رؤية الشاعر/ عبد القادر أمين
عضو اتحاد كتاب مصر
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية
طالعتُ ببالغٍ من التّركيز والحبّ كتابَ “الإصرار” للكاتبة الصحفية الأستاذة/ إسلام العيوطي؛ فوجدتُ نفسي أمامَ مقولةٍ رائعة ربّما تلخّص الأمر؛ وهي: “خيرُ الكلام ما كان معناه إلى قلبِك أسبقَ من لفظِه إلى سمعك”..
وأقسّم قراءتي هذه إلى محوريْن:
المحورُ الأوّل: خطوطٌ عامّة:
• نحنُ أمامَ عملٍ يصنّف على أنّه تنميةٌ بشرية, بينما يمكنُك بقليلٍ من التّركيز أن تصفَه بمنظومةِ عزفٍ على وترِ اليأس لتصنعَ لك نغمًا يبْدو حزينًا لكنّه يُشعرك بالرّاحة النفسية والاسْترخاء, وكأنّك في “ساونا” تنتعشُ الرّوحُ بعدها, وتعودُ لسابق عهدها معَ فطرتها السّوية.. حيث ينسجُ الحلم فيها خيوطَ الخلاص؛ فليس للذّة قيمةٌ بدون الألم, ولا متعة بصباح الأمل بدون لحظاتِ الألم الليلية.
• أستطيعُ القولَ إنّ العملَ ينضمّ لقافلة الأدبِ المقالي الذي ينتزعُ البلاغةَ ليطعّم بها طبيعةَ المقال الصحفي؛ حيث استطاعتْ أن تضعَ المعنى في الحياةِ التي ليس لها معْنى, وتصنعَ من الواقع- الذي هو رافدٌ هامّ للصّورة الإبداعيةـ خلقًا جديدًا, ظهرتْ بعضُ ملامحه, ومازالتْ هناك مناطقُ بكرٌ اسْتغلقت على القارئ تحتاج جهدًا دؤوبًا لإيضاحها.
• إنّ فكرةَ الإلحاح, أو ما يماثلُ العنوانَ من لفظِ الإصرار, ليفرض نفسَه على القارئ ليخلق معَه جسرًا انسيابيًّا رشيقًا بدافع الحبّ, يأخذُ به إلى الاستقرار والإصلاحِ والتغيير الذاتي, ثمّ الالتفافِ حول فكرة الوطن بمفهوميه العام والخاص, وذلك منذُ الوهْلة الأولى؛ من خلال الإهداءِ الذي ارتبطَ فيه مفهومَا الانكسار والألم بدفء التّلاحم والتّرابط من خلال جدارِ الأرواح القويّ والقويّة عبرَ عثرات الزمن؛ حين تقول: “إلى كلّ مَن يتألّم دون أن يتكلم.. سلامًا على أرواحٍ رحلتْ من بيننا…/ وبذلك استطاعوا أنْ يبنوا جدارَ أرواحنا من لبنةٍ قويّة تقاومُ الكسرَ والانحناءَ عبرَ عثراتِ الزمن”
• إنّ من يرى “إسلام العيوطي” تصيبُه الدّهشة حين يدركُ أنّ هناك تفاوتًا بالغًا بين العمر الزّمني لها والعمرِ الثقافي والإبداعي, فبينما هي وادعةٌ هادئةٌ في براءة الأطفال؛ إذْ بك بكتابِها هذا تقرأ لكهلٍ عركتْه السّنونُ فصنعتْ منها قامةً فكريةً على درجةٍ من الأهمية في ساحةِ القراءة الواعية الهادفة, حيث تتلمّس في كتاباتها لغةَ الحكمة وعمقَ الدّلالة التي تنفذ إلى مُرادها مباشرةً فى انسيابية مُبهرة؛ لا هي بالمعقّدة المُفرطة فى الأكاديمية والتنظير, ولا بالبسيطة السّطحية؛ ولكنّها تفرضُ على القارئ نوعًا من الأسْر لا ينفكّ منه إلّا بكامل إرادتِه عندَ بلوغ نهاية المقال.
• نحنُ أمام كاتبةٍ تعرفُ وتعي ما تكتب, أو ما تبثّه من معانٍ. تهتمّ بالكيف لا بالكم. يقظة حين يعانق قلمُها الفكرة.
• الكتابُ يقدّم رؤيةً إصلاحيّة تفرض نفسَها على الكاتبة, وتبدو في كلِّ أو جلِّ المقالات- بدليل ورودِ الآية في المفتتح {والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا وإنّ الله لمع المحسنين}- واضحة جليّة فى مواقف, ومشروحة فى مواقف أخرى بمعناها.
• إنّ التّترس بالثّوابت والمفاهيم الدّينية, وكذلك النّزعة الإيمانية, طاغٍ على مدار العمل- على خلافِ ما هو مُعتَمَد لدى الكثيرين في مجالِ التّنمية البشرية- والتي خطأ صنّف الكتابُ ضمنَها- حيث الاعتماد فقط على المعلومة والإحصاء والنقولات الغربية… أمّا هنا فمعَ اهتمامِها بآليات الكتابة, لكنْ جاء جليًّا واضحًا- بل مُبهجًا- الاستشهادُ بالآيات والأحاديث الشّريفة والإلحاحُ في بثّ هذا الأمر على مدارِ العمل كله، سواء في الثّوابت المطلقة التي تلحّ عليها الكاتبة, مثل قولها: “الحلمُ الذي يراودُه, والهدفُ والغاية التي يريد الوصولَ إليها تقومُ في المقامِ الأوّل لإرضاء الله”، أو في بعض العباراتِ العابرة, مثل “الأشواكُ كانت متعنّتةً في الأوجاع, لكنْ هيهات لمَن تمسّك بحبل الله ومرادِه..”, أو في العبارات المقتضَبة مثل “الأجرُ بالنّية”.
• التّركيزُ على مفهوم “الحلّ والخلاص” في كثيرٍ من المواضيع الشّائكة يكشف عن المصْداقية والانسجامِ بين شخصيّة الكاتبة الفكريّة وصدقِ العنوان الذي يستشرفُ المستقبلَ الجميل.
• الكاتبةُ تحمل الهمّ الوطني والعربي, بلْ والإسلامي- في الفصل الخامس- على كتفيها, وتدورُ به على السّطور.
• تعتمدُ الكاتبةُ صيغةَ الاستفهام وأسلوبَه في كثيرٍ من العنوانات الرّئيسة, فضلًا عن ثنايا العمل؛ ممّا يعكس حالةَ الحيرة والتردّد الذي تعيشه- ونعيشُه جميعًا- ألمًا؛ مثل: “رسالة الإسلام الحرب أم السلام؟” “بماذا وصف أدباءُ الغرب محمدًا؟” “التعليمُ مهنة أم رسالة؟” “مَن أنت؟” “الألمُ يأتي بعده يأس أم أمل؟”
• نجحتِ الكاتبةُ بموضوعيّة ومنهجيةٍ في عرضِها لأفكارها من خلال إصرارها المصبوغ به العنوانُ الرّئيس على ربطِ الواقع بالمستقبل بمعزوفةِ الحلم والخلاص الجميل.
المحورُ الثّاني: وقفاتٌ متفرّقة:
1- الفصلُ الأول “الانكسار ولحظاتُه المؤلمة” (15 : 55) جاءَ وكأنّه يبحث عن نفسِه في كلّ قارئ, وهو فكرةٌ واحدةٌ متجانسة رغمَ تفاوت موضوعاتِه الظاهريّ؛ حيث هناك خيطٌ رابط وتضفيرٌ رشيق عنِ العلم والتعليم ومشاكلهما حين عشّقَتْ مفاهيم: الثقافة, مع جدوى الدّراسات العليا, ودور الأسرةِ في عقبة الثانوية العامة؛ بشفافية كاشفة. ثمّ ما أجملَ ختامها بعنوان “لكلّ داءٍ دواء”.
2- الفصلُ الثّاني “الإنسانُ ما بين الطموح والعقبات” (55 : 75), والتي اتّخذت فيه من شخصِ طه حُسين- رغمَ تفاوت الآراءِ حولَ فكرِه قبلَ وبعدَ كلّ مُنحنيات حياته- علامةً على تحدّي العقبات والوثوقِ في النفس, ثمّ تفوّقت على نفسها حينَ أردفت ذلك بعرضٍ سلِسٍ لمُتحدّي الإعاقة على مرّ العُصور في غيرِ إفراطٍ ولا تفريط.
3- وأمّا عن الفصلِ الخامس “رسالةُ الإسلام الحربُ أم السلام؟” (107 : 133), فهو نوعٌ من النّزيف الداخلي, وحسرةِ الاضطهاد وتشويه الصورة.. تجسيدٌ رائع في تمازجِ الدّاء والدواء, المرض والعلاج, حين تعرض آراءَ الكثيرِ من الغربيّين في النّبي الكريم, وما قالوه عنه صلى الله عليه وسلم.. بما يثلجُ ويشرح الصّدر, لكنّه في الوقت ذاته يعرّي التقصيرَ الذي لن يُحاسَب عليه إلّا الضميرُ العربيّ المكلوم في عشيرته.
4- المقالاتُ تجتمعُ على منظومةٍ واحدة تنكأ الجرحَ لتداويه, وتُظهرُ العيبَ لتلافيه, لم تنجرفْ لسيلٍ من التشدّق بالماضي, أو العزفِ على وتر الحضارة المُنْسكبة على رصيف التشرذم, ولم تغرق في متاهات الواقع وفوضويّته؛ بل تمرّ على ذلك مرورَ الكرام في محاولةٍ لمواجهة النفس والتّغلبِ على العثرات, والإصرار على النّجاح وتجاوز المشكلات.. في صورةِ ومضاتٍ سريعة وإشاراتٍ هادفة تترك العقلَ والقلبَ في أشدّ لحظات المحاسبة للنفس.
خالص تحياتي ودعواتي بمزيدٍ من الوعي والتّميز فوقَ ما تملكين.