كتب – محمد كامل :
فى قرية تبعد عن مدينة طنطا قرابة عشرة كيلومترات، رزقت أسرة الشيخ محمد على الغبارى بالطفلة بدر الصباح، وكان ذلك فى العام 1248هـ، كانت قرية ميت السودان الواقعة على النيل، ملتقى لرحلات المراكب الشراعية الصغيرة والتى كانت تفد محملة بالزوار والصدقات التى كانت توزع فى مولد السيد أحمد البدوى، فينتهز أهالى القرية مرور المراكب الصغيرة كل عام ليخرجوا فى استقبالها محتفين بزوار شيخ العرب، وكانت أسرة الشيخ محمد على الغبارى من شيوخ البلدة، فعمرت الدار بتواشيح المقرئين والأذكار الدينية؛ حيث يقام احتفال المولد النبوى بالدار، فيأتى المنشدون يروون سير الصالحين وكرامات الأولياء، وأثناء الإنشاد لاحظت الأسرة التى لها أبناء ثلاثة من الذكور هم حسن وأحمد وعلى، أن الطفلة بدر الصباح
تنتابها حالة غياب أو سكر من نوع غريب؛ حيث تهيم الطفلة فى ذكر لفظ الجلالة كأنما تصعد بجسدها للسماء لاترى أحداً، وذات يوم وفد إلى القرية أحد كبار رجال الدين ويدعى سيدى أبى الحسن البيجائى.
وكان الشيخ البيجائى رجلاً متشرعاً يعلم الناس أمور دينهم، ويقضى فى أمور الناس بما يرتضيه الحق، فلما طلب الشيخ الغبارى والد الطفلة بدر الصباح أن يشرف باستضافة الشيخ بمنزله، فما إن وقعت عيناه على الطفلة بدر الصباح، حتى قال لأبيها: «هل رأيتم بدراً يظهر فى النهار؟» فتبسم الشيخ محمد الغبارى، وقال ماذا تقصد يا شيخنا الجليل؟
قال الشيخ البيجائى، صاحب المشرب الشاذولى وتلميذ المدرسة الشاذلية التى تنتمى لأحد أقطاب التصوف سيدى أبى الحسن الشاذلى: «إن لهذه الطفلة شأناً كبيراً.. فاليوم أنا شيخكم وغداً لها» ثم ترك الشيخ المنزل وانصرف، ومرت السنون، وكبرت الطفلة التى صارت فتاة. وأقبل الفتية من أهل القرية للتقدم لخطبة الفتاة.
ومع تقدم الفتية، قالت الأم للفتاة، إنَّ شاباً طيباً قدم لخطبتك، فقالت الفتاة للأم: «يا أمى ما لناش فى الجواز إحنا بتوع ربنا وأهل الله والطريق»، فلما سمعت الأم بهذا الكلام خبطت على صدرها، ثم أعادت فى يوم آخر العرض، فطلبت الفتاة بدر الصباح من أمها أن تخبر أباها بما قالته، غير أن أباها لم يعر الفتاة اهتماماً، وقال فى نفسه ربما كان خجل الفتاة من دفعها لقول ذلك، وقرأ الفاتحة مع الشاب، وبعد أسبوع عقد قرانها، فتوجه الركب لإحضار العروس التى مشطتها سيدة وأعدتها للعُرس، وركبت الفتاة بدر الصباح هودج الجمل فى طريقها لبيت زوجها، ولما دخلت الفتاة غرفة زوجها بصحبة الماشطة، فوجئت الماشطة باختفاء الفتاة، فخرجت تصرخ مهرولة، ولم يصدق أهل القرية؛ لأنهم شاهدوها تدخل غرفة زوجها بصحبة الماشطة، وحمل الرجال المشاعل؛ بحثاً عن الفتاة فى القرية كلها، ولما أنهك الأب من البحث عاد حزيناً إلى بيته، وإذ به يدخل غرفة بدر الصباح فيجد كومة ملفوفة بالسواد، فيرتعب ويسأل ما هذا؟، فتجيبه الشيخة صباح: «هذا أنا يا أبى فقد أخبرتك أننى ليس لى فى الزواج وأننى من أهل الله فاكتم سرى يا أبى فسرى مع الله لا أريد لأحد أن يعرفه».
غير أن الأب خرج مذهولاً يتحدث للناس، الذين وفدوا فشاهدوا الشيخة صباح، ومن ثم بدأ صيت الشيخة صباح فى الذيوع، فكانت تطعم الفقراء والقطط ومخلوقات الله، حتى قضى الله على يديها العديد من الكرامات وتحديداً كرامات الشفاء، فقد روت أكثر من عائلة أن الله قد أنعم على الشيخة صباح بكرامة شفاء المرضى الميئوس منهم.
ولما زاد عدد زوار الشيخة فى قريتها، طلبت الشيخة صباح من مريديها أن يتركوها؛ لأنها تود مجاورة السيد أحمد البدوى بمدينة طنطا، وعلى الفور قامت باستئجار تكية بمنطقة شارع أحمد ماهر، واشترطت أن من يعاونها يكون بهدف التقرب لله، وأنها ستكون خادمة للفقراء وتطعمهم لوجه الله، وظلت التكية مفتوحة لإطعام الفقراء، وفى الليل تقام حضرة دلائل الخيرات فى الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم. وقد ذاع صيت السيدة التى أضحى كبار القوم يأتون للتبرك بها، لكنها كانت لا تفرق بين فقير وغنى. ثم توسعت السيدة فى إنشاء تكية أخرى تجاور السيد أحمد البدوى فكان لها تكية ثانية.
ويروى الحاج على زين العابدين أبوالوفا، أحد أقارب الشيخة صباح، أن هذه التكايا كانت مفتوحة للفقراء وأصحاب الحاجات، وكانت للشيخة خلوة خاصة تصعد إليها بعد صلاة العشاء وليس مسموحاً لأحد أن يدخل خلوتها، ولا أن يفتح بابها. ثم توسعت فى إنشاء تكية أخرى بمنطقة شارع سعيد.
ثم قامت الشيخة صباح بشراء قطعة أرض بمنطقة شارع الجيش بمدينة طنطا، شارع البحر حالياً، وكان هذا فى العام 1903م. اشترت قطعة أرض بمساحة ربع فدان من عائلة تسمى طقطمش، وأعلنت لمريديها أنها ستبنيها مسجداً، وتكية للفقراء، وأنها ستكون مأوى لكل الفقراء الباحثين عن طعام أو كسوة، ثم حددت يوماً لوضع حجر الأساس، وقد حضر فى تدشين البناء الشيخ إبراهيم الحديدى من هيئة كبار علماء الأزهر الشريف والشيخ إبراهيم الظواهرى شيخ المسجد الأحمدى فى هذا الوقت، وقالت الشيخة صباح أثناء وضع حجر الأساس: «بسم الله الرحمن الرحيم بنيت هذه التكية لإيواء الفقراء والمساكين». ثم طلبت الشيخة صباح أن تبنى قبة بجانب التكية، وقالت إن مرقدى سيكون هنا.
فكانت التكية مقصداً لجميع المرضى الميئوس من علاجهم، حتى وصل صيتها لأسرة الخديوى فكانت بعض أميرات القصر تأتى لزيارتها والتبرك بها، وقد روى الشيخ محمد السيد أبوالوفا فى كتابه إشراق الصباح فى التعريف بنور الصباح، أن الله قد أجرى على يديها كرامات الشفاء من الصرع والعقم، وكانت تشترط فى أن الولد الذى ستلده السيدة التى تطلب من الله الشفاء أن يسميه الأب باسم السيد المندوه. وروى أن سر الأولياء مع الله هو إخلاص القلب ومعرفة الاسم الأعظم لله وهى خصيصة اختص بها صفوة عباده.
كانت الشيخة صباح فى حياتها مثالاً للذى باع نفسه لله وخدم الفقراء والمرضى وكان يفد إليها كل المصريين مسلمين وأقباطاً لا تفرق بينهم فى المعاملة. إلى أن اصطفاها الله لجواره فى يوم الاثنين الموافق 10 جمادى الآخرة سنة 1327هـ. وظل مسجدها كما ترى هو مأوى للفقراء والمحبين للست.
إنَّ الكرامة الأشهر التى تتردد بين مريدى الشيخة صباح هو ما ذكره الشيخ محمد السيد أبوالوفا حيث قال فى مؤلفه: «وقد رأيت بنفسى فضيلة الإمام الأكبر الشيخ سليم البشرى شيخ الجامع الأزهر فى زيارة لها عقب خروجه من مشيخة الأزهر أول مرة وبصحبته فضيلة الشيخ إبراهيم الظواهرى شيخ المسجد الأحمدى ومعهم الشيخ إبراهيم الحديدى من هيئة كبار العلماء، وقد كان فى نفس الشيخ البشرى أن يطلب إليها الدعاء له حتى يعود إلى مشيخة الأزهر لأنه خرج منها بوشاية عند أمير البلاد، لكن عندما دخل إليها صافحته وهى تقول له أهلاً بشيخ الأزهر وبشرته بالعودة ثانية، فلما عاد للقاهرة جاءه رسول يطلبه للقاء الخديوى الذى تفهم الوشاية وأمر بإعادته إلى مشيخة الأزهر ثانية.
الكرامة المتداولة بين مشايخ المسجد هى كرامة رد مظلمة الشيخ صلاح مؤذن المسجد فترة الثمانينيات، فقد تم عمل محضر كيدى للشيخ صلاح مؤذن مسجد الشيخة صباح، وتم تحرير غرامة قدرها جنيه واحد، فشكا الشيخ أمره للشيخة صباح، ورغم أن أهالى المنطقة تطوعوا لدفع الغرامة، فإنَّ الشيخ رفض أن يدفع أحد الغرامة؛ لأنه مظلوم وقال للجميع كيف أظلم وأنا مؤذن مسجد الشيخة صباح؟
الحاج على زين العابدين سلطان قريب الشيخة صباح من جهة الأم يقول: «كنت وقتها فى المرحلة الإعدادية، وفوجئت بالشيخ يقول للمقام فى صوت ذليل أنت تتحملين هذه الغرامة؛ لأنك لن تقبلين ظلمى». وبينما الشيخ صلاح المؤذن بمنزله جاء عامل المسجد يخبره بوجود زوار، فاصطحبنى لأنه كان كفيفاً وذهبنا للمنزل وفوجئنا بزائرة تشير على الشيخ صلاح وتقول: «هو الرجل الذى رأيته فى المنام، – واستكملت – أنا من القاهرة وجاءت لى الشيخة صباح فى المنام وطلبتنى لزيارتها وأمرتنى أن أضع جنيهاً فى ظرف وأغلقه ثم أسلمه للشيخ صلاح المؤذن».