جمع القرآن الكريم.. شبهات وردود (1)
بقلم/ د. محمد العربي
ادعى المغرضون أن القرآن الكريم لم يدون ولم يكتب في مصحف كما هو الآن إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أما في حياته فلم يكن مجموعا في مصحف وأن جمعه مر بعدة مراحل، الأولي في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وهو جمع ابتدائي غير موثق تمام التوثيق كما يزعمون، والثانية في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه وقد كان الجمع في هذه المرحلة قابلاً لإدخال كثير من الإضافات التي افتقر إليها تدوين القرآن فيما لأن القرآن الكريم لم يكن مضبوطا مشكولا، والثالثة الإضافات التي ألحقت بالنص القرآني وأبرزها: نقط حروفه لتمييز بعضها من بعض، وضبط كلماته بالضم والفتح والكسر، ووضع علامات الوقف والابتداء، ووضع الدوائر المرقوم فيها أرقام الآيات في كل سورة.. إن كل هذه الإضافات لم تكن موجودة في العصر النبوي بل ولا في عهد الخلفاء الراشدين.
وفي الرد على هذه الشبهة نقول وبالله التوفيق:
إن تأخير تدوين القرآن الكريم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وجمعه في مصحف في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا مساس له مطلقا بوحدة القرآن الكريم وصلة كل كلمة بالوحي الإلهي لأن القرآن الكريم قبل جمعه كان محفوظا كما أنزله الله علي خاتم المرسلين.
والعرب قبل الإسلام كانوا ذوي ملكات في الحفظ لم يماثلهم فيها شعب أو أمة من قبلهم أو معاصرة لهم ومن يعرف الكتابة والقراءة فيهم قليلون فكانوا يحفظون عن ظهر قلب ما يريدون حفظه من منثور الكلام ومنظومة.
وروعة نظم القرآن الكريم ونقاء ألفاظه وحلاوة جرسه وشرف معانيه هذه الخصائص والسمات فاجأت العرب بما لم يكونوا يعرفون، فوقع من أنفسهم موقع السحر في شدة تأثيره على العقول والمشاعر فاشتد اهتمامهم به وبخاصة الذين كانوا من السابقين إلي الإيمان به وكانوا يترقبون كل جديد ينزل به الوحي الأمين يجمعون بين حفظه والعمل به.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما نزل عليه شيء من الوحي يأمر كتاب الوحي بكتابته فوراً سماعا من فمه الطاهر ثم ينشر ما نزل من الوحي بين الناس.
وقد ساعد على سهولة حفظه أمران:
الأول: نزوله منجما أي مفرقا علي مدي ثلاث وعشرين سنة لأنه لم ينزل دفعة واحدة كما كان الشأن في الوحي إلى الرسل السابقين.
والسبب في نزول القرآن الكريم مفرقا هو ارتباطه بتربية الأمة والترقي بها في مجال التربية طورا بعد طور ومعالجة ما كان يجد من مشكلات الحياة ومواكبة حركة بناء الدعوة من أول شعاع فيها الي نهاية المطاف.
الثاني: خصائص النظم القرآني في صفاء مفرداته وإحكام تراكيبه والإيقاع الصوتي لأدائه متلوا باللسان مسموعا بالأذان وما يصاحب ذلك من إمتاع واقناع كل ذلك أضفي علي آيات القرآن خاصية الجذب إليه والميل الشديد إلي الإقبال عليه بحيث يجذب القاريء والسامع واقعا في أسره غير ملول من طول الصحبة معه.
وفواصل الآيات في القرآن الكريم تؤدي دورا مهما في الإحساس بهذه الخصائص وهي سمات عامة في القرآن كله وبهذا صار القرآن الكريم سهل الحفظ لمن حاول وصدق في طلبه وسلك الطريق الحق الموصل إليه.
إن الحفظ كان العلاقة بين المسلمين وبين كتاب ربهم وكان الحفظ له وسيلة واحدة ضرورية يعتمد عليها هي السماع.
وهكذا وصل إلينا القرآن الكريم من بداية نزوله الي نهايته.
وأول سماع في حفظ القرآن الكريم كان من جبريل عليه السلام الذي وصفه الله بالأمين وأول سامع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع القرآن الكريم كله مرات من جبريل عليه السلام.
وثاني مسمع كان هو عليه الصلاة والسلام بعد سماعه القرآن الكريم من جبريل.
أما ثاني سامع للقرآن الكريم فهم كتاب الوحي لأنه كان إذا نزل الوحي وفرغ من تلقي ما أنزله الله دعا كتاب الوحي فاملى علي مسامعهم ما نزل فيقومون بكتابته علي الفور.
وقد يسر الله تعالي لحفظ القرآن الكريم واستمرار حفظه كما أنزله الله أوثق الطرق وأعلاها قدرا ومكانة.
وكان جبريل عليه السلام يقرؤه علي النبي في كل عام مرة في شهر رمضان المبارك وفي العام الذي لقي فيه ربه تم عرض القرآن الكريم تلاوة علي جبريل مرتين، زيادة في التثبيت واليقين.
وفي هذه الفترة لم يكن للقراء مرجع سوي المحفوظ في صدر النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأصل الذي يرجع إليه عند التنازع أما ما كان مكتوبا في الرقاع والورق فلم يكن مما يرجع إليه الناس مع صحته وصوابه.
وكونه مكتوبا في الرقاع إملاء من فم النبي صلى الله عليه وسلم فهو حفظ من الله للتنزيل.
وتم الجمع الأول في عهد الصديق أبي بكر رضي الله عنه في مصحف واحد ثم تسلمه الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبعد وفاته كان في حوزة ابنته أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها.
وهذا الجمع تم فيه جمع الوثائق التي كتبها كتبة الوحي في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعني تنسيق وثائق كل سورة مرتبة آياتها علي نسق نزولها وإطلاق لفظ المصحف إطلاق مجازي صرف والقصد منه أن يكون مرجعا موثوقا به عند اختلاف الحفاظ.
ومما يجب التنبيه إليه مرات أن الجمع في هذه المرحلة لم يضف شيئا أو يحذفه من تلك الوثائق الخطيه التي دونت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إملاء منه علي كتبة وحيه الأمناء الصادقين. وللحديث بقية.