البيان البلاغي المبتكر في أقوال الرسول الأعظم
بقلم/ رحاب عبد المنير محمد
كل كلام ينطق به البشر قابل للتصحيح والتعديل الا كلام سيد الأنام صلي الله علية وسلم فهو يتربع علي قمة دراجات البلاغة والفصاحة والبيان البشري وقد وصف الجاحظ بلاغة كلام النبي قائلا:
“ولا ينطق إلا بكلام محفوف بالعصمة”وهذا يرجع إلي أن كل ماقاله النبي إما أنه وحي أو مؤيد بالوحي فالنبي يوحي إليه بالمعني ثم يعبر عنه بالفظ فإذا جاء بلفظ لا يناسب الوحي المعنوي عدل له من الله عز وجل.
وما قال النبي كلمة إلا وهي مربوطة بالبلاغ عن الله وهذا كله جعل بيان النبي يتربع علي قمة البلاغة والفصاحة.
فلا يوجد من البشر أفصح من رسول الله لأنه مبلغ عن ربه جل علاه.
يقول النبي :”أوتيت جوامع الكلم”، ويقول أيضا: “اختصر لي الكلام اختصارا”. ويقول: “أنا أفصح العرب بيد أني من قريش”.
ومن بيانه النبوي الشريف أنه صلي الله عليه وسلم استحدث معاني ودلالات جديدة لم ينطق بها أحدمن البشر قبله ولم يدعيها أحد بعده، فكانت هذة المعاني مبتكرة من قبل النبي لأن الإبتكار في اللغة يراد به الإنشاء والإختراع علي غير مثال.
فحق لنا أن نطلق علي هذة المعاني اسم” مبتكرات النبي”.
واقتصر حديث العلماء علي إشارات الجاحظ نجده يشير إلي هذه العبارات والصيغ ويقول عنها إن النبي نطق بعبارة كذا ولم ينطق بها أحد قبله من العرب ثم يمضي ، ثم الرافعي في العصر الحديث.
ولكن كيف عرفنا أن هذه المعاني لم ينطق بها أحد قبل النبي وأنه أول من استحدثها؟
والجواب: أن الشعراء أفصح الناس الذين يملكون ذمام اللغة ويعرفون طرق ومسالك الشعر وكيف تصاغ المعاني أقروا بأن هذه المعاني لم يسمعوها من قبل ولذلك كان هذا دليل علي أنها مبتكرة من قبل النبي.
ومن مبتكراته صلي الله عليه وسلم قوله: “يا خيل الله اركبي”. قالها النبي حين أغار أربعون فارسا علي لقاح لرسول الله وأخذوا الإبل الخاصة بالصدقة وهربوا فنادي النبي في الناس قائلا: “يا خيل الله اركبي”، فقدم المقداد بن عمرو وأعطاه النبي اللواء وقال له امضي حتي يتبعك الفرسان ، ولم يسمع أحد من قبل هذه العبارة كما أشار إلي ذلك الجاحظ فهي من مبتكرات النبي اللغوية.
فالمقصود بالعبارة هلموا ، وأقبلوا، وهموا.. كلها معاني لـ “يا خيل الله اركبي”، والبلاغة كل البلاغة والفصاحة كل الفصاحة في صياغته صلي الله علية وسلم للعبارة فقد بدأ النبي بأداة النداء (يا) وهي توحي بعلو الصوت لأنه نداء.
وهنا يرد السؤال: أيكون النداء بدون علو وارتفاع للصوت؟ والجواب: لا، حتي يسمع من يستطيع أن يجيب.
أيكون النداء للخيل؟ والجواب: لا، بل إنه ينادي علي الفرسان الموجودين، فاللغة تجيز ذلك فتخاطب الدابة بخطاب راكبها.. قال تعالي : “أيتهاالعير إنكم لسارقون”.
والنداء علي الخيل يحمل عدة معان فهو يريد أن يقول: يا قوي من الناس كالخيل، يا مطيع من الناس كالخيل، يا سريع من الناس كالخيل.
وفي إضافة الخيل إلي الله معنىً وهو: أن الذي يمسك بذمام أمرك أيها الفارس هو الله وهو بذلك شبه جنود الله بخيل الله وهذا شرف عظيم.
ومن مبتكراته صلي الله عليه وسلم أيضا قوله: “هدنة علي دخن”.
وهذه العبارة تضرب لكل من عقد صلحا دون أن ينهي المظالم. وعبقرية النبي في صياغة العبارة تتلخص في أنه أتى بلفظين أحدهما من عالم الحروب والمعارك وهو “الهدنة” التي تعني المصالحة، وصاغها مع لفظ آخر من عالم الطعام وهو “الدخن”، لأن أصل الطعام أنه يوضع علي النار لإتمام إنضاجه، فإذا وضعته علي الدخان بدون نار فإنه لا ينضج ولكن يسخن وهذا يؤدي إلى فساده، فإذا أكل منه آكل هلك.
وكأن الهدنة طعام وضع علي الدخان ففسدت الهدنة لا لأنها طعام ولكن لأن فيها عوامل فساد من مظالم وحقوق لم تقض.
ومن مبتكراته أيضا قوله: “مات حتف أنفه”. ذلك أن بعض الصحابه كانوا يتحدثون في شأن موت الصحابي عثمان بن مظعون دون عله قائلين: لا شك أن من مات شهيد هو أفضل من عثمان . فقال النبي هذه العبارة موضحا بها أن أجره علي الله ولم تسمع هذه العبارة من قبل من رسول الله.
والحتف في اللغة هو الهلاك والموت. ومعني العبارة: أنه مات لموت أنفه أي انقطاع النفس، فهو من المجاز المرسل. والمعني أنه حتي لو مات بسبب انقطاع نفسه فقط فهو يستحق أجر كالشهيد.
وهذه المبتكرات باب عظيم من أبواب إثراء اللغة، ومن أبواب فتح النظم علي وجوه لم تسمع من قبل. وهذا يزيد من عنفوان هذه اللغة فهي لا تموت أبدا.
وهي بحر يضم كل ما يلقي فيه كلما وضعنا فيه شيئا زاد ولكنه ما ينضح أبدا.
وكل شيئ يضيف جديدا إلي هذه اللغة يعد من المحاسن التي تمدح.
وقضية الابتكار تكشف عبقرية اللغة في ضم الألفاظ لتحدث صورا ومعاني؛ فكلما ابتكرت في عملية الضم والربط كلما أنشأت صورا جديدة من صور المعاني.