كتب- أحمد نورالدين:
فى إطار احتفال الازهر الشريف باليوم العالمى للغة العربية، أقام مجمع البحوث الاسلامية وقطاع المعاهد الأزهرية احتفالية كبرى تحت عنوان (اللغة العربية.. الحاضر والماضى) بقاعة الاندلس بمركز الازهر للمؤتمرات بالقاهرة، وذلك بحضور جمع كبير وحاشد من علماء الأزهر ودعاته وخبراء ومحبى لغتنا العربية.
وقال الدكتور نظير عياد أمين عام مجمع البحوث الاسلامية فى كلمته والتى جاءت تحت عنوان (اللغةُ العربيةُ مكانتُها وفضلُ الإسلامِ عليها): معلومٌ أنَّ كلَ أمةٍ من الأممِ تفتخرُ بلغتِها وتعتزُ بها وتعتقدُ أنها أفضلُ اللغاتِ، ولا عجبَ في ذلك، فاللغةُ هي هويةُ الأمةِ وسبيلُ مجدِها وتاريخُ حضارتِها، كما أنها بالنسبةِ للأممِ جميعًا أداةُ تواصلِها وطريقةُ تفكيرِها، ورمزُ عزتِها، ومصدرُ فخرِها، وأسلوبُ حياتِها، لكنها للأمةِ العربيةِ كلُ هذا وتزيدُ عليه أنها لغةُ دينِها وكتابُ ربِّها، جعلَ اللهُ فهمَها ضرورةً وتعلُمَها شرفاً، لهذا كان ارتباطُ المسلمِ بلغتِه مختلفًا عن ارتباطِ أيِّ إنسانٍ بأيةِ لغةٍ أخرى، إذ لا يستطيعُ المسلمُ أن يقرأ كتابَه بغيرِ لغتِه التي نزلَ بها، كما لا يتأتَى له القيامُ بأداءِ شعائرِهِ وإتمامِ عباداتِهِ بدونِها، فهي وسيلةُ المسلمِ لفهمِ مقاصدِ النصِ القرآنيِّ ومعانيِهِ وغاياتِهِ الكبرى المتمثلةِ في تلقِي الأحكامِ الشرعيةِ منه، ولذلك استعانَ العلماءُ باللغةِ العربيةِ وفنونِها في فهمِ مرادِ اللهِ في كتابِه والكشفِ عن أسرارِه، وتحديدِ دلالاتِهِ.
موضحا: لقد أعطى القرآنُ الكريمُ اللغةَ العربيةَ أكثرَ من كونِها لغةً، فقد حافظَ عليها بحفظِ اللهِ تعالى له، قال تعالى: ” إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” (الحجر:9)، فاستمدتْ منه كمالَها وجلالَها وجمالَها، فكان لها سببًا من أسبابِ السماءِ، وهذا ما عبرَ عنه الثعالبيّ بقوله: ” إنَّ مَنْ أحبَ اللهَ تعالى أحبَ رسولَه محمداً صلى الله عليه وسلم ومن أحبَّ الرسولَ العربيَ أحبَّ العربَ ومن أحبَّ العربَ أحبَّ العربيةَ التي بها نزلَ أفضلُ الكتبِ على أفضلِ العَجَمِ والعربِ ومن أحبَّ العربيةَ عُنِيَ بها وثابَرَ عليها وصرفَ همَّتَه إليها”.
بجانبِ هذا فإنَّ اللغةَ العربيةَ هي لسانُ أهلِ الجنةِ، وهذا دليلُ فضلِ الإسلامِ على العربيةِ وأهلها، يقول الفارابي الفيلسوف في ذلك: هذا اللسانُ كلامُ أهلِ الجنةِ وهو المُنَزَّهُ من بينِ الألسنةِ من كلِّ نقيصةٍ والمُعَلَّى من كلِ خسيسةٍ والمهذَّبُ مما يُسْتَهجنُ أو يُسْتَشْنعُ فبنى مبانيَ باينَ بها جميعَ اللغاتِ من إعرابٍ أوْجدَه اللهُ لهُ وتأليفٍ بينَ حركةٍ وسكونٍ حلاَّه به فلمْ يجمعْ بين ساكنينِ أو متحرِّكينِ متضادينِ ولم يُلاقِ بينَ حرفينِ لا يأْتلفانِ ولا يَعْذُبُ النطقُ بهما أو يَشْنَعُ ذلك منهما في جَرْسِ النَّغَمَةِ وحسِ السمعِ كالغينِ مع الحاءِ والقافِ مع الكافِ والحرفِ المُطْبَقِ مع غيرِ المطبقِ مثلَ تاءِ الافتعالِ مع الصادِ والضادِ في أخواتٍ لهما والواوِ الساكنةِ مع الكسرةِ قبلَها والياءِ الساكنةِ مع الضمةِ قبلها في خِلالٍ كثيرة من هذا الشكل لا تُحْصَى.
فاللغةُ العربيةُ فضلُها كبيرٌ وشأنُها عظيمٌ ويكفي أنها انتقلتْ من كونِها لغةَ شعبٍ وإقليمٍ إلى لغةٍ كونيةٍ حين غدتْ لغةً سماويةً، لغةَ القرآنِ الكريمِ، وبالتالي فقد حَوَت عقيدةً كونيةً أعلنتْ عن نفسِها عقيدةً للبشرِ عامةً، وهذا ما جعلَ العربيةَ في أقلِ من قرنٍ، لغةً عالميةً كبرى تشكلتْ في أُطُرِها وسياقاتِها أسسَ الحضارةِ الكونيةِ العظمى التي سادتْ العالم قروناً عديدةً، وامتدتْ على مساحاتٍ شاسعةٍ من قاراتِ العالمِ القديمِ، وغدتْ لغةَ الحضارةِ الإنسانيةِ التي انحلتْ في بوتَقَتِها لغاتٌ وحضاراتٌ متعددةٌ، وشكّلتْ بالتالي حَلْقَةً محوريةً في الحَلَقَات الحضاريةِ الإنسانيةِ الكبرى.
وقد قُدِّرَ لها البقاءُ دونَ تحريفٍ قبلَ الإسلامِ ثم زادها اللهُ تعالى عزةً وشرفًا وكرامةً بأن اختارها لغةً لكتابِه فحُفِظَتْ بحفظِه ورُفِعَ شأنُها بسببِه، وبالجملةِ فإن ظاهرةَ الامتدادِ التاريخيِ غيرَ المنقطعِ للعربيةِ يعودُ إلى نقطةِ التحولِ الكبرى في تاريخِ العربِ، التي يمثلُها الدينُ الإسلاميُ وكتابُه المقدسُ القرآنُ الكريمُ الذي غَيَّرَ العالمَ، وحَفِظَ العربيةَ لغةً مقدسةً، ولغةَ حضارةٍ وفكرٍ إنساني.
لقد كانَ الإسلامُ نقطةَ انطلاقٍ للعربيةِ من لغةٍ قوميةٍ محصورةٍ في إطارٍ قومِيّ جغرافِيّ محدودٍ إلى لغةٍ عالميةٍ، لغةٍ تجاوزتْ الأُطرَ الجغرافيةَ والقوميةَ لتغدوَ لغة َحضارةٍ كونيةٍ فَرَضَتْ سيطرتَها طيلةَ قرونٍ عديدةٍ وامتدتْ على مساحةِ قاراتِ العالمِ القديمِ، تاركةً آثارَها العميقةَ على كلِ الشعوبِ التي دخلتْ في الإسلامِ وتعربتْ، والتي احتفظتْ بلغاتِها الأصليةِ، كما هي الحالُ في اللغةِ الفارسيةِ والتركيةِ والأرديةِ، ولكنها وقعتْ تحتَ تأثيرِ العربيةِ لغةِ القرآنِ على نحوٍ كبيرٍ، تأثيرٌ ظهرَ في كتابةِ هذه اللغاتِ بالحروفِ العربيةِ، وفي تبني عددٍ كبيرٍ من مفرداتِها وصورِها ومصطلحاتِها.
لقد كانتْ العربيةُ لغةَ حضارةٍ كونيةٍ تأسستْ انطلاقاً من العقيدةِ الإسلاميةِ وكتابِها الكريمِ الذي يمثلُ نموذجَها الأعلى والذي حَفِظَها حيةً متجددةً، وهي إلى هذا لم تتحولْ إلى لغةٍ لاهوتيةٍ، مثلَ بعضِ اللغاتِ الأخرى، بل ظلتْ عبرَ القرونِ لغةَ الحياةِ والعلمِ والفكرِ الإنسانيّ( )، وكلُ هذا يؤكدُ على فضلِ الإسلامِ على العربيةِ وأهلِهَا، الأمرُ الذي يدفعَنُا إلى ضرورةِ التمسكِ بها، والحفاظِ عليها والعملِ على استعادةِ مكانتِها خصوصًا مع كثرةِ التحدياتِ وتعددِ المعوقاتِ التي تعملُ على وَأْدِ اللغةِ والاستهانةِ بها والخروجِ بها والدعوةِ إلى استبدالِها أو العملِ على تغييرِها أو على الأقلِ مسخِها باعتبارِ ذلك يؤدي إلى مسخِ الهويةِ، وغيابِ صورةِ الشخصيةِ التي كونَتْها هذه اللغةُ باستنباطِ نصوصِ الدينِ قرآنًا وسنةً.
إن العربيةَ اليوم تعانِي ما تعانِيه الأمةُ، ولكنها تملكُ على الرغمِ من كلِ ما أصابَها ويصيبُها مِنْ وَهَنٍ ومِنْ جنايةِ أبنائِها عليها عناصرَ قوةٍ تمكنُها من التجددِ والانتشارِ، لكونِها مرتكزَ العقيدةِ الإسلاميةِ، ولغةَ حضارةٍ كونيةٍ ما زالتْ تفرضُ حضورَها في العالمِ حتى يومِنا هذا، ولغةً تمتازُ بمرونةٍ وقابليةٍ غيرِ محدودةٍ للتعبيرِ عن الفكرِ والعلمِ والمعارفِ الإنسانيةِ. ولو أُتِيحَ لها حركةُ ترجمةٍ مبدعةٍ شبيهةٌ بمثيلتِها في القرنينِ الثالثِ والرابعِ الهجريينِ لكنا اليومَ أمامَ نموذجٍ متفوقٍ للغةِ تعليمٍ في الجامعاتِ بدلا من استعمالِ لغةٍ أو لغاتٍ أجنبيةٍ أو هجينةٍ.
فيما قال الدكتور سلامة داود رئيس قطاع المعاهد الازهرية فى كلمته: تحية إجلال وتكريم لمولانا فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الذي حَرَصَ على إقامة هذا الاحتفال ، وضرب مثلا في كلماته في المحافل المحلية والدولية بسلامة لغته وعلوها وصفائها ، وجدد في صورها ومبانيها ومعانيها ، وكان الأزهر الشريف ولا يزال حصنا حصينا لعلوم الدين واللغة ، وكان من أعلامِه في الدين واللغة قديما وحديثا مَن أكل الناسُ الدنيا بعلومهم ، منهم الشيخ العلامةُ أبو رجاء محمد محيي الدين عبد الحميد ، والشيخ العلامة محمد على النجار ، والشيخ العلامة محمد عبد الخالق عُضِيمة ، والشيخ العلامة محمد رجب البيومي ، والشيخ العلامة محمد أبو موسى ، والشيخ العلامة محمد الأمين الخضري ، والشيخ العلامة السعيد عبادة ، وغيرُهم كثير وكثير.
إن هذه اللغةَ الشريفةَ قد أودعها الله جل وعلا من الأسرار ما تَفْنى الأعمارُ في كشفه ولا يَفْنى ، ولا يُدرَكُ شىءٌ من ذلك إلا بالتدبر وطول النظر وكثرة المفاتشة ، وكان الإمامُ عبدُ القاهر الجرجانيُّ يرى أن ذلك لا يُنالُ إلا ” بسَفَرِ الخاطر” ، وهي كلمة جليلة جدا ، ومِنْ قَبلِه قال لسانُ الأمة القاضي أبو بكر الباقلانيُّ إن إدراك ذلك لايكون إلا ” بسكون طائر وخفض جَناح ” ، وهذه الكلمات ونظائرُها كثير ، وفيها من سداد المنهج العلمي في البحث والدرس نظيرُ ما فيها من حسن العبارة وروعة التصوير، وهي كلمات جرت كأنها الأمثال السائرة ، وقل في حسنها وسدادها ما شئت.
ومن لطائف هذه اللغة أن تعبر حروف الكلمة عن معناها تعبيرا وتصورَه تصويرا، ومن المشهور في ذلك لفظ ” بَلَعَ ” فهو يصور بحروفه حركة اللقمة فى الفم ؛ وهذا يحكيه البدأ بالباء لأنها من الشفتين ، واللام من اللسـان الذى يلوك اللقمة، ثم العين الحلقيـة التى تنزلق بعدها اللقمة من البلعوم إلى مستقرها بالمعدة ، وضدها ” نَبَذَ ” تدل بمخارج حروفها على إلقاء الشىء وطرحه كاللقمة تلفظها من فمك ، فالنون من احتكاك اللسان بسقف الحنك تحكى التأهب لإخراج اللقمة ثم الباء تحكى وضعها على الشفتين ثم الذال تحكى دفعها بقوة خارج الفم ، وذكر السكاكى من هذا كلمتى ” الثَّلْمِ ” و ” الثَّلْبِ ” الأولى بالميم الذى هو حرف خفيف بين الشدة والرخاوة لخلل فى الجدار ، و ” الثَّلْبِ ” بالباء الذى هو حرف شديد للخلل فى العِرْض ، قال البابَرْتِى “لأن الخَلَلَ فى العِرْضِ أَشَدُّ وأشقُّ من الخَلَلِ فى الجِدار “، وذكر منه السكاكى أيضا ” الزفير ” بالفاء لصوت الحمار ، و” الزئير ” بالهمز الذى هو شـديد لصـوت الأسـد، وهذا باب عريض ، لاتزال تطلع منه على لطيفة ، ومنه ما ذكره بعض أهل العلم أن اسم الجلالة ” الله ” أوله الهمزة وآخره الهاء وهما حرفان حلقيان إشارة إلى أن البداية منه والنهاية إليه ، فقيل له لم لا تقيد هذه الخواطر فتمثل بقول الشاعر :
تألَّقَ البَرْقُ نَجْدِيًّا فقُلْتُ له : يا أيُّهَا البَرْقُ ، إنِّى عَنْكَ مَشْغُولُ
وكم ضاع من العلم من مثل هذه الخواطر التي لم تُقَيَّد.