الإيجابية الواجبة في ظل هذه الجائحة
بقلم/ د. محمد جمال أبو سنينة
قاضي محكمة الاستئناف الشرعية – فلسطين
الحمد لله الذي جعل الإيجابية في الحياة من أهم المهمات، والصلاة والسلام على صاحب العزيمة التي لا تفتر، وبعد:
إنّ الوباء الذي حلّ على البشرية في وقتنا الحاضر، والذي يُعرف بفيروس كورونا المستجد، ليس كباقي الأوبئة؛ فقد اضطرت العديد من حكومات أنّ تواجه خطر انتشاره بفرض إجراءات احترازية منها الحجر المنزلي وذلك للحد من انتشاره وتفشيه.
وببقاء الأسر في الحجر المنزلي، لجأ البعض إلى متابعة الأخبار المتعلقة بالإصابات والوفيات، وهي بلا شك أخبار مزعجة، ولذلك برزت بعض السلوكيات والأفكار السلبية التي تأثر على صحة الإنسان ومناعته.
إنّ هذه الأزمة فرصة غالية لتجديد الحياة، ومحاولة فهم الآخرين بشكل أعمق، فهناك مساحة كبيرة للبقاء معاً والتعارف من جديد بعيداً عن ضغط الحياة اليومية المعتاد، ولذلك يجب استغلال هذه الفترة بشكل إيجابي وإعادة ترميم العلاقات والدفء بين الزوجين والوالدين والأبناء، وعلى من حولهم بشكل عام.
ويترتب على هذا أن يكون الواحد منا متمتعاً بالإيجابية التي تعني التركيز على ما يملكه الشخص، والوعي بالوقت الذي يكون سعيداً فيه، والشعور بالامتنان بما لديه، والتفكير بخلق واقع متفائل في أكثر المواقف إيلاماً، وأن يكون عنصراً مفيداً في مجتمعه، قادراً للتطلع إلى المستقبل بثقة كما أمر ديننا الحنيف، وهذا يحتاج أيضا إلى استذكار الأزمات التي مرّت عليه في حياته، وكيف استطاع تخطيها، فيكتسب الثقة التي تخلق الأمل على تجاوز الأزمة التي نحن فيها، فالإنسان الذي يثق في قدراته، ويشعر بأهميته، إنسان على جانب عظيم من الإيجابية التي تحفزه للتطلع إلى المستقبل، وتبعث فيه روح الطموح، وهذا ما يجب أن تكون عليه الأمة بكليتها.
إن الإنسان الذي يفكر بطريقة سوية، وينظر إلى المستقبل نظرة إيجابية، يمتلك قدرة أكبر على ضبط النفس، ويتمتع بصحة نفسية جيدة، يستطيع حل المشكلات والتغلب على الضغوط، بينما صاحب النظرة السلبية إلى الحياة والمستقبل يشعر بهبوط عام في الروح المعنوية، وتناقص مستمر في الدافع للعمل يصاحبه الحزن والتوتر والقلق وعدم الرضا والقنوط والعزلة عمن حوله.
فالإنسان الإيجابي عندما تعرض له مشكلة يفكر في الحل؛ فهو يرى أن كل مشكلة لها حل، أما الأنسان السلبي فهو يرى أن المشكلة لا حل لها، بل يرى مشكلة في كل حل. الإنسان الإيجابي لا تنتهي أفكاره والسلبي لا تنضب أعذاره، الأنسان الإيجابي يرى في العمل والجد أملاً والسلبي يرى في العمل ألما. الأنسان الإيجابي يصنع الأحداث والسلبي تصنعه الأحداث، والإنسان الإيجابي ينظر للمستقبل والسلبي يخاف المستقبل، كما أن الإيجابي يزيد في هذه الدنيا أما السلبي فهو زائد عليها وهو هو حال كل فرد مسلم أو هذا يجب أن يكون.
لقد بقيت النظرة المتفائلة إلى المستقبل في أذهان وعقول المؤمنين طوال سنوات البعثة، يروي غراسها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بأحاديثه، التي تبشر بأن هذا الدين سيشمل الأرض كلها، ويصل إلى مشارقها ومغاربها، لتبقى آمال الأمة حية لا يتسلل اليأس إلى قلوب أبنائها، عندما تدور عليهم الدوائر، ويتنكر لهم الزمان.
فمن أولى علامات المؤمن أنه إنسان إيجابيٌّ، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا سمِع فزعاً في مكان يكون أول إنسانٍ يسعى لإنقاذِ هذا المفزوع، ولم يقل: الناس كثير، بل كان صلى الله عليه وسلم أسبق الناس إلى كل خير.
والناظر إلى أوصاف الأمة- التي هي خير أمة- يرى أنها أوصافٌ تدل على أنها أمةٌ إيجابيةٌ، تدرك أن لها في الحياة رسالةً، وأنها لم تأتِ إلى الدنيا لتعيش كما يعيش الأنعام، ثم تخرج بلا أثر، إنما هي أمةٌ جاءت لتترك وليترك كل فرد منها بصمتَه في الحياة، لا يموت المسلم إلا وقد ترك أثراً إيجابيّاً في الدنيا من حوله، ليست أمةً خانعةً، ولا أمةً سلبيةً، ولا أمةً غارقةً في العسل، همُّها الطعام والشراب والمتاع، وإنما هي أمةٌ لها رسالتها.
إن من ركائز النظرة الإيجابية للمستقبل وتجلياتها الواضحة في الشخصية المسلمة السوية التي شكَّلها الرسول صلى الله عليه وسلم ما يلي:
- بناء الثقة بالنفس: فالذي يثق في نفسه وقدراته، ويشعر بأهميته في لمجتمعه وأمته، إنسان على جانب عظيم من الإيجابية التي تحفزه للتطلع إلى المستقبل، وتبعث فيه روح الطموح. والأحاديث التي تبني هذه الثقة العالية بالنفس، وتؤكد أن لدى كل إنسان شيئاً يعطيه لإخوانه، ويتحمل بذلك قسطه من العطاء والإنجاز الإيجابي الدائم كثيرة، منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم ” اغتَنِم خمْسًا قبْل خمس: شَبابَك قبل هِرَمِك، وصحَّتكَ قبل سِقَمِك، وغِنَاءَك قبل فَقْرِك، وفَراغَك قَبلَ شُغلِك، وحيَاتَك قبْل مَوْتِك”، وقوله صلى الله عليه وسلم : “الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ..”، وقوله صلى الله عليه وسلم: ” إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ”.
- التوبة الصادقة وتجديدها: التوبة الصادقة باب واسع للولوج إلى المستقبل والإبداع فيه، والتخلص من أوزار الماضي وضغوطه، كما أنها علاج ناجع لكثير من الأمراض النفسية التي تصيب الإنسان بالعجز، وتشل فيه إرادة الخير، لأنها تعطيه الأمل الجميل في الغد، وتمنحه فرصة التراجع عن سلبيته وتعويضها بإيجابية نافعة يظهر أثرها الطيب في عمله المستقبلي، قال تعالى: ” إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا “، وقال: ” إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا”.
3 ـ استثمار الإمكانات المتاحة في الوقت المناسب: وضرورة استغلال الوقت إلى أقصى حد وعمارة الساعات بالخيرات وتسخير جميع الإمكانات المتاحة لتحقيق الأهداف وإنجاز الأعمال دون كسل أو تسويف.
4 ـ الدعاء وحسن الظن بالله والتوكل عليه: وهذا باب عظيم من الأبواب التي فتحتها السنة النبوية للمسلمين، حتى تظل نفوسهم سليمة من أمراض اليأس والقنوط، وسليمة من أسقام الاكتئاب والحزن، لا تستسلم لمصائب الدنيا، ولا تنحني لنوائب الدهر، بل تعمل بجد يملؤها الأمل في أن الله سبحانه وتعالى لن يُضيع جهدها ما دامت متوجهة إليه في كل وقت وحين، حتى لو كانت الظروف المحيطة صعبة أو رهيبة.
5 ـ صناعة المستقبل مسؤولية الإنسان: ما سيأتي به الغد هو حتماً نتيجة طبيعية لمقدمات اليوم، لذلك يتعين على المسلم أن يتحرى الصلاح في كل شيء، ويتتبع مواطن الخير والحق، وهو على يقين من أن الآتي نتيجة لما قدم. فهذا اليقين يحرر المسلم من عقدة الخوف من المستقبل، ويمنعه من أن يتطلع إلى الغيب من الطرق الملتوية التي تفسد العقل وتعطل العمل فلا بد من الأخذ بالأسباب. فكما نختلف كأفراد في إيجابيتنا نحو الأحداث المحيطة، كذلك تختلف المجتمعات، هناك مجتمعات خاملة كسولة في تعاملها مع الأحداث، كما في الأفراد تمامًا، فالمجتمعات التي يتميز أفرادها بـ(الإيجابية) وروح المبادرة نجدها أكثر تقدماً وتطوراً من مثيلاتها التي يفتقد أصحابها لهذه الصفة، فـ(الإيجابية) هي طريق النماء والازدهار، الكثير والكثير من الشخصيات الناجحة حولنا لو تتبعنا قصص نجاحها نجد أن روح المبادرة لعبت دورًا أساسًا في بلوغ هذه الشخصيات ما وصلت إليه من مجدِ وفخرٍ، فلم يقف أمامهم عائق أو حاجز يعيق بينهم وبين ما حدَّدوه لأنفسهم.
وتأسيساً على ما تقدم فإن أهم ما يميز المسلم الإيجابي ما يلي:
- يتعامل مع الأحداث والمواقف بحذر، فهو لا يتعجل الأحكام ولا يقدم رأيه إلا بعد روية وتمحيص، ولا يخالف رأي أهل العلم المختصين، بل يزن الأمور بميزان الشرع، فما وافقها أخذ وما خالفها ترك.
- إن الإيجابي في زمن الفتن، يمسك زمام نفسه ويلجم لسانه عن الإشاعة ويتحرى الصدق، يتأمل حكمة الله فيما قدّره وكتبه على عباده من الفتن، التي قدّرها لحكمة وكتبها لعلم يعلمه سبحانه.
- في المصائب التي منها الموت والمرض والهموم والغموم، يكل المسلم الأمر إلى الله، ولا تقعده المصيبة عن العمل، ولا تقعده الهموم عن بذل الجهد، لعلمه ويقينه أنها قدرت عليه قبل خلق السماوات والأرض.
- وأهم ما يميز المسلم الإيجابي أنه ذو همة عالية، يرمق أعلى الجنة وهو يعمل، ويتطلع إلى موافقة النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمر ونهى، قال الإمام الجنيد رحمه الله: “عليك بحفظ الهمة؛ فإن الهمة مقدمة الأشياء”، وقال بعض الصالحين: “إذا فتح لأحدكم باب خير فليسرع إليه، فإنه لا يدري متى يغلق عنه”.
وبناء على ما تقدم فإن على كل واحد منا دور يجب القيام به، حتى يُساهم في بناء مجتمع إيجابي فاعل وحتى نتجاوز هذه الجائحة التي أصابت العالم أجمع، وأنصح بما يلي:
- أن يقوم الفرد ببناء أجواء إيجابية داخل أسرته أولاً، ومن ثمّ مجتمعه القريب منه، وذلك من خلال التمسك بالقيم والمبادئ الأصلية.
- الالتزام بالإرشادات الصادرة عن الجهات المختصة وعدم مخالفتها.
- عدم الإضرار بالآخرين.
- تعزيز الشعور بالمسؤولية تجاه نفسه وتجاه الآخرين.
- إدخال السرور على نفوس الآخرين وطمأنتهم بالقدرة على تخطي هذا الوباء.
- حث الآخرين على التفاعل الإيجابي مع الأحداث وعدم الاستهتار.
- الثناء على جهود الآخرين، سواءً كانوا أفراداً أو جهات حكومية مختصة، وعلى أدائهم الجيد، وعدم وضع العراقيل أمامهم.
- المبادرة الى عمل أنشطة ونشرات تثقيفية من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، لتعزيز مفهوم التفكير الإيجابي، مما يُساعد على خفض مشاعر التوتر والقلق لدى أفراد المجتمع.
أخيراً: يظل الشعور بالعجز والافتقار إلى الله تعالى وعونه وتسديده هو العامل المحرك لكل أسباب هذه الإيجابية، فبقدر إظهار الذل لله تعالى واستمداد العون منه، بقدر ما ينال التوفيق والإعانة، قال تعالى: “ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذُنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُو الفضل الكبير”.
نسأل الله جل في علاه أن يرزقنا نيةً صالحةً، وعملاً مباركًا.