كن وسطيًا
عبد الرحمن علي البنفلاح
الوسطية مبدأ إسلامي عظيم، وصفة لأمة الإسلام لم تحظ بها أمة من قبلها، وهي من لوازم الأمة الشاهدة التي أحلها الله تعالى هذا المقام الرفيع أن تكون شاهدة على الأمم، ومنصفة لأنبياء الله ورسله الكرام حين يطلبون شهادتها حين ينكر أقوامهم ما بذله أنبياؤهم من جهد ومجاهدة في سبيل هدايتهم إلى صراط الله المستقيم.
وفي تقرير الوسطية للأمة الإسلامية وإرساء دعائمها قال الله تعالى: «كذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً» (البقرة 143).
وهي من صفات عباد الرحمن اللازمة لهم. قال تعالى: «والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً» (الفرقان 67). وأكد هذا المعنى وأرسى له قول الحق سبحانه وتعالى: «ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً» (الإسراء 29).
فبعض الأغلال مطلوب، وبعض البسط مطلوب، لكن كل الإغلال وكل البسط مذموم كل واحد منهما لأن فيهما مبالغة لا ينبغي أن يتصف بهما المسلم الذي من صفاته الوسطية والاعتدال. وقد يتساءل إنسان ما علاقة الوسطية بالعدل كقيمة إسلامية يحرص عليها ويدعو أتباعه إلى الإتصاف بها وممارستها في حياتهم.
القيمة العليا للوسطية إنها قيمة حيادية، ومنها أخذت كلمة الوسيط الذي يتوسط بين شخصين كل واحد يدعي الحق إلى جانبه، وهنا يأتي الوسيط وعدالته, حيث يقف من المتخاصمين في مكان وسط بحيث تكون مسافته بين الخصمين متساوية فيرى حسنات كل واحد منهما وسيئاته بعين واحدة، فإذا ميز أحدهم في أي شكل من أشكال التمييز فلا يصلح أن يكون وسيطاً. وحتى تكون الوسطية صفة ملازمة للمسلم لا تنفك عنه، ولا ينفك عنها، فإن الإسلام حض أتباعه على الوسطية حتى في العبادات لأن الذي يبالغ في العبادة قد يكره لنفسه عبادة ربه سبحانه، ولهذا حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من التشدد في الدين فقال صلوات ربي وسلامه عليه: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثاً، رواه مسلم. و«المتنطعون» المتعمقون المتشددون في غير موضع التشديد.
وقال صلى الله وسلم عليه في حديث آخر: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» رواه البخاري.
إذاً، فالوسطية صفة غالبة في الأمة الإسلامية في أكلها وشرابها، وفي ملبسها، بل حتى في حبها وبغضها، وأيضاً في أدائها للطاعات حتى لا يمل المسلم عبادة ربه فقليل دائم خير من كثير منقطع، والصبر في أحد مراتبه صبر على الطاعة وهو أشد أنواع الصبر لأن فيه دوام واستمرار، لهذا وجهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نكلف أنفسنا فوق ما تطيق حتى لا نزهد في العبادة، ونبغض بسبب المبالغة عبادتنا لله تعالى، فالله تعالى لا ينظر إلى كثرة ما نؤديه من عباده، بل ينظر سبحانه إلى نوعية هذه العبادة القدر المتيقن فيها من الإخلاص له سبحانه والتجرد من حظوظ النفس فركعتان في جوف الليل تجوّدهما، وتحسن أداءهما دون رياء ودون سمعة خير من عشرات الركعات تختال فيها وتتعالم وتحرص على أن يراك بعض أهلك وأنت غارق في التسبيح والتهليل والدعاء.
إذاً، فالوسطية في الإسلام أسلوب حياة للمؤمن يعود نفسه عليها لأنه محتاج إليها ليؤدي بها حقوق الآخرين.