التخرج
قصة قصيرة بقلم/ د. عزة شبل
سعادة غامرة فجأة دبَّت في بيت الحاج سعيد، وأقبل الأحباب والأصدقاء والجيران وكل من سمع زغرودة عنايات المتقطعة، امتلأ البيت بالزائرين يتساءلون عن سبب الفرحة التي هبطت من السماء على تلك الأسرة التي لا تفتح حتى نوافذها لدخول الهواء، لم يكن أحد في الحارة يعرف عنهم شيئًا سوى أنهم يرون الابنة كل يوم تخرج وتحمل بعض الكتب في يدها، ثم تعود في المساء، فظنوا أنها طالبة في الجامعة.
كانت صابرين فتاة قد أنعم الله عليها بمسحة من الجمال، مع استدارة في الوجه، وجسد نحيل، لم تكن عيناها تعلو عن الأرض، تسير بخطى ثابتة، وكأنها تعرف طريقها، فقد اعتادت السير كل يوم للخروج من الحارة في السابعة صباحًا مرورًا بقهوة المعلم مرزوق، الذي يرمقها بنظرات خفية، مصحوبة بتنهيدة تسمع زفيرها يزلزل الأرض تحت أقدامها، فتعتدل في مشيتها أكثر، ويتحول غصنها اللين إلى شجرة سنط مصمتة، تقول هامسة لنفسها بعد خمس خطوات سأجد الصيدلية التي أشتري منها الدواء الشهري.
وينتهي الشارع بدكان الحانوتي الذي يقع على ناصيته محطة المترو الذي تستقله الفتاة ذهابًا وإيابًا، لتعود في العاشرة مساء كل يوم حتى أيام الجمعة والأجازات.
لم تعد في حاجة للنظر لهذه الأماكن، أو لهؤلاء الجيران، فهي تعرفهم حق المعرفة، ألفتهم كما ألفوها، ومرت سنوات، ولا أحد استطاع أن يعرف شيئًا عن تلك الأسرة، وعن ذلك البيت المسكون سوى رؤية رحلة تلك الفتاة اليومية.
اندفع الزائرون نساءً ورجالاً يتهافتون على بيت الحاج سعيد تعلو وجوههم الدهشة لسماع تلك الزغرودة من الأم المريضة، فجاءوا يحملقون في كل أركان البيت الذي فُتح بابه لهم بعد سنوات، عيونهم تجري في كل الزوايا والأركان، إلى أن عثروا على كرسي متحرك يجلس فوقه رجل ضرير، تتدلى على وجنتيه بعض الشعيرات البيضاء، وتعلو وجهه ابتسامة غضة، وفرحة كشفت عن بعض أسنانه المتبقية في فمه.
لقد أتت الابنة اليوم مبكرًا عن موعد حضورها اليومي، لم يتغير شيء في ملبسها، أو مشيتها، أو نظرتها المنكسرة، لكنها اليوم لم تعد تحمل تلك الكتب التي التصقت بيديها سنوات، بل كانت تحمل ورقة صغيرة ملفوفة على شكل اسطوانة، مربوطة بشريط أحمر رفيع، وبعد أن نزلت إلى البدروم رفعت عينيها لترى الحارة وقد سكنت بيتهم، فاندفعت نحو أمها وأعطتها تلك الورقة، وهمست في أذن الحاج سعيد ببعض كلمات لم يستطع أهل الحارة سماع شيئًا منها سوى كلمة واحدة قد خمنوا حروفها من حركة شفتيها.. !!