الاجتهاد وقرار السعودية حول الحج!
أ.د. محمد السعيد عبد المؤمن
أعلنت وزارة الحج في المملكة العربية السعودية يوم الاثنين٢٢/٦/٢٠٢٠م أنها نظرا لشيوع فيروس الكرونا قررت أن تقيم مناسك حج هذا العام ١٤٤١هجرية بعدد محدود جدا من أصحاب الجنسيات المختلفة الموجودين في المملكة، فضلا عن أوامر خادم الحرمين الشريفين بإلغاء العمرة للمعتمرين من غير السعوديين لنفس السبب.
وقد حق لنا أن نتساءل عن مدى الاجتهاد في هذا القرار، باعتبار أن الحج فريضة، من ثم علينا أن نسلم في البداية بأن الله سبحانه قد وضع في كتابه الكريم عددا من المسلمات، يجب الوقوف عندها باعتبارها الأسس التي ينبغي أن نبدأ الاجتهاد من عندها، والأساس في موضوع الحج هو عملية إنشاء المسجد الحرام وبناء الكعبة، سببه وغايته، وما توفر له من آليات وضمانات، يقول الله تعالى: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود، وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير، وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمه مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم، ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين.(البقرة١٢٥/١٣٠).
ويمكن أن نفهم من ترتيب هذه الآيات بهذا النحو أن الهدف من بناء البيت هو أن يكون مثابة للناس وأمنا، فالهدف الأول هو المثابة وهي الرجعة إلى الله والالتجاء إليه سائلا الفضل والمغفرة، ومن ثم جاء الهدف الثاني وهو الأمن لأن الإحساس بالأمن ناتج عن المثابة، وأمن الله في مثابته أمن من كل ما يمكن أن يفزع الإنسان ويخيفه أو يخشاه من عدو أو شر أو أذى أو مرض.
وقد بدأ الله سبحانه الآية بهذا الهدف الذي يرجوه الإنسان لأنه الأولى بطمأنينته، ثم دله على الشكر وموقعه، وهو الصلاة في مقام إبراهيم، وقد اتخذ الله الاحتياطات الواجبة بأن عهد إلى إبراهيم وإسماعيل أن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود، أي في كل مكان من المسجد وكل وقت يمكث فيه العاكف والباد.
لقد استجاب الله سبحانه لطلب إبراهيم بزيادة الرحمة حيث قال: رب اجعل هذا بلدا آمنا، بل وأزاد: وارزق أهله من الثمرات. الأمن في البيت الحرام من كل شيئ أمر أكده الله تعالى في أكثر من موقع في القرآن الكريم، فهو مبارك وهدى للعالمين، وفيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا.(آل عمران٩٦و٩٧).
من ثم تكون الدعوة لزيارته بأمر من الله، وتعهد منه بالبلاغ، وحقه في الاستجابة لطلبه، يقول تعالى: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق.(الحج٢٢) فأمر الله أن تكون الدعوة للداني والقاصي، وليس لأهل مكة فقط ولا للمقيمين في السعودية فحسب، ولا يمنع عنهم أية منافع يمكن أن ينتفعوا بها: ليشهدوا منافع لهم.
بل إن إجابة الدعوة وحج البيت الحرام أصبح دينا على المسلمين، يقول الله تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا.(آل عمران٩٧).
ثم تأتي شروط من يحق له زيارة البيت الحرام، يقول الله تعالى: وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله.(التوبة٣) …. ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر.(١٧) .. إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسي أن يكون أولئك من المهتدين.(١٨)
فحيث يتحقق الأمن لا يكون لدى المؤمن خشية لغير الله مهما بلغ ضرره! فرغم أن منع المشركين من الاقتراب من المسجد الحرام قد يسبب أضرارا تصل إلى القتل، وخسارة تصل إلى الإفلاس، فإن أمن الله يكفي للمواجهة، حيث يقول تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم.(التوبة ٢٨) فالله عليم بالأضرار وحكيم في تلافيها، من ثم فالأمن مطلق لا حدود له.
كما حدد الله شعائر الحج وجعل من بينها السعي بين الصفا والمروة: إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم. (البقرة١٥٨) فضلا عن ذلك فكما وضع الله سبحانه إطارا للمناسك فقد حدد الاستثناءات،
يقول الله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب. (البقرة ١٩٦) ثم جاءت في الآيات التالية سلوكيات الحج كما أمر الله.
وقد أخرج الله سبحانه من صلاحيات من يتولى سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام التحكم في زواره، يقول تعالى: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين.(التوبة١٩) فسقاية الحاج وعمارة المسجدالحرام لا تعطي حقا لمن يقوم بها في منع الحج عن أحد دون أحد.
لو كنت في موقع خادم الحرمين الشريفين لأرسلت الرسائل إلى كل الدول لأقول لهم إني خادم الحرمين الشريفين ولست صاحبهما، وما كان لي من سلطان على منع من يريد حج بيت الله، وسأبذل كل ما آتاني الله من جهد ومال وقوة وآليات وغذاء وسقاية وعمارة في تيسير الحج ورعاية الحجاج وتوفير ما يلزمهم من رعاية بقدر ما يمنحني الله من فضله، وعليكم مسئولية تنبيه الحجاج بالتزام الحيطة في مواجهة خطر الكرونا، وهو ما ينصح بتحجيم طلبات الحج هذا العام برغبة صادقة من الحجاج وتقوى الله. ألا هل بلغت اللهم فاشهد.