المبتهل الشيخ على الحسينى.. تجسيد حى للتضرع والطرب والوجد
بقلم: أحمد نور الدين
مدير تحرير بالأهرام
سبحان الحى الذى لا يموت، نبأ جديد آخر استيقظت عليه اليوم، مفاده وفاة الشيخ على الحسينى المبتهل بالإذاعة المصرية، صاحب الصوت العذب، الذى كان يميل بقلوبنا يمنة ويسرة، عذوبة، وتضرعا، وطربا، ووجدا فى آن واحد، وحيث فى مصر والعالم الإسلامي تهفو النفوس الى سماع الأصوات الجميلة والحسنة سواء القرآن الكريم أو الإبتهال والإنشاد الدينى، كان من هذه الأصوات الجميلة الحسنة الندية، صوت فضيلة الشيخ على الحسينى -رحمه الله-، والذى قدم من خلال إبتهالاته صورة حية مجسدة لتضرع العبد لربه سبحانه وتعالى، تكاد أن تنخلع القلوب عند سماعها، طربا ووجدانا معه، والذى يقف كقائد فوق منصة الابتهال والانشاد فى القرى والمدن ليمتع المستمعين والمحبين بصوته الجميل فى الدعاء الى الله تعالى والتضرع إليه، مادحا رسوله الكريم .
ورغم أننى لم ألتق فضيلته -رحمه الله تعالى- وجها لوجه قط، إلا أن الله عز وجل أودع محبته وصوته فى قلبى، -كما أودعها فى قلوب الملايين من محبيه- فأحببته فيه -سبحانه-، وكنت أهش وأبش وأسعد أيما سعادة عند سماعه مبتهلا بالإذاعة، لصدق أدائه، وإخلاصه الذى يفيض فى مناجاته لربه، ومدحه لنبينا الحبيب صلى الله عليه وسلم.
بيد أن الله شرفنى، وشرف جريدتى -الأهرام التعاونى- وقرائى بإجراء حوار معه -رحمه الله- ليحدثنا عن واقع الابتهالات والانشاد الدينى وكل ما يتصل بهذا العالم الفني البديع، نشر فى الثامن عشر من إبريل عام سبعة عشر وألفين، عبر زميلى الاستاذ جمال فتيان، الذى عرض علىً اجراء حوار معه، فوافقت على الفور، وكان حوارا ممتعا، وددت لو أنى كنت معه لولا ظروف لى حالت دون ذلك.
نشأ المبتهل الشيخ على الحسينى فى قرية جميزة بنى عمرو بديرب نجم بمحافظة الشرقية، وحفظ القرآن الكريم لما بلغ الحادية عشر فى كتَّاب القرية حفظا واتقانا بتشجيع من والديه، فنشأ من رواد المساجد ومحبى لآل بيت رسول الله ، وعرفه مواطنو محافظة الشرقية قارئا للقرآن الكريم ومبتهلا بالمساجد، فبدأ بقراءة القران الكريم والابتهالات فى الاحتفالات والمناسبات الدينية العامة والخاصة، ونصحه بعض محبينه بالتقدم لاختبارات الإذاعة المصرية، فتقدم بالفعل عام 1985 لاختبارات الإذاعة قارئا للقرآن الكريم فى أول الأمر، ثم تقدم أكثر من مرة لاختبارات الإذاعة المصرية قارئا ومجودا للقرآن الكريم، وبعدها نصحه بعض أصدقائه من القراء والمبتهلين أن يتقدم الى الإذاعة كمبتهل، وبالفعل تقدم كمبتهل واعتمد كمبتهل بالإذاعة المصرية عام 1995، ثم بدأ بتسجيل 15 دقيقة من الإبتهالات للإذاعة المصرية، زادت إلى 30 دقيقة.
كانت تعنى كلمة إبتهالات عنده – رحمه الله- الخشوع والتضرع إلى الله تعالى طلبا للرحمة والعون والمغفرة والتقرب إليه بالدعاء والرجاء، وكان حافظا للجميل، فذكر لنا تكليفه بتقديم أول ابتهالات بالقاهرة من مسجد السيدة زينب رضى الله عنها فى فجر إحدى المناسبات، حيث ترك له فضيلة الشيخ الشحات محمد أنور – رحمه الله- الذى كان يقرأ قرآن الفجر على الهواء مباشرة، مساحة كبيرة من الوقت تقترب من 20 دقيقة لإبتهال ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أجمع الكثيرون من المتخصصين فى علم النغم والمقامات الموسيقية أن خامة صوته جميلة جدا، ويمتلك حنجرة قوية، وكان مما يميزه أكثر بين المبتهلين إجادته لكثير من المقامات، خاصة مقام الكرد الذى يستخدمه فى كثير من الإبتهالات الدينية.
زار وسافر العديد من الدول مبتهلا، كالهند، وموزمبيق، وجزر القمر، ونيويورك، وتايلاند، وليبيا، والامارات، والاردن، وسوريا، والعراق، وايران، والسودان،وفلسطين وغيرها، كما طاف جميع محافظات مصر، وكان مما رصده – رحمه الله-، ذكره لنا أن هناك كثيرا من الدول العربية والإسلامية بدأت تنافس مصر فى مجال الابتهالات والانشاد الدينى، مثل سوريا والمغرب وإيران والعراق وغيرها، لكنهم يتعاملون مع مقام أو اثنين على الاكثر، لكن يستطيع المصريون أن يؤدوا بثمانى مقامات فى وقت واحد، فيخرج من مقام إلى آخر بكل سهولة ويسر، لذا نقول إن الإبتهال فن مصرى أصيل، وكنت أمدح مصر أيضا فى كل مكان أسافر إليه قارئا ومبتهلا.
كما ذكر لنا أيضا – رحمه الله- أنه وجدت فى إيران حب شديد للقرآن الكريم وخاصة القراء المصريين، ومن غريب ما رأي أن هناك مدارس باسم بعض القراء المصريين البارزين مثل مدرسة البنا والحصرى والمنشاوى ومصطفى إسماعيل والشحات محمد أنور وغيرهم، ويقومون بتدريس طريقتهم وأدائهم فى القراءة وتقليد أصواتهم أيضا، بجانب تقليد المبتهلين مثل الشيخ نصر الدين طوبار والنقشبندى.
وبسؤالنا لفضيلته – رحمه الله- بماذا تنصح المبتهلين الجدد؟ أجاب: أولا أطالب رابطة المبتهلين بالاتحاد العربى والمنظمات الاسلامية أن يبحثوا عن الجديد، ويهتموا بفكر الابتهال وخاصة جزئية التوشيحة، الذى كان يتربع على عرشها الشيخ طوبار والفشنى والنقشبندى والكحلاوى وغيرهم، وثانيا ننصح بالإنضمام الى نقابة المنشدين والذى يوجد بها الكثير من المبتهلين المعتمدين بالإذاعة المصرية، ليتعلموا منهم بجانب التحاقهم بمعهد الاذاعة المصرية، حيث يوجد به الكثير من الأساتذة والمختصين فى دراسة الإنشاد الدينى وفنون الإبتهال، حيث يحصل الدارس على شهادة من المعهد، كما يجب أن يعرف المبتهل المقامات الموسيقية مثل النهاوند ومشتملاته، والبياتى والصبا والعجم والعشاق والحجاز والكرد وغيرها، وعلى المبتهل أن يعيش “المود” بمعنى أن يتعايش مع المعانى التى يرددها ويشعر بها، فهناك حكمة تقول” ما خرج من القلب وصل الى القلب”، و”ما خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان”، وعلى المبتهل أيضا أن يستمع كثيرا الى عمالقة هذا الفن أمثال الشيخ طوبار والنقشبندى وغيرهم، وأن يتحلى المبتهل بالموهبة والدراسة و بحب وعشق الرسول وصحابته وآل بيته الكرام الأطهار.
كما حذر – رحمه الله- المبتهلين الجدد من أخذ الكلمات دون أن يفكروا فيها، وأن يكونوا شديدى الملاحظة فى كل كلمة من الشعر الدينى أو الحكم والمواعظ أو غيرها خاصة التى تعرض عليهم من خلال بعض الشعراء والمحبين، مقررا: نحن نسير على منهج أهل السنة والجماعة، حتى تكون موافقه لمنهجهم، فلا يجوز مثلا التوسل بالرسول ، ولكن يجوز التأسي به، وأن يكون محبا ومخلصا لوطنه مصر، فإذا مدحها يظهر هذا فى كلماته، ونحذر من السير خلاف هذا المنهج المستقيم، وعلى المبتهل الجديد.
وكان ختام حوارنا معه، ماذا يتمنى ويطلب فضيلة المبتهل على الحسينى؟ فأجاب -رحمه الله- أتمنى وأطالب بإحياء وعودة الابتهالات والإنشاد الدينى والتواشيح بالبطانة فى الإذاعة والتليفزيون، والتى اندثرت بعد رحيل عمالقة أدائها.
كان هذا فضيلة المبتهل على الحسينى كما عرفناه عبر جريدتى “الأهرام التعاونى”، لكن ثمة تعريف آخر لفضيلته -رحمه الله- ينقله لنا الاعلامى الدكتور عبد الله الخولي نائب رئيس اذاعة القرآن الكريم السابق فى رثائه له تحت عنوان “الشيخ على الحسيني المبتهل بالإذاعة المصرية لمن لا يعرفه”، فيقول: فقدت الإذاعة المصرية وإذاعة القرآن الكريم صوتا من أجمل أصوات المبتهلين بها، إنه صوت فريد صوت جهوري لامع يطرب الأذن ويجد طريقه إلى القلوب، عفيف النفس، لا يتسبب في إحراج من معه، طفنا معا محافظات مصر ونجوعها وقراها ومدنها لإسعاد الناس بما يقدمه من ابتهالات من خلال أمسيات إذاعة القرآن الكريم يمدح فيها الرسول ويتضرع بها إلى الله، ويقدم من خلالها الحكم والمواعظ، ترفع عن المواقف الدنيئة، ولم يمد يده لغير الله، يكلف نفسه السفر والذهاب شمالا وجنوبا وشرقا وغربا بصحبة إذاعة القرآن الكريم لإسعاد الجماهير في كل مكان؛ إذ كان من المبتهلين المطلوبين دائما، لأنه يجعل من الاحتفال الواحد احتفالات بجواباته التي ترتفع إلى عنان السماء، وبنصوصه المكررة التي تفرد بها وقلده فيها غيره، ومن الكلمات التي ابتهل بها إلى الله وسوف تكون شافعة له وتنير قبره قوله: “حمدت من لم يجد بالخير إلا هو”، “وسبحان من عنت الوجوه لوجهه فهو الكريم يجيب من ناداه”، “وبين منبره والبيت قف أدبا مخاطبا كل زائر رسول الله”.
خدم الإذاعة المصرية وبخاصة إذاعة القرآن الكريم بما لم يخدمها غيره ممن يملئون هواءها الآن، ولم يسافروا معها كما سافر ولم يغتربوا معها كما تغرب ولم يرفعوا شأنها كما رفع .
مطالبا -وأضم صوتى معه- المسئولين بالاذاعة، بالحفاظ على تراثه الاذاعى التي تسعد المستمعين، مؤكدا حزينا: مات الشيخ على وأرجو ألا يموت معه ما كان لديه من تراث في الابتهالات والتلاوات القرآنية له ولكبار المبتهلين والقراء، ولقد اختاره الله في زمن الكرونا لينال ثواب الشهادة من الله، ولقد جمعت أمسياته وأهديتها للإذاعة لعلهم يستفيدون منها في زمن كثر الغث لإهمال السمين.
رحم الله فضيلة المبتهل الشيخ على الحسينى جزاء ما قدم وأمتعنا، وأسكنه الفردوس الأعلى، وحقق أمنيتى وأمنية الإعلامى القدير أستاذنا الدكتور عبدالله الخولى فى المحافظة على تراثه الابتهالى الذى امتد على مدى عدد من العقود، متعنا خلالها بفنه الجميل، البديع، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون.