تعانق الذات والوطن في ديوان (ما عاد سرًّا) للشاعر محمد الشرقاوي
بقلم/ د. صبري فوزي أبو حسين
أستاذ الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات
بمدينة السادات وعضو اتحاد كتاب مصر
ما زال الشعر العربي الكلاسيكي يمتد ويتطور من جيل إلى جيل، وفي كل عصر ومصر، حتى آننا هذا!
وما زال يشرق بنوره الثابت الركين الرصين، فيصهر القلوب والعقول، في بوتقة الحضارة المصرية الخالدة، والحنيفية العربية الماجدة، وما زال يأخذ بأيدينا إلى مدارج الكمال في كل جنبات الحياة، فيحيينا ويبنينا، وينقذنا من التمرغ في مهاوي التيه والسقوط والضلال، ومستنقع الآثام والجهالة، وملذات الجسد بكل ألوانها، مستعينًا بالقيم الإنسانية العليا التي جاءت بها الأديان السماوية لهداية العالمين.
ما زال ذلكم الفن الخالد القائد حاضرًا بالساحة الفنية رغم ازدحامها بالزبد والأصفار، في الروابط والأندية الأدبية، وفي الجرائد والمجلات، وفي الجوامع والكنائس والمعابد، والمدارس والمعاهد والجامعات وفي المطبوعات والدوريات، وفي مواقع التواصل الاجتماعي الإلكترونية، بفضل كوكبة من أصفياء الوطن، وخلصاء الأمة: إبداعًا وتنظيرًا وتحفيزًا.
وقد سار في ركبهم سيرًا حيًّا وحيويًّا ذلكم الإنسان الصعيدي، معلم الفرنسية، محمد أبوالعلا الشرقاوي، صاحب النكهة المميزة بين جيله ورفاقه، المعبر عن كل محمدة ومنقبة، الراصد لكل جميل نبيل منير مضيء فينا وحولنا، هاتفًا لجيل جديد، باثًّا الأمل، مشعلاً جذوة الفخر والحماس في بني وطنه على اختلاف أهوائهم، مقدمًا نفثات غيور وصرخات مهموم مكلوم، ذابت نفسه واكتوت للواقع الأليم في تعابير بيِّنة حرة صارخة.إنه شاعر جماهيري التوجه، يكاد يصل شعره إلى كل متلق بسهولة ويسر، شاعر عرف كيفية الوصول السريع إلى الناس في اللحظة المناسبة… وليست تلك مبالغات لا واقع لها؛ فقد عاشرت “الشرقاوي” الشاعر والإنسان، فوجدته رجلاً حركيًّا لا يكسل ولا يخمد، يسير حاملاً سيفَه/ قلمًه، منتقلا من ميدان إلى ميدان، ومن نادٍ إلى ناد، معه كتيبة من الشعراء والنقاد الشباب الذين يتابعهم ويتابعونه بكل ما أوتوا من معارف وملكات ثقافية وحياتية، إنه يحيا ضمن ثلة يجمع بينهم حب الشعر وإقامة عكاظه بين أبناء العروبة، وإثبات حضوره في الإعلان عن إنجازات الوطن، وابتلاءات الأمة، داعين إلى مدائن فاضلة في محيطهم المصري، وعمقهم العربي والإسلامي في هذا الكون التائه المائج!
و قد رزقت الغوص في أنماذج من شعره خلال منتديات: اتحاد الكتاب، والأدب الإسلامي بقاهرتنا العامرة، ثم منتدى الحاكمية الثقافي، ومؤسسة الحسيني الثقافية، أنموذجًا تلو الآخر، ورأيت مدى تلقي الجمهرة المثقفة واستجابتها لإبداعه استشهادًا به ونقدًا له، ببيان حسناته وسوءاته؛ ومن هنا كانت أولى الكتابات عنه مقالاً لي منشورًا في مجلة الهلال بعنوان “سيميائية التجربة الوطنية في ديوان خيوط الشمس”.
وها هو ذا مولوده الثامن: ديوانه الطازج (ما عاد سرًّا) يرزق برعاية مؤسسة ثقافية مصرية كريمة فتطبعه وتنشره، فيجذبني ذلك الصنيع الفني والثقافي، فأقرأه في نسخته الإلكترونية قبل أن أراه مطبوعًا، فأجدني أنجذب به وفيه، فأخط تعليقات وإضاءت، وألقيها في حفل توقيعه بدار المؤسسة، فتخرج في هذه المحطات:
المؤسسة الراعية
من المسطور في تاريخ أمتنا أن رعاية الإبداع وأصحابه عادة عربية منيفة قبل الإسلام، حيث أسواقُ الأدب وقبةُ النابغة الذبياني، واحتفاءُ كلِّ قبيلة بشاعرها النابغ… ثم صارت سنةً نبويةً شريفة، حيث عنايةُ النبي-صلى الله عليه وسلم- بشعرائه وثناؤُه عليهم وإكرامُه وتوجيهه إياهم…
وظلت هذه الرعاية للإبداع والمبدعين تقليدًا عربيًّا ممتدًّا عبر الزمان والمكان إلى أن جئنا إلى (مؤسسة الحسيني الثقافية) تلك الهيئة المصرية العريقة التي لمع نجمها في سماء الأدب والثقافة والفنون الراقية، وأصبحت بحق من دعائم النهضة الأدبية في مصر والوطن العربي والعالم المحب للأدب والثقافة والسلام، فأخذت تؤدي هذه المهمة النبيلة والرسالة التثقيفية التوعوية من خلال هيئة استشارية عليا تتكون من أدباء مفلقين ونقاد جهابذة، هم: (العلامة المثقف الدكتور حسام عقل، والأزهريان الأصيلان: علي جاد الحق ولطفي السيد صالح، والدكتور الشاعر بسيم عبدالعظيم، والإعلامي الشاعر عادل عبدالموجود)، تقرأ الأعمال الأدبية قراءة فاحصة، وتنتقي منها ما يصلح للطباعة والنشر، ويؤدي رسالة اجتماعية ووطنية وعروبية هادفة، ومن ثم يكون نشر الإبداع لشباب وكبار مبدعي ومبدعات مصر والوطن العربي قائمًا على رؤية نقدية جماعية مؤسسية واعية. ومن هذا الإبداع الذي حظي بهذه الرؤية النقدية الفريدة ديوان الشاب الأربعيني، الصعيدي، معلم الفرنسية: (محمد محمود محمد أبو العلا الشرقاوي): (ما عاد سرًّا)، فشكرًا هذه الدار المصرية الخاصة على هذه الخطوة الثقافية الرائدة؛ ففي ظلال هذه الرعاية الفريدة للإبداع يجري نيل الشعر في وطننا، وينطلق من تربة طيبة التلقي، فيجري صافي الماء، عميق المجرى، طيب الإنبات، خيِّر الثمار، فينانَ العطاء …
بلاغة العنوان:
(ما عاد سرًّا) جملة فعلية منفية/ محذوفة الفاعل، تدفع المتلقي إلى السؤال:ما الذي ما عاد؟ أو من الذي ما عاد؟ وهو عنوان يدل سمة أساسية في بناء تجارب الديوان، وهي الوضوح والجهارة والجراءة في الإبداع، بوصف الواقع، وكشف الحالة، وتصويرهما إيجابًا، وسلبًا، مع تحليل ونقد غالب، وجلد حينًا.
وقد اختار الشاعر هذا العنوان، من عنوان القصيدة الخامسة والعشرين من الديوان، ومن خلال قراءتها ينجلي لنا مضمون هذا العنوان الغامض، يقول في مطلعها:
لا سامح الجبارُ أعداءَ الوطنْ سرقوا الأمانَ وأشعلوا فيه الفِتنْ
ساقوا إلى ظهر الجياع سياطَهم رسموا عصورَ الذلِّ فينا بالمِحَنْ
كتبوا مع الشيطانِ عهدًا لم تزلْ أحلامُه نسفَ العدالةِ في المُدنْ
ما عاد سرًّا ما يُدبَّر جمعُهم بل بات يُحكَى في المحافل بالعلَنْ([1])
فالفاعل الذي صار فعله واضحًا هو هؤلاء الأعداء الخائنون الفاسدون المفسدون في البلاد والعباد، الناشرون الإرهاب والتخويف والتجويع والإذلال بعلانية وخسة!
وكان نتيجة فعلهم أنهم:
دفعوا لباب القبر أشرف أمة كي تستريح بطونهم طول الزمن
يا أمة الإسلام ماذا قد جرى ما عاد فينا من عليم مؤتمن([2])
ومن خلال هذه القصيدة، وبقية تجارب الشرقاوي، تتضح السمة الفنية الأبرز في إبداعه، وهي تعانق الذات الشاعرة مع الوطن الأول مصر، والوطن الأكبر: عروبتنا وأمتنا. ومن ثم كان اختياري عنوان قراءتي هذه: تعانق الذات والوطن في ديوان (ما عاد سرًّا)…
دلالة الإهداء
جاء نص الإهداء: “إلى الباحثين عن العدل/ المهمومين بالفقراء/ المجاهرين بقول الجق”، وهو يدل على هادفية الشرقاوي، وحرصه على جمهورية إبداعه، وأنه يتغيا هؤلاء الإيجابيين في الحياة بغاة العدالة والمساواة والحق…
كشاف فني للديوان
هذا كشاف فني راصد بطريقة إحصائية لأبرز معالم الديوان العروضية، والكَمِّية، والفكرية، يعطي للمتلقي خريطة موجزة بالديوان:
عنوان التجربة | القالب العروضي | الكمِّ الإبداعي | الرؤية الفكرية |
في بحور الشعر | الرمل المجزوء[منوعة القافية] | 20بيتًا | مذهبه الشعري |
سر الجمال | تفعيلية(متفاعلن) | 46سطرًا | غزلية الظاهر وطنية المغزى |
أشواق | البسيط[موحدة القافية/قافية] | 20 بيتًا | مديح نبوي |
مصر والنيل | البسيط[موحدة القافية/لامية] | 20 بيتًا | وطنية |
طائر الأمل | الوافر[موحدة القافية/نونية] | 24بيتًا | تحية للشاعر والمحقق الدكتور محمد سالمان |
شدو الحروف | تفعيلية(متفاعلن) | 40سطرًا | وظيفة الشعر نحو الوطن |
هل من عاقل | الوافرالمجزوء[منوعة القافية] | 8أبيات | وعظ وتصوف |
لا تفرحي | الكامل[موحدة القافية/رائية] | 10أبيات | غزلية الظاهر وطنية المغزى |
قلوب من نور | تفعيلية(متفاعلن) | 61سطرًا | مدح الوطنيين الصالحين |
الفارس الفصيح | البسيط[موحدة القافية/نونية] | 20 بيتًا | تحية للباحث محمد يونس هاشم |
نصيحة | الطويل[موحدة القافية/ميمية] | 4أبيات | وعظ وإرشاد |
أخي في العروبة | المتقارب[منوعة القافية] | 16بيتًا | الحث على تحرير القدس |
لا تسألي | تفعيلية(متفاعلن) | 35سطرًا | غزلية |
الثوب الأزرق | تفعيلية(متفاعلن) | 30سطرًا | غزلية |
واحة الإبداع | الكامل[موحدة القافية/لامية] | 18 بيتًا | مدح الأديبة الكبيرة نوال مهنى |
في هواها | الكامل[منوعة القافية] | 12بيتًا | مزيج من وطنية والصوفية |
طهر لسانك | الكامل[موحدة القافية/رائية] | 4أبيات | وعظ وتصوف |
وماذا بعد | الوافرالمجزوء [موحدة القافية/نونية] | 21بيتًا | وطنية قومية |
أغصان الحب | الكامل[موحدة القافية/لامية] | 10أبيات | تحية لعائلة مصرية إسكندرانية |
قالت هيا | تفعيلية(فاعلن) | 16سطرًا | غزلية |
خجلا نتوارى | المتدارك التام[موحدة القافية/نونية] | 13بيتًا | قومية(قضية سوريا) |
القدس تنادي | تفعيلية(فاعلن) | 60سطرًا | قومية(قضية القدس) |
حين | تفعيلية(فاعلن) | 40سطرًا | اجتماعية نقدية |
ابن الجنوب | البسيط[موحدة القافية/نونية] | 20بيتًا | مدح الدكتور والشاعر زهران جبر |
ما عاد سرا | الكامل[موحدة القافية/نونية] | 18بيتًا | وطنية وقومية نقدية |
همسات | الكامل المجزوء[منوعة القافية] | 22بيتًا | اجتماعية نقدية |
لا تحزن | الكامل[موحدة القافية/ضادية] | 4أبيات | وعظية إرشادية |
نداء الحروف | المتقارب[موحدة القافية/رائية] | 14بيتًا | تحية لصديقه: عمر عبدالحفيظ شعلان |
هنا الحاكمية | المتقارب[موحدة القافية/بائية] | 15بيتًا | تحية للسفير عبدالحميد يونس وأهل قرية الحاكمية |
المعالم الشكلية للديوان
بقراءة تجارب الديوان التسعة والعشرين، وبالنظر في هذا الكشاف الفني يتضح لنا أن به معالم فنية أساسية هي:
- الصحة والسلامة اللغوية
صار (الشرقاوي) بعد هذه الرحلة الطويلة مع الإبداع الشعري الفصيح، ومع هذا الاحتكاك بالنقاد اللغويين، رصينًا مخضرمًا، وأضحى خبيرًا بتجويد شعره وتنقيحه لغويًّا، فلا تجد هفوة لغوية، ولازلة نحوية، ولا شذوذا صرفيًّا. بل تجد الصحة والسلامة في ألفاظ وتعبيرات الشاعر صرفيًّا ومعجميًّا ونحويًّا.. وكل ما في الديوان من ملاحظات في هذا الجانب تكاد تكون طباعية في المقام الأول، لا سيما في ضبط الأشعار، مثل لفظة(الموانئ) في عجز مطلع قصيدة (في بحور الشعر) الذي طبعت بالهمز وصوابها إبدال الهمزة ياء لأجل القافية، وفي البيت الثاني من القصيدة نفسها نجد (حتى تُسْمَعُ) والصواب: (حتى تَسْمَعَ)، وفي البيت الرابع من القصيدة نفسها نجد (إن هُجِرْتَ الشدو) والصواب: (إن هَجَرْتَ الشَّدْوَ)، وفي البيت السابع من القصيدة نفسها نجد (أرتجي أوطان عَرَبٍ) والصواب: (أرتجي أوطان عُرْبٍ). وفي البيت الرابع من قصيدة (أشواق) يقول: (إن الآلة بديع الصنع) والصواب: (إن الإِلَهَ بَدِيعُ الصُّنْعِ)، وفي ختام قصيدة(أشواق): يقول: (وأشْهدْ بحق هنا تعلوك أحداق) والصواب: (واشْهدْ بحَقٍّ هنا تَعلُوكَ أحداقُ). وفي البيت التاسع عشر من قصيدة(مصر والنيل) يقول: (نحو العلاء وأنه لنبيل) والصواب: (نحوَ العَلاءِ وإِنَّهُ لَنَبيلُ)، وفي قصيدة(قلوب من نور) يقول: (ما بقَى) والصواب: (ما بَقِي)… وهكذا تقع عين القارئ على هفوات جلية في الضبط. ومن ثم وجب على الشاعر مراجعة ضبط ديوانه! وفي قوله من قصيدة (أغصان الحب): (في وزنها فاقت لوزن جبال) تعدية الفعل (فاق) باللام، والمعهود معجميًّا تعديتها بنفسها! وكان أمامه أن يقول: (في وَزْنِها فاقتْ وِزَانَ جبالِ)، وفي قصيدة (طائر الأمل) يقول: (ولو سار المديح لكل واد لعاد يشير نحوك بالبنان) وأرى أن الصواب( بكل واد)؛ لأن الباء الظرفية هي المقصودة من سياق البيت كله.
- الثبات والتنوع العروضي
(الشرقاوي) من الشعراء الكلاسيكيين، الثابتين في البنية الإيقاعية لإبداعهم، المنوعين في إطارها، ومن خلال ما ثبت واستقر في القوالب العروضية قديمها وجديدها، حيث تغلب عليه القوالب البيتية (العمودية) في إحدى وعشرين تجربة، تنوعت بين أربع قصائد مجزوءة: اثنتان من الوافر المجزوء، وواحدة من الكامل المجزوء، وواحدة من الرمل المجزوء، وهي:[همسات/في بحور الشعر/وماذا بعد/هل من عاقل]، وسبع عشرة تامة.
وقد جاءت تجارب الشرقاوي على نسق سبعة أبحر عروضية، هي الكامل [ثماني تجارب بيتية وخمس تفعيلية، بنسبة 83،44%]، والبحر المتدارك[واحدة بيتية، وأربع تفعيلية سطرية، بنسبة 24،17%)، وكل من الأبحر: المتقارب والبسيط والوافر[ثلاث تجارب، بنسبة 34،10%]، وبحر الرمل قصيدة، والبحر الطويل قطعة. والطريف في أوزان الديوان قصيدة (خجلا نتوارى) التي جاءت على نسق المتدارك التام، في ثلاثة عشر بيتًا، وهو بحر تجاربه معدودة ، والناظمون عليه محدودون قديمًا أو حديثًا ومعاصرًا، كما أن الشاعر نظم أربعة أبيات على نسق البحر الطويل في تجربته (نصيحة)…
كما تتنوع هذه القصائد البيتية إلى ست عشرة موحدة القافية، هي: [أشواق، مصر والنيل/طائر الأمل/لا تفرحي/الفارس الصغير/نصيحة/واحة الإبداع/طهر لسانك/وماذا بعد يا وطني/أغصان الحب/خجلا نتوارى/ابن الجنوب/ما عاد سرًّا/لا تحزن/نداء الحروف/هنا الحاكمية]، وتتنوع هذه القوافي الموحدة إلى ست تجارب نونية، وثلاث رائية، وثلاث لامية، وواحدة قافية، وواحدة بائية، وواحدة ميمية، وواحدة ضادية. أما التجارب المنوعة القافية فخمس، هي: [في بحور الشعر/هل من عاقل/أخي في العروبة/في هواها/همسات].
ويلجأ (الشرقاوي) أحيانًا إلى القالب التفعيلي السطري في تجارب ثمان، وهي: [سر الجمال/شدو الحروف/قلوب من نور/لا تسألي/الثوب الأزرق/قالت هيا/القدس تنادي/حين]. وأجمل تفعيلياته في صناعة القافية قصيدته(حين)؛ فالشرقاوي فيها مهندس لغوي عروضي. وهو في كلا القالبين ثابت ركين، لا يشذ، ولا يتمرد، ولا يأتي بنشاز إيقاعي أو خروج عروضي، إلا في بعض التجارب التي اختلط فيها القالب البيتي بالقالب التفعيلي، وذلك في تجربة(سر الجمال)؛ فهي بيتية تعمد الشاعر كتابتها سطريًّا في ستة وأربعين سطرًا، وأول قراءة عروضية لها تثبت أنها بيتية، مكونة من اثني عشر بيتًا، وأنها موحدة القافية، قافيتها رائية مطلقة بالضم، مردوفة بالألف، وموصولة بالواو، أبياتها تنتهي بالكلمات:[الأوتارُ/الأطيارُ/الأنوارُ/ الأسرارُ/التيارُ/الأخطارُ /الأقمارُ/أشعارُ/قرارُ/ الأقدارُ/ حصارُ/فرارُ]، وكذا حال الجزء الأول من قصيدة (قلوب من نور)؛ فالأسطر الخمسة والعشرون الأولى منها تكون خمسة أبيات شعرية موحدة الوزن والقافية، منها، على سبيل المثال:
الراسمون
على الوجوه
الابتسام
الهادمون
بنورهم
فكر الظلام
فهذه الأسطر بيت شعري من البحر الكامل التام هو:
الراسمون على الوجوه الابتسام الهادمون بنورهم فكر الظلام
ولعل عمد الشاعر إلى هذا الصنيع راجع إلى رغبته في تنويع قالبه وتلبية عشاق شعر التفعيلة! وكان الأجدى به أن يقدم الوحدة الإيقاعية وسلامتها على هذا التنويع الكتابي الشكلي، لاسيما وهو ذو تجارب أخرى على النسق التفعيلي السطري! وفي قصيدة (قالت هيا):
لك يا عمري
ألف تحية وبلا شك
هيا هيا
وظاهر أن السطر الثاني قلق في بناء التفعيلة، والصواب أن يجعل سطرين هكذا:
ألف تحيةْ
وبلا شك
ومن الضرائر الشعرية المقبولة قوله: (والأمن شادٍ أنا عهد وميثاقُ) حيث اضطر إلى إثبات ألف الضمير (أنا) وصلاً. وقوله: (يَفِيضُ جَواهرًا عِندَ الحِسَانِ) حيث اضطر إلى صرف الممنوع من الصرف، صيغة منتهى الجموع: (جواهر)، ومثله قوله: (لم يخش إلا مصابيحًا وشجعانا). وقوله مخاطبا صاحبه عمر شعلان: (وصاحبتَ عُمْرًا كبارا شبابًا) بإسكان ميم عمر لأجل الوزن، وكان أمامه تعابير أخرى تخرجه من هذه الضرورة!
- الإيجاز الشكلي
بالنظر في تجارب (الشرقاوي) التسع والعشرين يتضح لنا أن نفَسَه الشعري قصير موجز، فليس من أصحاب المطولات؛ إذ أكبر بيتياته قصيدة (طائر الأمل) بلغت أربعة وعشرين بيتًا، وأصغرهاالمقطوعات: (نصيحة /طهر لسانك/ لاتحزن) كانت أربعة أبيات فقط! وكذا أكبر سطرياته تجربة (قلوب من نور) إذ بلغت إحدى وستين سطرًا، وأقل سطرياته تجربة (قالت هيا) إذ بلغت ستة عشر سطرًا. وفي هذا الصنيع الكَمِّي دلالة على هادفية (الشرقاوي) وجمهوريته؛ فقد كانت العرب تعمد إلى التجارب القصار لتعبر عن فكرة؛ فتوجز ليحفظ عنها الرواة/الجمهور. إنها تجارب سهلة البدء والمنتهى، ولها موضوعها المحدد، وليست ملاحم بانورامية واسعة، متعددة الأصوات، درامية الأجواء…
- الخطابية التعبيرية
النبرة الخطابية في التعبير الشعري ظاهرة بارزة في مجمل شعر(الشرقاوي)، وفي بعض تجارب هذا الديوان؛ فهو يضغط بقوة على أصوات، أو كلمة أو كلمات معينة، مما يجعل هذا المضغوط عليه أكثر وضوحًا من بقية العمل الشعري، وأكثر وقعًا في الأسماع. تجد هذا في عنوان الديوان: (ما عاد سرًّا) الذي جاء صرخة، وعناوين بعض التجارب: [هل من عاقل/لا تفرحي/لا تسألي/لا تحزن/طهر لسانك/وماذا بعد/خجلاً نتوارى/القدس لنا/هنا الحاكمية]، التي جاءت المباشرة فيها، بالأساليب البلاغية التعليمية المعهودة المكرورة.
والخطابية في الديوان نمطان: سلبية وإيجابية. أما الخطابية السلبية فهي النثرية الجافة، التي نراها في تجارب ثلاثة، هي: [هل من عاقل/نصيحة/طهر لسانك]، وأراها من شعر البدايات لدى (الشرقاوي)!
أما الخطابية الإيجابية فهي الموظَّفة فنيًّا؛ ففي قصائد [قلوب من نور/أخي في العروبة/وماذا بعد/خجلا تنوارى/القدس لنا/حين/ما عاد سرًّا/همسات/مصر والنيل] تجد تأكيد قيمة الثلة الطيبة في القلوب النورية، وضرورة المقاومة حتى تكون القدس لنا، وتتحرر عروبتنا، كما تجد النقد الاجتماعي بإظهار سوءاته، والجلْد الشعري للمقصرين والمفرطين والخائنين. وأدل قصيدة على هذا اللون من الخطابية قصيدة همسات التي تعد جلدًا لأنماط بشرية منحرفة، حيث جاءت أحد عشر مقطعًا رباعيًّا، كل مقطع يبدأ بوعيد بالويل لصنف منهم، ويل لأصحاب القصور/ويل لأنصاف ارجال/ويل لأعداء النجاح/ويل لحلف الصامتين/ ويل لمن قتل الأمل… يقول مثلاً:
ويــل لأنصاف الرجــال باعوا الكريم من الخصال
عشـقـوا المهـانة ساندوا فــكــر الظــلام مع الضلال
وفي ختامها يقول:
ويـل لـكــل الـراقصات العـاريـات العاهرات
أفسدن شعب عروبتي وجلبن أسباب الممات
وتتجلى هذه الخطابية بطريقة مناسبة لمقامها وغرضها في قصيدة الشرقاوي الوطنية الفريدة(مصر والنيل)، التي يقول في ختامها:
كيف الحفاظُ على نعيمِ حياتِنا هل فكَّرتْ فيما بحثتُ عقولُ
أم أنني سأظلُّ أبكي ما أرى وأسيرُ في كلِّ البقاعِ أقولُ:
هـيـا نــرُدُّ جـمـيـلَ نهرٍ قادَنا نــحــوَ العـلاءِ و إنـه لنـبـيـلُ
والنصحُ نورٌ للبصائرِ قائدٌ حـتـى يُضاءَ بأرضِــنا قنـديـلُ
فمن سيما الخطابية في الأبيات قوة اللهجة ووضوح الخطاب، والمباشرة في إلقاء المعاني والألفاظ؛ ليعلن عن الرؤية الإيجابية نحو النيل، والحرص على النصح والتوجيه، وإعلاء قيمته، وكثرة الضمائر الجماعية، بل إن التضمين العروضي هنا يؤدي وظيفة دلالية، حيث التصاق الحث على فعل القول، والقول، وارتباطهما، والرغبة في هذا الارتباط ظهرت في عطف البيت الرابع بالواو على ما قبله، وكذا ختم القصيدة بهذه الحكمة الإنسانية النبيلة، والغاية الوطنية الجميلة؛ مما يؤثر في القلوب، ويهز الأسماع، ويوقظ المشاعر…
وبهذه المعالم الشكلية الأساسية في الديوان يتضح التعانق بين الذات الشاعرة ووطنها، فما في الديوان من سلامة وصحة، وثبات وتنوع، وجهارة وخطابة، وإيجاز قصر، موظف كله من قبل هذه الذات لأجل الوطن، فالوطن فاعل، والذات منفعلة…
الخريطة الفكرية للديوان
بالنظر الكلي في مجمل مضامين تجارب الشرقاوي التسعة والعشرين يمكننا أن نصنفها في أنماط فكرية أربعة، هي:
أولاً: النمط الذاتي
وذاتية الشرقاوي ذات أبعاد ثلاثة:
- بعد إيماني روحي، وذلك في تجارب خمسة، هي: [أشواق/هل من عاقل/ نصيحة/طهر لسانك/لا تحزن]. وفيها يتضح (الشرقاوي) المعلم الداعية الخطيب الواعظ الصوفي.
- بعد عاطفي رومانسي، وذلك في تجارب غزلية صريحة ثلاثة، هي: [الثوب الأزرق/ قالت هيا/ لا تسألي]، وتجربتين ذاتيتَي الظاهرِ فقط، هما: [سر الجمال/ لا تفرحي]. وفيها يتضح (الشرقاوي) الشاب العاشق للجمال النسائي في حشمة ووقار..
- بعد تنظيري فني، وذلك في تجربته(في بحور الشعر) التي صدر بها الديوان؛ إذ تكاد تكون مفتاح الديوان والدليل الشعري المعين على قراءة تجاربه؛ فهي تعلن عن مذهب (الشرقاوي) الخاص في إبداع الشعر، يقول في مقطعها الأول:
في بحور الشعر أمضي عاشقًا كل المواني
أعزف الألحان حتى تسمع الدنيا الأغاني
تهتف الأسماع حبًّا: عشت يا رمز المعاني
إن هجرْتَ الشـدوَ يومًا غـاب إحـساسُ الأمانِ
فالشاعر من المحافظين على ثوابت الإيقاع، والجائلين في كل أنواع الإبداع، والمستعينين بكل ما يجذب الأسماع من أغانٍ وألحان، وهو محس بذاته، ذو أثر في قومه، يرون في شدوه أمانًا وسلامًا. وفيها يظهر (الشرقاوي) الناقد المنظِّر للشعر والشعراء.
ثانيًا: النمط الوطني:
ووطنية (الشرقاوي) ذات بعدين أيضًا، هما:
- بعد مصري جغرافي، وذلك في قصيدته[مصر والنيل]. وفيها يظهر(الشرقاوي) العاشق لمصر والنيل، والمتفاني فيهما، يقول:
يا نيل يا نبع الحياة ونورها عذرًا فإني في الوفاء بخيلُ
أيقنت أنك غاضب من قلة جارت وجور المستفيد قليلُ
- بعد مصري اجتماعي، وذلك حيث نعيش علاقات الشرقاوي الاجتماعية، داخل وطنه (مصرنا) حيث تجارب خمس مع أصدقاء معينين، هم: الأديبة المتكاملة والمثقفة الدؤوبة نوال مهنى في قصيدة: (واحة الإبداع)، والمحقق الرائع، والشاعر الماتع الدكتور محمد سالمان في قصيدة:(طائر الأمل)، والأستاذ الجامعي الأزهري، والشاعر والناقد زهران جبر في قصيدة: (ابن الجنوب)، والعالم الباحث الأديب محمد يونس هاشم في قصيدة(الفارس الفصيح)، والمعلم الداعية عمر عبدالحفيظ شعلان في قصيدة (نداء الحروف).
وتأخذ هذه التجارب المصرية الاجتماعية بعدًا جماعيًّا في تجارب ثلاث، هي:
- قصيدة(أغصان الحب) تحية لعائلة عم الشاعر الحاج عبدالعال محمد بالإسكندرية.
- قصيدة (قلوب من نور) التي جاءت غير محددة المناسبة، ومضمونها يدور على ثلة طيبة منيرة هادية صالحة مصلحة.
- قصيدة(هنا الحاكمية)، وهي تحية لمعالي السفير عبدالحميد يونس وصالونه الثقافي الكريم، الراعي للأدب الإسلامي، والمشجع للإبداع المصري، في قرية الحاكمية بمركز ميت غمر في محافظة الدقهلية…
وفي تجارب هذا النمط يظهر(الشرقاوي) الاجتماعي المقدر لخلانه وأصفيائه، والمسجل بشاعريته مكانهم وآثارهم.
ثالثًا: النمط القومي:
وذلك في أربع تجارب، تنوعت بين قومية صرفة، يربط فيها(الشرقاوي) بين ذاته ووطنه وعروبته، وهي:[أخي في العروبة/وماذا بعد/خجلا نتوارى/القدس تنادي]
رابعًا: النمط النقدي
وذلك في خمس تجارب، هي: [حين/ما عاد سرًّا/همسات/شدو الحروف/ في هواها] والنقد دائر حول سلبيات الوطن، والأمة العربية، من خلال الرؤية الذاتية للشاعر، يقول من قصيدته(في هواها):
وطني وشعبي والعروبة تشتكي حقد الخصوم على مدى الأزمان
يـا أمـتي عــودي لربك واسلكي درب النبي المصـطـفى العدنان
ويقول من قصيدة (ما عاد سرًّا):
يا أمة الإسلام ماذا قد جرى ما عاد فينا من عليم مؤتمنْ
وغدوت يا وطني بعيدًا نائمًا لما هجرتَ كتابَ ربي والسُّننْ
إني أراك اليوم تبكي داميًا وأراك تدفع عن خطاياك الثمنْ
وينحو (الشرقاوي) نحو النقد القاسي الذي يصل إلى الجلد الشعري في تجاربه:(همسات)، و(حين)، و(شدو الحروف). وهو في كل ذلك شخص إصلاحي هادئ هادف، وليس ثوريًّا تفكيكيًّا هادمًا…
وانطلاقًا من قول أبي فراس الحمداني: (الشعر ديوان العرب أبدًا وعنوان الأدب)، نرى (الشرقاوي) يجعل من شعره (ديوان مصر والعرب): مسجلاً المفاخر والمآثر، كما يوظف شعره ليكون عنوان(مصر والعرب) إلى القيم الجميلة والخلال النبيلة، هاديًا إليها، وواعظًا بها، ومسلطًا الضوء الشعري عليها، ومحذرًا من بؤر الظلام والضلال والتيه والانكسار التي تحيط بنا أو تُدبَّر لنا! فـ(الشرقاوي) في هذا الديوان مصري، عاشق مصرياته، ومحب عروبياته، ومتواصل مع محيطه الاجتماعي الخاص والعام، تواصلاً شعريًّا شفافًا صريحًا، تتعانق فيه ذاته فتتفانى في غالب تجاربه مع وطنه الأول: مصر، وتتعانق ذاته فتشعر بوطنه الأكبر:العروبة.من خلال شعر كلاسيكي محافظ مجدد، ملتزم بناء، ثابت رصين عروضيًّا ولغويًّا، ومتنوع إيقاعيًّا وبلاغيًّا. شعر مؤرخ لمبدعين مصريين معاصرين، وهيئات ثقافية مصرية معاصرة، تغافلتهم أقلام الصحافة، وكاميرات الإعلام، شعر يسلط الضوء على الإيجابي والمضيء في حياتنا وأحيائنا بوطننا مصر، حفظها الله..
([1]) ما عاد سرًّا، ص66، طبع دار الحسيني للطباعة والنشر والتوزيع، سنة 2019م..
([2]) ما عاد سرًّا، ص68، طبع دار الحسيني للطباعة والنشر والتوزيع، سنة 2019م..