واجب الوقت.. تجديد الخطاب الديني
بقلم/ حاتم السروي
عندما بادر السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الدعوة لتجديد الخطاب الديني؛ فإنه كان يقوم بواجبه كحاكم دولة يدين أغلب سكانها بالإسلام ويحتاجون إلى فهمٍ لصحيح دينهم بما يثمر في حياتهم ويجعلها أفضل على المستوى الأخلاقي والإنساني؛ فالإسلام جاء كديانةٍ خاتمة ليكون رسالة حياة وارتقاء وتحقيق لصالح البشرية وفقًا لمبادئ الحكمة التي بثها الله في قرآنه المجيد..
والتجديد كما هو معلوم ليس خلقًا واختراعًا، بل هو تصحيحٌ للخطأ وتقويمٌ للمعوج واتباعٌ عقلانيٌ رشيد لما كان عليه أوائل هذه الأمة؛ فنأخذ منهم القيم التي ساروا على هديها ونجمع بين الأصالة والمعاصرة، ونتبع أولاً وقبل كل شيء ما ورد في القرآن وما جاءنا من الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم بعد فهمه كما يجب دون جنوح إلى الظاهرية أو غلو في التأويل.
وكما قال أستاذنا أمين الخولي رحمه الله: ” أول التجديد هو قتل القديم بحثاً وفهمًا ودراسة، أما إذا مضى المجدد برغبةٍ مبهمة وتقدم بجهالةٍ وغفلةٍ نحو الماضي يهدم ويحطم ويشمئز ويتهكم فذلكم – وُقيتُم شَرَّه- تبديدٌ لا تجديد “.
إذن تجديد الخطاب الديني ليس – كما يعتقد البعض- مستحيلاً أو صعبًا أو يحتاج إلى كدحٍ ذهنيٍّ مرهق، بل هو ينطلق في الواقع من العلم والمعرفة والقراءة مع التدبر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يلخصه لنا الراحل أمين الخولي حيث لم يكن للتجديد عنده إلا طريق واحد هو النظر العلمي والذي لا يستقيم بغير الفهم العميق للقرآن وهو فهمٌ لا يتيسر لمن لا يتذوقون العربية؛ فيجب قبل مدارسة القرآن والوقوف على تفاسيره تعلم أصول العربية والتضلع من قواعد النحو وجماليات البلاغة.
إن كل ما يتوجب على المخلصين من أبناء الإسلام عمله هو البحث الجاد وتعلم العقيدة والشريعة والتلاوة المتأنية والمستمرة للقرآن الكريم، وهذا ما لم يحسنه أتباع الإخوان والجماعات المتأسلمة؛ فقد بدا ويبدو أنهم جمعوا بين الرذيلتين: الجهل والتعصب، والجماعة منذ بدايتها في نهاية العقد الثالث من القرن العشرين لم تستوعب علماء الشريعة فخرج منها كثيرٌ من المعممين؛ لأنها ليست جماعة علم ولم تحسن أن تكون حزبًا سياسيًا، بل وقفت بينَ بين وأضحت مسخًا مشوهًا ليست له ملامح ولا هوية.
والإسلام دين علم وتفكير يخاطب العقل دائمًا ويستحثه على التأمل ويشير بالأدلة والبراهين إلى مجموع الحقائق الثابتة التي لا يصح معها أن نرى إلحادًا ولا ملحدين؛ من هنا كان النظر العقلي لتحصيل الإيمان هو الأصل الأول، وكما قال علماؤنا: “أول واجب على المكلف هو النظر”، وإذا وجدنا مقلدًا في العقائد يردد ما سمعه أو قرأه وتبين أنه غير مستيقن بالأصول حكمنا عليه بالكفر قولاً واحدًا؛ إذ الإيمان ليس فيه تقليد ومتابعة بل هو يصدر عن قناعة شخصية تامة وإلا فلا إيمان.
والتجديد الذي نسعى إليه هو إعادة لروح الأمة وسعي إلى الحياة، وكيف تكون الحياة في ظل فقه متحجر يجعل من كل شيءٍ حراماً ما لم يصرح النص بالإباحة؛ مع أن القاعدة الفقهية التي لم يختلف عليها إمامان ونعرفها جميعنا أو أكثرنا هي أن كل شيء مباح ما لم يأتِ نصٌ بتحريمه.
إن فقه الجماعات – غير الإسلامية- فقهٌ قاصر فيه الكثير من العجز والكسل والجبن والبخل، فقهٌ خاصمته المرونة وخاصم هو الحاضر والحياة، لذلك لم يكن غريبًا أن يتبدد شملهم ويتفرق جمعهم وتُنَكَّس رايتهم ويتلاشى تأثيرهم ويكتب عنهم (ناجح إبراهيم) محللاً لأسباب تراجعهم، نعم لقد فشلوا وذهبت ريحهم وفي هذا عبرة لأولي الألباب.
والإسلام ليس لكي نرفعه شعارًا ونحن لا نفهم قصده ومُبْتَغَاه، لقد كان واضحًا مع أتباعه منذ اللحظة الأولى، وأخبرنا أنه جاء لترسيخ مبدأ الوحدانية المطلقة، وأن الله أولٌ آخر ليس له شريكٌ في الملك وقدرته شاملة وعلمه كلي وأسماؤه حسنى وصفاته عٌلَى، وأن سيدنا محمد هو عبده وخاتم رسله وأن الكعبة هي قبلة الصلاة، وبعد هذا التبيان لأصول العقيدة وضح لنا الإسلام أن الإنسان وسعادته كانا ولا يزالان هدفه الأول والأخير..
هذا الدين الذي أمر الشاب بطاعة وبر والديه، وأمره بالتعفف وغض البصر والبحث عن العمل النافع والتواضع مع خلق الله واحترام الكبير والعطف على الصغير وإعطاء المساكين وإتقان العمل واحترام الرؤساء والمديرين وحب العلم والقراءة ليس فقط في علم الشريعة بل في سائر العلوم ما كان منها طبيعيًا أو إنسانيًا.
الدين الذي قال رسوله الكريم: ” جُعِلَت البركة لأمتي في بكورها ” فرَغَّبنا بذلك في الاستيقاظ مبكرًا والسعي إلى الرزق دون تلكؤٍ وإبطاء وهو المعنى الذي ركز عليه السيد الرئيس أكثر من مرة.
الدين الذي أمر المرأة بالاحتشام والبر بالزوج وطاعته في المعروف والوفاء بعهد الزوجية وحبلها الوثيق والقيام بمتطلبات المنزل واستيعاب الرجل وتوفير سبل الراحة له في بيته، وأمر الزوج في المقابل باحترام زوجته والحنو عليها وتوفير حياة آدمية كريمة لها وللأبناء، وأمر الجميع باحترام الحاكم وطاعته تحقيقًا للصالح العام.
وبدافعٍ من وعي السيد الرئيس برسالة الإسلام الأخلاقية الحكيمة المثالية الملهمة، وبسبب تدينه الذي بدا منذ إطلالته الكريمة علينا بعد أن أنقذنا من جهل وحماقة وفوضى جماعة البؤس والفشل، جاءت دعوته المحترمة للتجديد والبعث حتى نفهم أن الإسلام تعميرٌ لا تدمير وطريق لخير الناس وليس مطيَّةً لحكمهم، وأن الخلافة الحقَّة هي خلافة الإنسان بإعمار الأرض ونشر السجايا القويمة والتزام العمل والجِدِّيَّة واحترام الحاكم الوطني ومعاونته لصالح مصر التي يهواها ويعشقها بشغفٍ بالغ حتى أنه يختم كل خطبة من خطبه بمقولة “تحيا مصر”؛ فقد توحد مع بلده وبات لا يرى غيره ولا يفكر فيما سواه.
ولقد نبهنا السيد الرئيس ومعه كل الحق أن طريق التجديد وإن تطلب منا السير على هَدْيِ سلفنا الصالح وعلمائنا الكبار لكن هذا لا يعني قبولنا الأعمى لكل ما يؤثر عنهم من تقاليد دون فكرٍ ولا تمحيص؛ فكل وقت وله أذان، والماضي هو ركيزتنا أمَّا الحاضر فهو حياتنا المتوثبة، وبالحوار الدائم بينهما يتفاعلا معاً فيثمرا المستقبل المأمول.
إن التجديد هو التمايز عما كان واختلاف اليوم عمَّا كان بالأمس لكن هذا الاختلاف لا يكون إلا بعد إلمامٍ بتراثنا وأخذ ما يفيدنا ويلائمنا من كتبه ومصادره ثم تنحية المفاهيم العتيقة البالية والخرافات التي كانت مقبولة في السياق العام عند أجدادنا قديمًا لكنها اليوم لا يمكن أن تكون مقبولة.
ونحن في أمس الحاجة إلى تجديد نستهدي به في علاقتنا مع الآخر غير المسلم ومواجهة من يقولون عن الأقباط أنهم من أهل النار حتى لو كان فيهم أهل برٍ وخيرٍ ومرحمة، وحتى لو كان منهم د. مجدي يعقوب، ومع المسلم الذي ارتد عن دينه والذي يكون مصيره القتل عند أكثر الفقهاء مع أن ثمة رأي مفاده أنه يُستتاب أبدًا ومؤدى ذلك أن يُترَك على حاله وأن ندعوه إلى الرجوع بالحكمة والموعظة الحسنة وهو رأي فقهي معتبر ولا أدري لماذا لا نطبقه فيكون لنا درعًا نواجه به من يتهم الإسلام بالدموية.
نحن في حاجة أيضًا إلى تجديد يحدد موقفنا من الأحاديث التي استدل بها المتطرفون وبيسيرٍ من القراءة تبين أن كلها ضعيفة، وهذا الضعف لم نقل به اجتراءً ومجازفة ولكن اعتمادًا على أقوال المحدثين أنفسهم، وآية ذلك تحريمهم للموسيقى بناءً على أحاديث كثيرة لم يتوانوا في ذكرها ثم اكتشفنا أن جميع ما ورد في الغناء لم يثبت كما قال ابن حزم رحمه الله، وقد عاد الإخوة المتعصبون فمسحوا كل ما قالوه في تحريم الغناء بالممحاة وأقسموا جهد أيمانهم أنه حلالٌ حلالٌ حلال، وهكذا في خطوة بهلوانية تجعلنا نشفق عليهم بمقدار ما يسلينا جهلهم.
وختامًا أقول لقد جاءت دعوة السيد الرئيس إلى التجديد كمنحة ربانية، وعلينا أن نفهم ذلك ونحسن الاستفادة من هذه المبادرة وذلك بالتركيز على مضامين الإسلام وسماحته التي دعانا إليها سواءً مع المسلمين أو مع أهل الكتاب، والتحلي بالحكمة وحسن الفهم لتعاليم الدين مع احتواء الناس والحِلم والتجرد وحب العمل والإخلاص فيه ونكران الذات وابتغاء المنفعة لهذا الوطن ومن فيه بدافعٍ من روح وطنية لا يخاصمها الدين بل يباركها ويرعاها.
ولنا مع مفهوم الوطنية في الإسلام كلامٌ كثير لن تستوعبه هذه المقالة؛ فالحديث عنها يطول، مع أن حب الوطن فطرة فطر الله الناس عليها، والحب يؤدي إلى تَوَخِّي الفهم ثم العمل بإخلاصٍ حقيقي واهتمامٍ شديد ودقةٍ محمودة وبالتالي نصل إلى الإنجاز، وحسبنا في الكلام عن حب الوطن قول رسولنا صلى الله عليه وسلم ” من قُتِلَ دون أرضه فهو شهيد “.
ولا يفوتني بالطبع بعد كل هذا أن أوجه شكري ومحبتي الخالصة لرئيسنا المخلص داعيًا له بالتوفيق ولمصرنا بالتقدم وأن تكون دائمًا في الصدارة.