتى لكأنها هى المقصودة .
ثم تكررت هذه الآية: ( ويل يومئذ للمكذبين ) عشر مرات بعد هذه المرة وهي في كل مواضعها تتلو مشهدا من مشاهد القيامة، وصورة من صور الحشر أو مشاهد القدرة الإلهية.