الإمام أحمد بن حنبل والتصوف
بقلم الشريف/ أبو محمد الحسيني خليفة سعدي
يجمع معظم الباحثين والمؤرخين القدماء والمعاصرين على أن التصوف ظهر في القرن الثاني الهجري وهو وليد حركة الزهد والنسك في الإسلام التي كان عليها الصحابة والتابعون.
ويوضح ذلك ابن خلدون عند كلامه على نشوء علم التصوف قائلاً: (كان ذلك عاماً في الصحابة والسلف فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة) ويعد القرن الثالث الهجري مرحلة هامة بلغ فيها التصوف النضج والكمال، وأصبحت له قواعد معروفة. كما شكل الفقهاء وأصحاب الحديث علم الحديث والمذاهب الفقهية المشهورة.
ولكن السؤال هنا: ما هو موقف الإمام الجليل أحمد بن حنبل (164-241هـ) صاحب المذهب المشهور من التصوف والصوفية؟
وفي الحقيقة فإن أصحاب المذاهب الأربعة وعلى رأسهم الإمام أحمد وإن غلب عليهم الاشتغال بالأمور الشرعية للضرورة القاضية بذلك فإنهم لم يكونوا متجرين بالفقه بل كانوا أيضاً كما يقول الإمام الغزالي: في الإحياء: من العلماء بالله مراقبين قلوبهم مشتغلين بمعارف ربهم عما سواهم من الخلق .
وما دمنا في صدد الكلام عن الإمام أحمد بن حنبل يجدر أن نذكر وصف أبو زرعة له: ما رأت عيني مثل الإمام أحمد في العلم والزهد والفقه والمعــرفة.
ولا شك أن أصول الصوفية الصحيحة المتفرقة في ثنايا الكتب اجتمعت في شخصية الإمام أحمد.
وهوممن تكلم بعلوم الصوفية كما صرح بذلك ابن تيمية حين قال في (رسالته الصوفية والفقراء): (وقد نقل التكلم به من غير واحد من الأئمة والشيوخ كالإمام أحمد وأبي سليمان الداراني وغيرهما).
ولذلك ليس غريباً أن نجد ترجمة الإمام أحمد مذكورة في معظم كتب تراجم الصوفية مثل حلية الأولياء وطبقات الأصفياء. والكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية. والطبقات الكبرى للشعراني. وفي كشف المحجوب للهجويريكل السادة الصوفية من جميع الطبقات يعتقدون فيه البركة…).
وقلَّ أن نجد كتاباً من كتب التراث الصوفي يخلو من أثر عن الإمام أحمد خاصة في الرسالة القشيرية والفتوحات المكية وتنوير القلوب وإحياء علوم الدين. حتى إن البعض عند الكلام عنه وصفه بأنه: (مقتدى الطائفة) .
وقد قسمنا بحثنا هذا إلى قسمين.
الأول: موقف الإمام من قضايا التصوف .الثاني : علاقة الإمام أحمد مع أبرز صوفية عصره.
أولاً : قضايا التصوف وموقف الإمام أحمد منها :-
1. التوسل :
قال ابن تيمية في فتاواه: قال أحمد في نسكه الذي كتبه للمروزي صاحبه أنه يتوسل بالنبي في دعائه.
وروى ابن مفلح في الآداب الشرعية عن أحمد بن حنبل أنه قال:حججت فضللت الطريق وكنت ماشياً فجعلت أقول ياعباد الله دلوني على الطريق فلم أزل أقول ذلك حتى وقعت على الطريق.
وقد ثبت عن الإمام أحمد أنه قال عند القحط وعند انقطاع المطر: يتوسل الداعي الذي يصلي صلاة الاستسقاء بالرسول .
وقد ثبت أيضاً أن الإمام أحمد توسل بالإمام الشافعي.
حتى تعجب ابنه عبد الله من ذلك فقال له الإمام أحمد: إن الشافعي كالشمس للناس وكالعافية للبدن .
2. التبرك:
جاء في خلاصة الوفاء للسمهودي وفي كتاب العلل والسؤالات لعبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: سألت أبي عن رجل يمس قبر النبي ويفعل بالمنبر مثل ذلك فقال: لا بأس به.
ويعزز هذا الكلام قول الذهبي: أين المتنطع المنكر على أحمد، وقد ثبت أن عبد الله سأل أباه عمن يلمس رمانة قبر النبي ويمس الحجرة النبوية فقال: لا أرى بذلك بأساً. وختم الذهبي كلامه: أعاذنا الله وإياكم من رأي الخوارج والبدع.
وقال السندي الخواتيمي: سألت أبا عبد الله عن الرجل يأتي هذه المشاهد، فقال: على ما كان يفعله ابن عمر يتتبع مواضع النبي وأثره، فليس بذلك بأساً أن يأتي الرجل المشاهد.
وقال عبد الله بن أحمد: رأيت أبي آخذاً شعرة من شعر النبي فيضعها على فيه يقبلها وأحسب أني رأيته يغمسها بالماء ويشربه يستشفي به.
3. العزلة :
قال الإمام أحمد:الخلوة أروح لقلبي.
وقال مرة: أريد نزول مكة في شِعْب من تلك الشعاب حتى لا أعرف. وقال ابنه عبد الله: لا يمكن لأحد أن يقول: إنه رأى أبي في هذه النواحي يوماً إلا إذا خرج إلي الجمعة، وكان أصبر الناس على الوحدة، وبِشْرٌ رحمه الله لم يكن يصبر على الوحدة (13) .
وقيل لأحمد بن حنبل: ما حجتك في ترك الخروج إلى الصلاةَ في جماعة ونحن بالعسكر فقال: إن الحسن وإبراهيم التيمي خافا أن يفتنهما الحجاج وأنا أخاف أن أفتتن أيضاً.
واستشهد رحمه الله بقول مطرف التابعي الكبير: (تفقهوا ثم اعتزلوا).
قال فتح بن نوح: سمعت أحمد يقول: أشتهي مكاناً لا يكون فيه أحد من الناس طوبى لمن أخمل الله ذكره.
4. السماع:
جاء في طبقات الحنابلة في ترجمة يحيى بن منده: حدثنا الخلفاني، قلت لأحمد بن حنبل: ما تقول في القصائد أي السماع الذي يتواجد عليه الصوفية؟ قال: مثل ماذا؟ قلت مثل: إذا ما قال لي ربــي***أما استحييت تعصيني
وتخفي الذين من غيري***وبالعصيان تأتيني
قال: فرد الباب وجعل يردد هذا الشعر.
وقد نقل العلامة السفاريني الحنبلي عن إبراهيم القلانسي أن الإمام أحمد قال عن الصوفية:لا أعلم قوماً أفضل منهم ،قيل: إنهم يستمعون ويتواجدون قال: دعوهم يفرحوا مع الله ساعة.
وطبعاً فإن الإمام أحمد رحمه الله يقصد هنا سماع الصوفيين الصادقين الذين هم خاصة الخلق كما وصفهم السبكي وليس أدعياء التصوف الذين تكاثر عددهم على مر الزمن.
5. الزهد:
وتعريفه هو أن تكون مما في يد الله أوثق مما في يدك .ولأحمد بن حنبل كتاب خاص في الزهد شحن فيه أقوال الصحابة وكبار التابعين والصوفية أمثال إبراهيم بن أدهم ومالك بن دينار والفضيل بن عياض ومحمد بن واسع وسواهم وكان يقول: أسرّ أيامي أصبح ليس عندي شيء. ويستشهد بعبارة أحد الربانيين: اهتمامك برزق غد يكتب عليك خطيئة.
وقيل له: إن همة هؤلاء الصوفية كِسْرة وخرقة فقال: لا أعلم أعظم قدراً من هذه صفته .
قال صالح بن أحمد: رأيت أبي يأخذ الكسر (الخبز) وينفض الغبار عنها ثم يصب عليها الماء ثم يأكلها بالملح.
وقد أرسل له مرة المتوكل طبيباً فقيل له: يا أمير المؤمنين إن أحمد بن حنبل ليس به علة في بدنه إنما هذا من قلة الطعام وكثرة الصيام والعبادة.
فقد كان رحمه الله يقول: الخوف منعني من الطعام والشراب.
وقال النحوي: رأيت الإمام أحمد وعليه ثياب غلاظ.
وقال أبو طالب الشابي: سئُل أحمد ما الزهد في الدنيا فقال: قصر الأمل والإياس مما في أيدي الناس .
أما ابن القيم فيذكر أن الزهد عند الإمام أحمد ثلاث أنواع: الأول : ترك الحرام وهو: زهد العوام.والثاني : ترك الفضول من الحلال وهو زهد الخواص .والثالث : ترك ما يشغل عن الله وهو زهد العارفين.
6. الإخلاص :
قال رحمه الله: هو الخلاص من آفات الأعمال فخلص أعمالك من الغرور والشرك ومما يلائم نفسك.
الشرك الذي كان يحذر منه الإمام أحمد ذكره في مسنده عندما أورد قول شداد بن أوس للرسول: أتشرك أمتُك من بعدك؟ قال: نعم أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً ولكن يراؤون بأعمالهم.
وهناك حديث يتكرر كثيراً في مصنفات الصوفية وذكره الإمام أحمد في مسنده هو، قوله: (ما أخلص عبد قط أربعين يوماً إلا ظهرت ينابيعُ الحكمة من قلبه على لسانه).
7. الحديث الضعيف:
قيل إن أحمد بن حنبل كان يحفظ ستمائة ألف حديث ما بين الصحيح والحسن والضعيف .
وفسر الإمام أحمد ذلك قائلاً: (إذا روينا عن رسول الله بالحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد، وكذلك إذا جاء الحديث في الكفارات والحدود والفرائض وإذا روينا عن رسول اللهفي فضائل الأعمال وثوابها وترغيبها وما لا يضع حكماً ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد).
وهو يستدل بكلام أحد زهاد التابعين: (إن للحديث ضوءاً كضوء النهار تعرفه وظلمة كظلمة الليل تنكره).
8. الأبدال:
لا نعلم أحداً من الفقهاء الأربعة المشهورين أكثر من ذكر الأبدال مثل الإمام أحمد.
مثال على ذلك : ما جاء في مسنده أن رسول الله قالالأبدال بالشام وهم أربعون رجلاً كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً يسقى بهم الغيث وينتصر بهم على الأعداء ويصرف عن أهل الشام بهم العذاب.
9. تقبيل القبر الشريف:
أجاز الإمام أحمد تقبيل القبر.
قال الحافظ العراقي: أخبرني أبو سعيد العلاني قال: رأيت في كلام ولد أحمد بن حنبل في جزء قديم أن الإمام أحمد سئل عن تقبيل قبر النبي وتقبيل غيره، فقال: لا بأس بذلك، فأريناه ابن تيمية فصار يتعجب من ذلك.
وروى الإمام أحمد (وجد مروان بن الحكم رجلاً واضعاً وجهه على القبر الشريف فأخذ مروان برقبته ثم قال: هل تدري ما تصنع؟ قال: نعم إنما جئت رسول الله ولم آت الحجر، سمعت رسول الله يقوللا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا على الدين إذا وليه غير أهله).
10. تقبيل المصحف: قال الإمام أحمد ما سمعت فيه شيئاً، ولكن روي عن عكرمة بن أبي جهلأنه كان يفتح المصحف ويضع وجهه عليه ويقول: كلام ربي كلام ربي.
11. تقبيل اليد:
سُئل عنها الإمام أحمدفقال: لا أرى بها بأساً عن طريق التدين، وكرهها عن طريق الدنيا.
وقال الخلال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: رأيت كثيراً من العلماء والفقهاء والمحدثين يقبلون يد أبي ويعظمونه تعظيماً.
12. قراءة القرآن على الميت:
قال أبو بكر المروزي: سمعت أحمد بن حنبل يقول : إذا دخلتم المقابر فاقرؤوا آية الكرسي وثلاث مرات : قل هو الله أحد ثم قولوا: اللهم اجعل فضله لأهل المقابر. قال ابن تيمية: إنه يجوز إهداء ثواب العبادات إلى موتى المسلمين كما هو مذهب أحمد.
13. كتابة التمائم وتعليقها :
ذكر ابن القيم في زاد المعاد، أن الإمام أحمد سُئل عن التمائم تعلق بعد نزول البلاء فقال: أرجو أن لا يكون به بأساً . وقال ابن تيمية: نقلوا عن ابن عباس أنه كان يكتب كلمات من القرآن والذكر ويأمر بأن تسقى لمن به داء، ونص الإمام أحمدعلى جوازه .
14. الذكر :
أورد الإمام أحمدفي مسنده قول رسول الله (أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون) .
وفي المسند أيضاً قال لجعفر بن أبي طالب: (أشبهت خَلْقي وخلُقي فحَجَل). قال ابن حجر العسقلاني: حجل أي وقف على رجل واحدة، وهو الرقص بهيئة مخصوصة.
15. مناجاته:
كان أحمد بن حنبل يناجي الله مناجاة الصوفية فيقول: (اللهم، إن كنت تعلم أني أحبك خوفاً من نارك فعذبني بها، وإن كنت تعلم أني أحبك طمعاً في جنتك فاحرمنياها، وإن كنت تعلم أني أعبدك حباً مني إليك وشوقاً إلى وجهك الكريم فابحنياه مرة واصنع ما شئت.
16. أدبه:
قال إبراهيم الحربي: كان أحمد بن حنبل وفّق للأدب، كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء خمسة آلاف، خمسمائة يكتبون والباقون يتعلمون منه حسن الأدب. وكان مرة متكئاً من علة، فذكر عنده أحد الصالحين فاستوى جالساً وقال: لا ينبغي أن يذكر الصالحون فيتكأ.
وقد روى الإمام النووي أن الإمام أحمدعندما رأى أحد هؤلاء الصالحين وثب إليه وأكرمه فلما مضى قال له ابنه عبد الله: يا أبت تعمل به مثل هذا العمل، فقال: يا بني، لا تعارضني في مثل هذا.
قال ابن المنادي: سمعت جدي يقول: كان أحمد بن حنبل من أحسن الناس عشرة وأدباً، كثير الإطراق والسكوت، لا يسمع منه إلا المذاكرة بالحديث وذكر الصالحين والزهاد.
17. الكرامات:
ذهب الإمام أحمد إلي جواز الكرامات للأولياء وضلّل من ينكرها.
قال التاج السبكي: فإن قلت: ما بال الكرامات في زمن الصحابة قليلة وبعدهم على يد الأولياء أكثر، فالجواب ما قاله الإمام أحمد بن حنبل: لأن قوة إيمانهم لا يحتاج معها إليها. ولأن الزمن الأول كان كثير النور، ألا ترى أن القنديل لا يظهر نوره بين القناديل، والنجوم لا يظهر لها نور مع ضوء الشمس.
وقد وقعت للإمام أحمد كرامات عديدة، قال صاحب الجوهر: المحصل في مناقب الإمام أحمد بن حنبل له كرامات مشهورة ودعوات بالإجابة مبرورة، منها ما ظهر في حياته ومنها ما كان بعد مماته. جاء مرة حفيده ينزف من منخريه وعجز الطبيب عن ذلك، فجعل الإمام أحمد يحرك يديه ويدعو له فانقطع الدم .
وحدّث أبو حرارة، قال: كانت أمي مقعدة نحو عشرين سنة، فقالت لي يوماً: اذهب إلى أحمد بن حنبل فاسأله أن يدعو الله لي. فذهبت إليه ودعا لها وعدت إلى البيت، فوجدت أمي تمشي على رجليها.
وقال عبد الله بن موسى: خرجت أنا وأبي في ليلة مظلمة نزور أحمد فاشتدت الظلمة، فقال أبي: يا بني، تعال نتوسل إلى الله بهذا العبد الصالح. فدعا أبي، فأضاءت السماء كأنها ليلة مقمرة حتى وصلنا إليه.
18.في مصطلحات أخرى:
المحبة: قال: سل عنها بشر الحافي لأني لا أجيبك عنها ما دام حياً.
الرضا : قال: لكل شيء كرم، وكرم القلوب الرضا عن الله.
وقال أيضاً: الرضا ثلاثة أشياء: ترك الاختيار وسرور القلب بمر القضاء وإسقاط التدبير من النفس.
المريد: قال: أن يكون مع الله كما يريد، وأن يترك كل ما يريد لما يريد .
الفتوة: قال: هي ترك ما تهوى لما تخشى.
التواضع: مثال على ذلك قوله: أخذنا هذا العلم بالذل.
المجاهدة: قال المجاهد: من جاهد نفسه في ذات الله.
التوكل: قال: هو الثقة بالله وقال أيضاً: التوكل هو : استشراف باليأس من الناس. وهذا قريب من كلام الإمام الجُنيد: التصوف الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق.
علاقة الإمام أحمد مع صوفية عصره:
لقد عاصر الإمام أحمد بن حنبل(164-241هـ) طائفة من كبار الصوفية، وعلاقته معهم كانت قائمة على المودة والتقدير والاحترام المتبادل، وكان يقول: (صار القوم أئمة بالإخلاص وعند ذكرهم تتنزل الرحمة). وعلى رأس هؤلاء القوم:
1.بشر بن الحارث (ت 227هـ) وقد سُئل عنه الإمام أحمد فقال: (هو رابع سبة من الأبدال) (52).وكان يقول: الطريق ما كان عليه بشر بن الحارث. وقال الحسن الرازي قيل لأحمد: يجيئك بشر بن الحارث قال: لا تعننِّ الشيخ، نحن أحق أن نذهب إليه.
وقال بشر عن الإمام أحمد خلال محنته: إن ابن حنبل دخل الكير فخرج ذهباً أحمر . فبلغ ذلك الإمام أحمد فقال: الحمد لله الذي رضى بشر بما صنعنا. وقال عندما بلغه موت بشر: لم يكن له نظير. ونستنتج من أخبار المؤرخين عن هذين الشيخين الجليلين، أن البغداديين كانوا يرون أنهما في مرتبة واحدة.
وكانوا يقولون : مثل الإمام أحمد بن حنبل مثل دجلة، كل أحد يعرفها. ومثل بشر بن الحارث كمثل بئر عذبة مغطاة لا يقصدها إلا الواحد بعد الواحد.
2. أحمد بن أبي الحواري(ت 203هـ) عن يحيى بن معين قال: التقى أحمد بن حنبل وأحمد بن أبي الحواري بمكة ودار بينهما الحوار حول قول أبي سليمان الداراني : (إذا اعتادت النفوس على ترك الآثام جالت في الملكوت، وعادت إلى ذلك العبد بطرائف الحكمة من غير أن يؤدي إليها عالم علماً. وتعجب الإمام أحمد من هذا القول ووجد ما يدعمه في قوله: (من عمل بما يعلم، ورثة الله علم ما لم يعلم) . ثم قال لأحمد بن أبي الحواري: (صدقت يا أحمد وصدق شيخك). وفي قوت القلوب كان أحمد بن حنبل يقول: العلم ما جاء من فوق .قال يعني إلهاماً من غير تعليم.
3.حاتم الأصم (ت 237هـ) لما دخل حاتم بغداد واجتمع إليه أهلها فقالوا: يا أبا عبد الرحمن أنت رجل أعجمي وليس يكلم أحد إلا قطعته، قال ذلك في ثلاث خصال إضهرن على خصمي: افرح إذا أصاب خصمي، واحزن إذا أخطأ، وأحفظ نفسي ألا أجهل عليه. فبلغ ذلك الإمام أحمد فقال: سبحان الله ما أعقله قوموا بنا إليه. فلما دخلوا عليه قيل له: يا أبا عبد الرحمن، ما السلامة من الدنيا؟ قال: يا أبا عبد الله لا تسلم من الدنيا حتى يكون معك أربعة خصال: تغفر للقوم جهلهم، وتمنع جهلك عنهم، وتبذل لهم شيئك، وتكون من شيئهم آيساً. فقال: يا حاتم إنها لشديدة، فقال حاتم: وليتك تسلم وليـتك تــسلم.
4. يحيى بن الجلاء(ت 258هـ)عن الطرسوسي قال: ذهبت أنا ويحيى بن الجلاء إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل فسألته: يا أبا عبد الله، بم تلين القلوب؟ فقال: بأكل الحلال، فمررنا إلى بشر بن الحارث، فقلت له: بم تلين القلوب، قال:ألا بذكر الله تطمئن القلوب. قلت له: إن ابن حنبل قال: بأكل الحلال فقال جاء بالأصل.
5.معروف الكرخي (ت 200هـ) وصف معروفاً الإمام أحمد بعد أن رآه بأنه (فتى عليه أثار النسك)(58) ، وكان أحمد بن حنبل يذهب إلى معروف ويسأله. وقد سأل عبد الله والده أحمد مرة: هل كان مع معروف شيء من العلم؟ قال: كان معه رأس العلم وهو خشية الله.
وذكر يوماً في مجلس الإمام أحمد قول أحدهم عن معروف هو قصير العلم، فقال:أحمد: امسك عافاك الله، وذكر يوماً في مجلس الإمام أحمد قول أحدهم عن معروف هو قصير العلم، فقال: أحمد: امسك عافاك الله، وهل يراد بالعلم إلا ما وصل إليه معروف؟!
6.سري السقطي(ت 253هـ) وهو خال الإمام الجنيد وشيخه. قال الحسن البزار سألت أحمد بن حنبلعن السري بعد قدومه من الثغر، فقال: أليس الشيخ الذي يعرف بطــيب الــغذاء (أي أكل الحلال) قلت: بلا، فأثــنى عليه.
وقد أراد السري السقطي -وكان تاجراً- أن يوصل إلى أحمد شيئاً فرده، فقال له: يا أحمد احذر آفة الرد فإنها أشد من آفة الأخذ. فشرح أحمد صدراً بما قال السري، وأجاب: ما رددت ذلك إلا لأن عندي قوت شهر، فإذا كان بعد شهر فأنفذه إلي. وعلق صاحب كتاب (أحمد بن حنبل إمام أهل السنة) على ذلك بقوله: وأحمد يستفيد من كلام السري، ولا يلقي القول بإصرار رجل تستعبده آراؤه فتلك كبرياء على العلم والعلماء.
7.أبو حمزة الصوفي (ت 269هـ) هو محمد بن إبراهيم اجتمع بالإمام أحمد كثيراً. وكان أحمد بن حنبل يجله ويعظمه، وإذا جرى في مجلسه شيء من كلام القــوم يلــتفت لأبي حمزه ويقــول: (ما تقول فيها يا صوفــي؟). وجاء في تنوير القلوب: إن الإمام أحمد بعد أن اجتمع مع أبي حمزه، قال لولده:يا ولدي عليك بمجالسة هؤلاء القوم، فإنهم زادوا علينا بكثرة العلم والمراقبة والخشية والزهد.
8.الحارث المحاسبي(ت 243هـ) وقد ذكر بعض المؤرخين، أنه في البداية كان بينه وبين الإمام أحمد جفاء بسبب مسائل في علم الكلام. واتفق أن الإمام أحمدأمر بعض صحبه أن يجلسه بحيث يسمع كلام الحارث ولا يراه، ففعل فتكلم الحارث وأصحابه يسمعون كأنما على رؤوسهم الطير، ثم أخذوا يبكون فبكى أحمد حتى أغمي عليه وقال لصاحبه: ما رأيت كهؤلاء ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا الرجل، لكن مع ما وقفت من أحوالهم لا أرى لك صحبــتهم.
قال السبكي في طبقاته: إنما قال له ذلك لقصوره عن مقامهم فإنهم في مقام ضيق . ولا ننسى أن نذكر أن المحاسبي كان يحمل التقدير لابن حنبل، مؤيداً موقفه من المحنة. وقال ابن تيمية: المحاســيبي أعلم المتأخرين بالسنــن والآثار.
9.أبو عثمان الوّراق (ت 260هـ) وقد تخرج به أكثر نجوم البغداديين في التصوف وعنه أخذوا التجرد وسياسة النفوس كما قال أبو نعيم، وأضاف أن الإمام أحمد بن حنبل كان يحمد سيرته.
10.أبو بكر المغازلي(ت 282هـ) ذكر الذهبي في ترجمته هو الإمام الولي الرباني كان من البدلاء، له أحوال عجيبة، وكان الخلال يقول: كان أبو عبد الله يقدمه ويكرمه ويقول: من مثله!
11.أبو تراب النخشبي(ت 245هـ)وقد أخذ عنه الإمام أحمد(69). وقال ابن العماد: أبو تراب النخشبي دخل بغداد مرات واجتمع بالإمام أحمد بن حنبل.
12.أبو جعفر الطوسي(ت 254هـ) وهو أستاذ الصوفيه المشهور أبي سعيد الخراز، قال أبو بكر المروزي: سألت أبا عبد الله عن أبي جعفر فقال: لا أعلم إلا خيراً.
13.أبو إبراهيم السائح:قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: كان في دهليز أبي دكان، فإذا جاءه إنسان يريد أن يخلو به أجلس عليه، فدخله أبو إبراهيم السائح، فقال لي أبي: سلّم عليه فإنه من خيار المسلمين وكبارهم.
14.أبو إسحاق النيسبوري: قال الذهبي: كان أحمد بن حنبل يغشاه ويحترمه ويجله ويقول عنه: إن كان ببغداد أحد من الأبدال، فأبو اســحاق النيســبوري.
15. ذو النون المصري (ت 246هـ) قال المرزوي: دخلت على ذي النون أيام محنته وهو في الســجن فقال لي: أي شيء حال ســيدنا؟ يعني أحـمد بن حنبــل. وقال الإمام أحمد لذي النون، لما سُمّي يحيى بن الجلاء بابن الجلاء، فقال: سميناه بذلك، لأنه إذا تكلم جلا قلوبنا.
16. موسى الجصاص (ت 251هـ) قال الخطيب البغدادي عنه: (ورع متخل كان لا يحدث إلا بمسائل أبي عبد الله أحمد بن حنبل وشيء سمعه من أبي سليمان الداراني، وقال غيره: هو من قدماء أصحاب الإمام أحمد: كان ذا زهد وورع وتأله.
17. زكريا الهروي : (ت 255هـ) قال الذهبي والجامي: هو من كبار مشايخ الصوفية وورعيهم. وكان أحمد بن حنبل يرفع من محله ويقول عنه: هو من الأبدال.
18. فتح بن شخرف ت 273هـ) كان يقول عنه الإمام أحمد (ما أخرجت خراسان مثله).
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: كتب لي الفتح بن شخرف الخراساني: (يقولون: علماء الأزمنة ثلاثة: ابن عباس في زمانه والشعبي في زمانه والثوري في زمانه، وأنا قلت للحارث المحاسبي: وابن حنبل في زمانه. فقال المحاسبي: نزل بالإمام أحمد ما لم ينزل بغيره.
19. وكيع بن الجراح (ت 200هـ تقريباً) الكوفي الصوفي المحدث قيل: كان يصوم الدهر. قال أحمد بن حنبل: لو رأيت وكيعاً رأيت عجباً، حج أربعين حجة ورابط في عبادان أربعين ليلة. ولم يتلطخ بالسلطان.
وهناك آخرون كثُر من العارفين لو سردنا أخبارهم هنا لطالت القائمة مثل أيوب الحمال وصفوان بن سليم ويحيى القطان وأحمد بن أبي بدر وإبراهيم النيسبوري وأبو يوسف الغسولي، وغيرهم. كان الإمام أحمد يقول عنهم: هم من خيار عباد الله يستنزل بذكرهم القطر, وما رأت عيناي مثلهم، وكان يطلق على بعضهم صفة الأبدال.
وأفضلُ ختام لبحثنا هذا: دعاء للإمام أحمد بن حنبل كان يردده في سجوده (اللهم من كان على هوى أو على رأي وهو يظن أنه على الحق وليس هو على الحق، فرده إلى الحق حتى لا يضل من هذه الأمة أحد).
قال إبراهيم بن شماس: خاض بالناس فقالوا: إن وقع أمر في أمة محمد فَمَنْ الحجة على وجه الأرض، فاتفقوا كلهم على أن أحمد بن حنبل حجته.
عاش الإمام أحمد(77) سنة، ودفن بعد وفاته في مقبرة باب حرب ببغداد، وصلى عليه خلائق لا يحصى عددهم.
قال صاحب مختصر طبقات الحنابلة: وقبره ظاهر مشهور يزار ويتبرك به.