الأفلام الوثائقية.. أداة لتقصي الحقائق ومِنْ ثَمَّ التأريخ
بقلم/ د. نجلاء الورداني
إن السينما والتلفاز والإذاعة ليست مجرد وسائل لتقديم فن شعبي يستقطب الجماهير بأنماطها المتعددة، وإنما خطابًا مرئيًا يحمل في طياته صناعة تاريخية بفلسفة الواقع؛ فمثلًا المخرج السينمائي الفرنسي “جان كوكتو” “Jean Cocteau” يرى الأعمال الفنية كتابة على الشاشة نسجل من خلالها حركة التاريخ والمجتمع. ولا تقف أهمية الصورة السينمائية بالنسبة للتاريخ عند هذا الحد؛ بل إنها قد تصبح دليل إثبات الشيء من عدمه.
ولعل هذا هو ما حدث بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ودحر الحلفاء بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية لدول المحور بزعامة ألمانيا النازية. فقد قام القاضي الأمريكي المكلف بمحاكمة زعماء النازية ولأول مرة في التاريخ الإنساني بعرض مجموعة من الأفلام الوثائقية عن الحرب وقع تصويرها من الطرفين، وفي مناطق مختلفة من ساحات القتال الحقيقية لتلك الحرب الكونية الدامية.
وقد اعتبر غالبية الخبراء أن هذه الأعمال والأفلام بمثابة وثائق واقعية تاريخية، أي أنها عبارة عن حجة إثبات لاتهام قادة النازية بما قاموا به من أفعال وجرائم وحشية. وبالتالي أصبحت الصورة الفيلمية الوثائقية ليس فقط وثيقة، بل أداة للتقصي والمحاكمة في جرائم الحروب والنزاعات.
وخلافًا للمؤرخين الكلاسيكيين الذين أغفلوا قيمة الخطاب السينمائي، ينهل المؤرخون المعاصرون من هذا الخطاب باعتباره وسيلة مهمة لتمثيل الواقع؛ ومحاولة جادة لإعادة استقراء وقائع تاريخية حدثت بالفعل.
أنها حقًا لفرصة عظيمة لترى الأجيال الحالية واللاحقة رأي العين أحداثًا ظلت حبيسة كتب التاريخ أو تصورات زائفة وموجهة خالية من الحقائق والواقعية. ولهذا فبواسطة الأعمال الفنية التاريخية نستطيع تنشيط ذاكرة التاريخ، أو الحديث عن ما يمكن تسميته التاريخ المرئي أو المنظور بكل ما يعنيه ذلك من هاجس الموضوعية في إعادة رسم الأحداث كما كانت بالفعل أو تصويرها وتوثيقها كما هي حاليًا لتصير مرجعًا مرئيًا لغيرنا من الأجيال التالية لنا. وذلك سعيًا منا لتنفيذ مقولة “إن الصورة قد تغني عن آلاف التعاليق والنصوص المقروءة”.