لم يكن العرب القدامى بعيدين عن علم الجغرافيا وهذا ليس من باب الانتصار للتراث، فإن العرب اكتشفوا الجاذبية وكروية الأرض في القرن الأول الهجري، فما زلنا نطالع من حينٍ لآخر عبقرية الحضارة العربية، فتبهرنا بما توصلت إليه من اكتشافات وحقائق رغم فقر الآلة وانعدام التكنولوجية وقتئذٍ.
تعلمنا في مدارسنا أن إسحاق نيوتن [المتوفى سنة 1727م] يجلس في حديقة منزله، فتسقط على رأسه تفاحة من أعلى الشجرة، فيفكر في اتجاه سقوطها إلى أسفل دون أي ناحية أخرى، فكان بذلك البدء في القول بالجاذبية وقوانينها، وهو ما وضعها في مؤلفاته التي أشهرها الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية.
لا نختلف على عبقرية نيوتن وما قدمه للبشرية، لكن نطالع كتاب المسالك والممالك للعلامة العربي عبيد الله بن عبد الله بن خُرْداذَبة [المتوفي سنة 92هـ] ونعثر فيه على معلومات غزيرة تعد في وقتها اكتشافًا أو تأكيدًا عليه، فأول ما يلقانا في هذا السفر العظيم حقيقتان:
الأولى: جاذبية الأرض.
الثانية: الأرض كروية.
يبدأ الكتاب بهذه العبارة: (صفة الأرضِ أنها مدورة كتدوير الكرة، موضوعة في جوف الفلك كالمُحَّة في جوف البيضة والنسيم حول الأرض، وهو جاذب لها من جميع جوانبها إلى الفلك، وبنية الخلق على الأرض، أن النسيم جاذب لما في أبدانهم من الخِفَّة، والأرض جاذبة لما في أبدانهم من الثقل؛ لأن الأرض بمنزلة الحجر الذي يجتذب الحديد).
وينظر الجغرافي العربي إلى الأرض بوصفها دائرة مبينًا خط الاستواء الذي يقسمها نصفين ، فيقول: (والأرض مقسومة بنصفين، بينهما خط الاستواء، وهو من المشرق إلى المغرب، وهذا طول الأرض، وهو أكبر خط في كرة الأرض، كما أن منطقة البروج أكبر خط في الفلك، وعرض الأرض من القطب الجنوبي الذي يدور حوله سُهَيل إلى القطب الشمالي الذي يدور حوله بناتُ نَعْش، فاستدارة الأرض في موضع خط الاستواء).
تميز عبيد الله بن عبد الله في كتابه هذا بعبقرية منقطعة النظير، فقد بذل جهدًا عاليًا في شرح تخطيطيٍّ للكرة الأرضية وتوزيع العمران البشري في مناطق بعينها وخلوه من بعضها، يقول: (فاستدارة الأرض في موضع خط الاستواء ثلاثمائة وستون درجة، والدرجة خمسة وعشرون فرسخًا، والفرسخ اثنا عشر ألف ذراع، والذراع أربع وعشرون إصبعًا، والإصبع ست حبات شعير، مصفوفة بُطونُ بعضِها إلى بعضٍ، يكون ذلك تسعة آلاف فرسخ، وبين خط الاستواء وبين كل واحد من القطبين تسعون درجة أُصْطرلابية، واستدارتها عرضًا مثل ذلك، إلا أن العمارة في الأرض بعد خط الاستواء أربع وعشرون درجة، ثم الباقي قد غمره البحر الكبير، فنحن على الرُّبع الشمالي من الأرض، والربع الجنوبي خراب؛ لشدة الحرِّ فيه، والنصف الذي تحتنا لا ساكن فيه، وكل ربع من الشمالي والجنوبي سبعة أقاليم، وذكر بطليموس في كتابه أن مدن الأرض على عهده كانت أربعة آلف ومائتي مدينة).
لم يقف حد الإنجاز العلمي عند ذلك بل امتدَّ ليخبرنا عن جمعٍ من قضايا علم الجغرافيا، ما يتصل بالأرض وتضاريسها وجبالها وامتداد أنهارها، وما له صلة بالعنصر البشري والمدن والعمارة والمسافات بينها، والطرق المؤدية إليها، واتجاه القبلة لكل مدينة.
فنراه يصف الجبل الذي هبط عليه آدم – حسب اعتقاده- بأنه جبل ذاهب في السماء يراه مَنْ في مراكب البحر، فذكرت الرَّاهمة وهم عُبّاد الهند أن على هذا الجبل أثرَ قَدَمِ آدمَ مغموسٍ في الحجرِ.
ويتحدث إحدى الجز، فهناك ناس سود مفلفلون يأكلون الناس أحياء يشرحونهم تشريحًا، وفي جبال الزابج حيات عظام تبلع الرجل والجاموس، ومنها ما يبتلع الفيل، وبها عجائب لا تُحْصَى.
ومما يأخذ الذهن ما ذكره عن أقوامٍ عُراةٍ لا يُفهم كلامهم؛ لأنه صفير، وهم صغار في الحجم، ويستوحشون من الناس طوله، الإنسان منهم أربعة أشبار، يتسلقون على الأشجار بأيديهم من غير أن يضعوا أرجلهم عليها.
ولم يترك كتابه دون أن يلقي الضوء على عجائب الدنيا في زمانه، فذكر أنها أربعة، الأولى: مرآة معلقة بمنارة الإسكندرية كان يجلس الرجل تحتها فيرى مَنْ بالقسطنطينية وبينهما عرض البحر، والثانية: فرس من نحاس كان بأرض الأندلس، والثالثة: منارة من نحاس عليها راكب من نحاس بأرض عاد فإذا كانت الأشهر الحرم هطل منها الماء فشرب الناس، والرابعة: شجرة من نحاس عليها سودانيَّة من نحاس بأرض رومية.
ووقف أمام عجائب الأهرامات المصرية، واختص منهما هرمين، وذكر أنه بجوارهما عشرة أهرمات صغيرة، ووصف مادتهما بأنها رخام ومرمر، ووصف طولهما وعرضهما، وما هو مكتوب عليهما، وذكر أنهما من بناء بطليموس القَلُوني الملك، ومكتوب عليهما: إني بنيتهما فمن كان يدعي قوة في ملكه فليهدمهما، فإن الهدم أيسر من البناء.
وتظهر معرفته بالبلدان، فيصف عجائب بعضها، فمثلا مَنْ يدخل (التُّبَّت) لم يزل ضاحكًا مسرورًا من غير سبب يعرفه حتى يخرج منها، ومن دخل من المسلمين بلادًا في آخر الصين تُدْعَى الشّيلا، بها الذهب الكثير استوطنها؛ لطيبِها ولم يخرج عنها، أما الموصل بالعراق فمن أقام بها حولاً وجد في قِوَّتِهِ فَضْلا بيِّنًا، ومن أقام بالأهواز نقص عقله، ومن سكن البحرين عظم طحاله، ومن مشى في مدينة رسول الله عليه السلام وجد رائحة طيبة عجيبة.
ولم يفته أن يتحدث عن النيل العظيم، فيقول إن مخرجه من جبل القمر باليمن، ويَصُبُّ في بُحَيْرتَيْنِ خلفَ خطّ الاستواء، ويطوفُ بأرضِ النُّوبة، ويَجِيءُ إلى مصر، فيَصُبُّ بعضه بدمياط في البحر الروميّ (المتوسط)، ويشقُّ باقيه الفسطاط، حتى يَصُبَّ أيضا في البحر الروميّ.
هذا ليس دفاعًا عن تراثنا العربي، ولكنه إظهار لبعض عبقريته التي تعلم منها العالم، ولا يعني أن كل ما ذكره عبيد الله بن عبد الله كان له صدق علمي غير مكذوب، فالنظريات العلمية تختلف من زمان إلى آخر وتتبدل، لكنّ الأمر المؤكد هو إننا نهيب بالباحثين في مجال الآثار والجغرافيا والعمران بأن يقوموا بدراسة هذا الكتاب دراسة علمية فاحصة لما يتضمنه من معلومات جديرة باكتشافها.