بقلم: د. محمد عسكر
خبير التكنولوجيا وأمن المعلومات
تتنافس الدول الكبرى فيما بينها وتخصص مبالغ كبيرة من موازناتها للإنفاق على قطاع البحث والتطويرالتكنولوجي في مختلف المجالات. فقد أصبحت التكنولوجيا الأداة الأهم والأبرز بين أدوات التطور والتقدم للدول، بل وواحدة من أهم مقومات قوة الدول فى العصر الحديث، ومن يتملكها فقد امتلك مفاتيح عوامل القوة الأخرى. فالحروب التجاريه القادمه هى بلا شك حروب التكنولوجيا.
الولايات المتحدة الأمريكية والصين أدركتَ هذه الحقيقه إدراكاً جلياً، فالأولى هي القطب المتفرد والأقوى عالمياً خصوصاً على المستوى التكنولوجي، والصين قطب صاعد بقوة يسعى إلى اللحاق بركب التكنولوجيا والتقنيات الحديثه فى كافه المجالات، لذا فهي الدولة الأكثر تنافسيه مع الولايات المتحدة، والتي تهدد مكانتها كرائدة للتطورالتكنولوجي على المستوى العالمى، وهو أمر يتوقعه القطب الأمريكى نفسه الذى يسعى لإعاقة الزحف الصينى الحثيث صوب قمة النظام الدولى بل ويواصل القتال بشراسة للحد من إنجازاتها التكنولوجيه في المجالات الحديثة،والتى باتت تهدد مكانة واشنطن وتقوض سيادتها العسكريه كقوة عظمى وحيدة مهيمنة على مجمل النظام العالمى بعد الحرب العالمية الثانية.ولهذا السبب تشتد المنافسة بين الطرفين تجاريا وسياسيا وإعلاميا، وفي إطار هذه المنافسة المحتدمه تنفق الولايات المتحدة الأمريكية اليوم مزيداً من مواردها على قطاع التكنولوجيا، ولا سيَّما في مجال التكنولوجيا العالية التقنية لمواجهة الإستراتيجية الصناعية التي أطلقتها الصين والتي مكَّنتها من تطوير قدراتها في ذات المجال، ممَّا جعلها متقدمة في المجالات العسكرية والاقتصادية، وفي مجال الفضاء الخارجي كذلك.
الصراع الأمريكي الصيني بدا يطفو على السطح، وبدا ضجيجه يزعج العالم الذي يحبس أنفاسه بفعل تزايد حدة الصراع بين الطرفين. فالمنافسة الاقتصادية الباردة بدأت تتحول إلى حرب اقتصادية طاحنة تخطو بخطوات سريعة على صفيحٍ مشتعل، ربما تكون الحرب الاقتصادية أقل فداحة وعنف من الحروب القتالية، ولكنها أهم وأخطر وأقوى، وهذا هو واقع الحال في عصر التكنولوجيا وثورة المعلومات؛ إذا تحولت حروب الماضي الاستعمارية والتي كانت تتصارع فيها الدول الكبرى والأمبراطوريات حول إحتلال الأراضي وبناء المستعمرات إلى حروب حول الموارد الطبيعية كالمياه والطاقة والصراع على بناء السدود حول الأنهار والبحث عن حقول الغاز المدفونة في مياه البحار بعد أن نضبت تلك المدفونة في الصحراء، فيما أٌستبدلت الطلقات والقذائف بالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وأصبح المقاتل يحمل الفيروس بدلا من حمل السلاح، واستثمرت الدول الكبرى في صناعة الأمراض بدلاً من صناعة الأسلحة واستخدمت التكنولوجيا في نشر الأوبئة وتطوير الأمراض.
إن الاقتصاد الصيني أصبح الغول الحقيقي الذي تخشاه أمريكا، والشركات الصينية غدت بالفعل أقوى وأخطر على الاقتصاد الأمريكي من أى شئ أخر، إذ تسعى بكين إلى خلق إمبراطورية اقتصادية موازية يمكنها أن تنهي عقود وعقود من الهيمنة الأمريكية على الإقتصاد العالمى. ويبدو ان الولايات المتحدة بدأت تخسر سباقها مع الصين في مجال التكنولوجيا والتطور التقني،وأن شركات التكنولوجيا الصينية ربما ستسحب البساط من تحت أقدام عمالقة التكنولوجيا الأمريكية في السنوات القادمة.
فقد تصاعدت في الآونة الأخيرة مخاوف السلطات والخبراء الأميركيين من التقدم المتسارع الذي تحرزه بكين في مجال الذكاء الاصطناعي والتكنولوجي ككل، ولا سيما في القطاع العسكري، ما قد يجعلها تكسب السباق خلال فترة ليست ببعيدة بحسب تقديرات بعض المراقبين، ولعلّ ذلك هو ما يفسر استشراس واشنطن في محاولة تطويق الصين من خلال العقوبات الدولية أو فرض القيود على صادرات التكنولوجيا إليها وصولاً حتى إلى التوصيات بانتزاع الكوادر والمواهب من الداخل الصيني وتسخيرها لمصلحة الولايات المتحدة وشركاتها.
وتمارس الولايات المتحده ضغوطا كبيره على الصين باستخدام مجموعة من القوانين والإجرءات العقابية، شملت منع وصول التكنولوجيا الحساسه وأشباه الموصلات المتطوره والرقائق الإلكترونية المتقدمةالمغذية لقوة معالجة الذكاء الاصطناعى بهدف عرقله قدرة بيجين على بناء القوة الحاسوبية المطلوبة لتطوير قدراتها في مجال الذكاء الاصطناعي.
فى المقابل تسعى الصين للإلتفاف والتغلب على العقوبات الأميركية حيث تقوم ببناء مجموعة من مرافق تصنيع الرقائق الألكترونيه وأشباه الموصلات السرية في جميع أنحاء البلاد كشبكة ظل تتيح لها تجنب العقوبات المفروضة عليها ومواصلة تحقيق الطموحات التكنولوجية للصين. وهوما يفسرطبيعة وأسباب تفاقم التوترات الجيوسياسية بين البلدين فى المحيط الهادي حول جزيره تايوان التى تمثل ٨٠ ٪ من حجم صناعة الرقائق الألكترونيه فى العالم.
هذا وقد إتجهت شركه الإتصالات الصينيه العملاقه”هواوي” إلى بناء وشراء منشآت تحت أسماء شركات أخرى، من أجل التحايل على هذه القيود لشراء معدات صناعة الرقائق الأميركية وغيرها من الإمدادات بشكل غير مباشر. ولذا أصدرت الولايات المتحدة حزمة قيود جديده على صادرات التكنولوجيا إلى الصين شملت أنواعاً محددة من الرقائق المتقدمة، ومعدات تصنيعها، والمركبات الكيميائية الخاصة بتصميمها وتصنيعها كما سعت واشنطن إلى معاقبة الشركات الصينية مثل “هواوى” و”زد تى إي”، لمواجهة خطر فقدان القيادة في تكنولوجيا الجيل الخامس (5G) لصالح الصين كما تبنى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عام ٢٠١٨ سياسات أكثر صرامة بفرض رسوم جمركية بقيمة ٣٦٠ مليار دولار بغرض إعاقة النمو الاقتصادى الصيني فى قطاع التكنولوجيا وخاصه أشباه الموصلات والرقائق الألكترونيه، واستمرت سياسات إدارة الرئيس الحالى جو بايدن على نفس النهج،حيث وقَّع بايدن أمرا تنفيذيا يخول لوزارة الخزانة حظر أو تقييد بعض الاستثمارات الأمريكية فى الكيانات الصينية فى قطاعات: أشباه الموصلات، الإلكترونيات الدقيقة، تقنيات المعلومات الكمية، وأنظمة الذكاء الاصطناعى بهدف خنق الجهود الصينية الناشئة فى مجال الذكاء الاصطناعى والحوسبة الكمية.
لتبدأ بذلك حرب تجارية تكنولوجيه شرسه بين البلدين تهدد بانهيار النظام الاقتصادى العالمى، ما سوف يكون له آثار دراماتيكية على الاقتصاد العالمى وخاصة على الجزء الضعيف منه وهى بالتأكيد دول العالم الثالث. وتشهد القارة الأفريقية جزء من هذه المواجهة الصينية الأمريكية فى محاوله لإحتواء النفوذ الصينى المتزايد هناك، وخاصة فى البلدان الغنية بأنواع المعادن اللازمة لإنتاج التقنيات المستقبلية ومصادر الطاقة المستدامه.
فهل سيؤثر التنافس التكنولوجي ما بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية على النظام الدولي؟ وهل تلعب التكنولوجيا بالفعل مثل هذا الدور في تغيير موازين القوى ما بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية؟