ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِين
بقلم/مُحمد عُكاشة
شهرٌ ويزيدُ علي الحربْ العبثيةُ في السُودان بحسبِ وصف السيد البُرهان.. حربٌ يُكوي بنارها الشعبُ السُوداني معاناةً باهظةً ونقصٍ في الأنفسِ والاموالِ والثمرات.
حالةُ الحربُ والترويعُ وانعدامُ الأمن في الخُرطوم حدت بالكثيرين يتسللونَ لواذاُ إلي أهليّهم في مُدن السُودان المُختلفة وإلي المعابرِ الحُدوديةُ تلقاءَ مصرَ والحبشةَ مُكرهينً بلا ذنبٍ جنوه.
مِصرُ الشقيقةُ تبسُطُ ذراعيها للناجينَ من الحربِ الملعونةِ تُحسنُ وفِادتهم وتجبُرُ كسرهم في مُصيبتهم فالسُودانيون حُماةُ ظَهرها والثِقاتُ في كِتابها.
قُمتُ مُنتصفِ شهرِ مايو بترتيباتِ العودةِ إلي القاهرة حيثُ أقيمُ والتي غادرتُها مُنتصفِ شهرِ رمضان لقضاءِ عُطلةِ عيدِ الفطرِ وسطَ الأهل والحِبان والناسَ الحُنانْ.
غِيضَ أملي والحربُ تتسعرُ بلا هُدنةٍ وبلا رحمة لتنجو شقيقتي وأطفالهُا من وقوعِ قذيفةِ بمنزلهم بالفتيحات مُريع 8 وكذا يتأذي بعضُ أهلي من الرُعبُ والخوفُ والموتُ يَذّرعُ الطُرقات.
ثُم..لضروراتٍ مُلحةٍ والتزاماتُ لا بُد من العودةِ إلي مصرَ وقد بلوتُ حالَ الحربِ في الوطنِ وفي عاصمةِ البلاد أكتبُها قريباً.
أكتبُ هاهُنا هوامشُ حولَ رحلةِ العودةِ مُجدداً إلي أرضِ مصرَ ومَوقفي مُعلنٌ مُنذ إجراءاتِ الخامسِ والعشرينِ من أكتوبر في مقالاتِ مبذولةٍ لطالبها وموقفٌ مُماثلٌ من إتفاقية جوبا فأنا أعتقدُ بَحقانيةِ القائدِ عبدالعزيز الحلو يسعي الحادبونَ إن وُجدوا للحوارِ معه بشأن كيفَ يُحكمُ السُودان وليسَ من يَحكمُه.. فالحلو ليسَ كِمثلهِ جبريلُ أبراهيم وصَحبهِ ممن يتكاثرونَ عندِ الطمعِ ويَقلونَ عندَ الفَزع عِوضاً عن الرجلَ =الحلو= لهُ وجودٌ علي الأرضِ وهو يتسلحُ بالمبادئ نحو نظامِ حُكمٍ ديمقراطيٌّ يتكافأُ السودانيون فيهِ وفقَ مِعيارِ المُواطنة ثُمَ وأنني ضدَ دمجِ أيّ قواتٍ في القُوات المُسلحة حتي ولو أمتازَ أجنادُها بُقدرات “المارينز” ومعَ هذا وذاك فإن الدعوي لهيكلةِ الجيش تجدُ مندوحةً وخُروج العسكرِ من العمليةِ السياسيةِ لازمةٌ أن يستعيدَ الجيشُ هُيبتهُ..قوات الشعبِ المُسلحة..جيشٌ واحد وشعبٌ واحد.
ثم..لأكتبُ مقالتي في السابعِ من مارسِ 2023م بعنوان ” دقلوا.. الرهيفة التنقد” أؤكدُ علي أنَ التصريحاتُ الأخيرةُ للرجُلين في مُواجهةِ الإسلاميين قد تُفضي إلي ذاتِ أجواءُ فضِ اعتصامِ القيادةِ العامة قبلَ بضعةِ سنوات ولقد صَدقَ حَدسي وحدثَ ما حدث.
هذي ُقدمةُ لازمةٌ لهوامشَ عودتي إلي مصرَ أخرجُ من أمدرمان بعدَ عشرةِ أيامٍ قضيتُها وسطَ أصواتِ الرصاص فالموتُ مع ألاهل عُرسٌ ويومُ عِيد لأغادر مع الشباب أحمد..خالد واواب إلي مدينة شندي حيثُ خؤولتهم نقضي بضعةِ أيامٍ ثم إلي وادي حلفا بالطريقِ الشاقيهو التُرام.
تزدحمُ المدينةُ بالناجينَ من الاحداثُ في الخُرطوم والروحُ تكادُ تُقرقرُ في الحلقوم والحربُ تكشفُ معادنَ أهلَ السودان فأهالي وادي حلفا يَستقبلونَ الناسَ يبذّلون جَهدهم لتذليلِ الصِعاب رغم جشعِ أصحابِ البصات أغراهمُ بعضُ المُوسرين يدفعونَ لاستئجار البص بالدرهم والذهبِ والدولار.
حكاياتٌ عجيبةٌ يرويها ظُرفاء المدينةُ تُضارعُ حِكايات ألف ليلة وليلةٌ في الأيام الأولي تُضافُ إلي ما أعرفهُ من أحوالِ بعضِ الذينَ أعرفهم من عَليةُ القوم يستأجرُ أحدهمُ الباص لأهله الذين لا يُجاوزونُ تسعةَ عشرَ بملبغٍ يربو علي العَشرةِ آلافٍ من الدولارات.
نفرٌ من هؤلاء المُترفينَ في المدينةِ غادروا فورَ وصولهم مدينةُ أسوان إلي عواصمَ أخرى.
مُعظمُ المُغادرينَ إبانَ الأيامِ الأولي للحربِ يَملكونَ عقاراتٍ في أرقي حاراتُ القاهرة وفي إمتدادتها الجديدة.
خروجُ هؤلاء خُصوصاً قاطنو بحري منجاةٌ من شدةٍ البأسِ المُستمرِ.. خروجٌ لاغَضاضةَ بهِ فحِفظُ النفسِ واحدةٌ من مُقتضي الِدينِ الحنيف.
حالاتُ الخروجُ عبرَ معابرُ مصرَ تَخفُ بعدَ الأسبوعين الأوليانِ تعودُ أسعارُ التذاكرِ تتراجعُ شيئاً ما.
السُلطاتُ القُنصليةُ المِصرية في وادي حلفا يُحيطُ الشبابُ بطلباتِ الإذن بالدخول تتطاولُ مُدة منحُ التأشيرةِ وتزدادُ مُعاناةُ هؤلاء رهنَ الانتظارِ لأسبوعينِ وثلاثُ ومعُظم هؤلاء الشبابِ عبرَ ذووهم إلي الضفةِ الأخري.
في الأسبوع الرابعِ من الحربِ يختلفُ الزاحفونَ إلي أرضِ الكِنانة عما يَستطعهُ الأوائلُ غيرَ أنهم علي حالةِ يُسرٍ عن عامةِ الناس.
عددٌ من القياداتِ الوسيطةُ من الإسلاميّين يَفزعونَ إلي المَعابرِ معهم كلُ غَضٍ وغضيض من فلذاتُ أكبادهِم وأهليّهم يفتدونهم من الموتِ بأغلي ثمَن.
منَ المُغادرينَ من أتونِ الحربِ إلي مصرَ نفرٌ من المُطربين والمُغنياتُ يكادُ المرءُ بصعوبةٍ التعرُفُ إليهم فوعثاءُ الرحلةِ يمحو الأصباغُ رغمَ أنهنُ يَطربنَ يَشدينَ ..خداري ومن العِين بَضَاري.
مُغادرونَ علي طَريقِ “قسطل” يُحدثونَ عن الفظائع يرتكُبها أجنادُ الدعمِ السريع قَولاً واحداً.
في وادي حلفا وميناءُ قسطل يلفتُ الأنظار دخولُ سياراتٍ فارهةٌ في الطريقِ إلي مصرَ منها الموديلُ المشهورُ عند السُودانيين باسم “ليلي علوي” وفوقها رجالٌ تَعرفُ في وجوههم نَضرةُ النعيم وحينها يصيحُ صاحبي من الوسطاء ..ياعمِ أنا من يومِ الحربِ ديّيت.. النعيم اللي جالي ماجاليش قبل كده ولا ح يجيلي بعد كده.
ظاهرةٌ غريبةُ مثارُ حديثُ الناسِ أرقُبهُا لأول مرة في المجتمع السوداني إذ فتاتانِ من ذواتِ الثدي ومن ذواتِ الزُمامِ يثقُب الأنفِ تذودانِ تَمشيانِ بلا استحياءَ تختالانِ رفقةَ كلبٍ عَلمتُ أنه باهظُ السعرِ والتكاليفُ فصحِتُ بدوري ..الناس في شنو والحسانية في شنو.
الأشقاءُ الاقباطُ أيضاً يلحقونَ بالركب وهؤلاء مُنظّمونَ مُهذّبونَ والأقباطُ قومٌ لا يُغادرونَ أم درمانَ والوطنَ إلا “للشديد القوي” وما الشِدةُ بأكثرَ مما تعرضوا لهُ وهُم يُؤدون صَلواتهُم في خشوعٍ ذاكَ الصَباح.
في هوامشَ الرحِلةُ إلي مصرَ موقفٌ ساطعٌ فالهلالُ الأحمرُ المصري وسُلطاتُ الجوازات في قسطل والجيشُ والشرطة في ابوسمبل..إن شاء الله يُوم شُكركم مايجي.. قالها السودانيون حينَ خرجَ بص وادي النيل بكُل استهتار بدون جازولين كافٍ ليتعطل في أولِ الطريقِ لتحضرَ شرطة السياحة تُخيرهُم بين مواصلة الرحلة بعد التزودِ بالبنزين أو يتم ترحيلهم مَجاناً إلي وجِهتهم.
ثم..في مدينةِ أسوان حيثُ الحُسنُ يختالُ في الطُرقات ” خاطفُ لونين” وأسوانُ تسبيِ قلبيّ المُدنفُ منذُ “قِراية لوحي”قبل نحو ثلاثينَ سنة.
شُكراً مصرُ..وحفظَ اللهُ أهلي في حِلهم وترحالهم.