أمل دنقل بين التحديث والرفض السياسي
محمد الشحات محمد
يُمثّل المبدع الحقيقي إشكالية في حد ذاته ، فإن رحل عن العالم الأرضي تظل إبداعاته المتجددة بؤرة الانطلاق إلى عوالم من النقد والبحث والدراسات .. ، ومن هذه العوالم ما يستحق الاهتمام والقراءات المتأنية ، ومنها المنقول “كوبي ، بِست” من موقع لآخر ، ومن ورقة إلى أوراق ، وربما يُغيّر الناقل بعض المفردات ، وهكذا تكون “سلة المهملات” هي الحاضنة لمثل هذه الأوراق والأحبار.. ، بينما تُعاود إشكالية المبدع الراحل الساكن في الوجدان ، وتشكيلات إبداعاته المرتبطة بالواقع ، تعاود الصرخة في وجه الحقيقة حتى تبدأ أقلام جديدة في تحرير هذا الراحل الحي من قيْد المتقولبين والمتغولين والحاقدين حتى على الموتى ، وهذه الأقلام الجديدة هي الجديرة بالاحترام وقراءة حروفها النابضة بالإنصاف والنقد الإبداعي الصحيح ،والذي لاتعرف الفيروسات له طريقًا ..
لقد عاش أمل دنقل شاعرًا قوميًّا وسياسيًّا من قاعدة المجتمع ، واستفاد منه كبار الساسة دون الاعتراف بفضله ، كما كان مُلهمًا للشعراء ، وهاجموه غيرةً وحسدًا ، وكان وسيظل ذلك النهر الأسمر الذي لايجف بحسه الوطني وشعبيته وأجراسه الفصيحة المتناغمة التي تسحب المتلقي نحو الأعمق الغامض ، فهو لم يكن الشاعر القديم بموسيقاه دون أفكار ، أو ذاك الحديث بأفكارٍ دون موسيقى ، وإنما هو ذلك العاشق والمعشوق ، هو الثائر والمحارب والساهر والمُفكر والشاعر المتنبئ .. هو “سبارتكوس” الحر في وجه القيصر وأتباعه ، هو النضال والاستسلام في نفس الوقت .. هو ذلك السياسي المُحنّك الذي استطاع –رغم الفقر والمرض- أن يجعل من شعْره قْلبًا ينبض بحب الجميع وكشف الجميع ، وفي قصائده طلبات إحاطة واستجوابات للجميع .. ، جعل من شعْره عملاً وابنًا ورفيقًا رغم “السرير” في غرفة معهد الأورام .. جعل من شعره مَهرًا غاليًا لمعشوقته ، فكانت معه عبر الأرصفة والفنادق لعدم القدرة المادية لتوفير سكن الزوجية .. جعل من شعره أداة البرّ بوالده الذي فقده في سن مبكرة ، وجهاز إعلام وتصحيح للواقع “الجنوبي” وقطاراته التي شهدت تغلّب الشاعر على السارد رغم الملاحقات الأمنية “من مذكرات المتنبي في مصر” .. جعل الشعر من أمل دنقل نفسه ذلك المتسامح حتى مع مَن حاربوه ، ونصبوا له شباكًا من الاتهامات وألبسوه ثيابًا غير ثيابه النقي الشفاف
تأتي ذكرى رحيله ، وتحتفي الجهات الرسمية به من خلال كتاب حول سيرته الذاتية دون قراءة متعمقة لأشعاره، وكتاب آخر حول بعض قصائده التي كتبها في أول العشرينات من عمره ولم تنشر من قبل ، ومُحاطة بكتابات أخرى لم تكن على قدْر أهمية هذا الشاعر الكبير في زمن أقزام الحرف واستبدال الاحتراف بالانحراف و”استكثار” النعم!
ليس طبيعيًّا أن يصدر كتاب حول “أمل دنقل” ، ويحتوي على دراسات شبه مُكررة من باحثٍ إلى آخر مع تغيير عناوين الدراسات وأسماء الباحثين وبعض المحتوى دون مراجعة دقيقة من مسئولي النشر ومعدّي الكتاب ، أو على الأقل كان يجب على المراجعين أن يقوموا بما كان يقوم به “أمل دنقل” في كتاباته من حيثُ المراجعة والتنقيح حتى آخر لحظة في المطبعة ..
لقد عانى “أمل دنقل” في حياته من بعض الأصدقاء الشعراء ، وأراد –متسامحًا وقدرةً- أن يمنحهم الفرصة كي يكتبوا ويأخذوا مكانتهم ، وكان ذلك بأن سلك مسلكًا مخالفًا لهم ، فهو إذْ كان يكتب الشعر العمودي والتفعيلي ، تركه ليكتب قصيدته الحرة المُمَوسقة ، والقائمة على جملة إيقاعية متكررة “لاتصالح” ، وكان يكتب بالعامية الجنوبية ، فتركها ليكتب باللغة الفصيحة الجامعة بين الحداثة والحضارة ، وكان بإمكانه كتابة القصة بإبداع المعاناة التي كان يعيشها ، ولكنه ترك القصة لتبزغ في بعض أعماله الشعرية .. ، كما كان يستطيع أن يُحافظ على وظيفته التي تعددت من المحكمة بمحافظة قنا إلى المنظمة الأفروأسيوية بالقاهرة مرورًا بالأسكندرية والسويس ، لكنه كان أسرع في إدراك قدْر موهبته ، والتي لن يُمهلها العمر أن تضيع وسْط صراعات بين الأدباء أو زملاء الوظيفة الروتينية ..
وتمرّ السنوات ، ويزداد شعر أمل دنقل السامق وَهَجًا رغم اختلاف ظروف كتابتها ورحيل بعض من حاربوه ، ومازال بعضهم حيًّا يحسده حتى بعد وفاته لأنه استطاع أن ينقش اسمه في ذاكرة الإبداع الثوري المتجدد ، وهاهي أشعاره يُردّدها الشباب الذين لم يعاصروه في ميادين الحرية ، ويؤكدون على ذكاء دنقل وموهبته التي جعلت إبداعه تشكيلاً يسحبُ المتلقي في أي زمانٍ إلى عوالم يعرفها هذا المتلقي ، وإن لم يكن يتذوقها أو يجد من يعبّر عنها ، فتَلمسه عقلاً وروحًا ، وإن شغلته بعض المفارقات والصور مثل “المجد للشيطان معبود الرياح” ليفهم أن هذا الشيطان هو هذا الرافض للقيد والقهر والتبعية ، وهذا هو المطلب الأساسي لحرية الإبداع والتلقي ، وإن أخذ مُسمى الشيطان ، فهذا المُسمّى من وجهة نظر كهنة التابوهات والسلاطين ، ولكن تظلّ الإنسانية هي الهدف إرسالاً واستقبالاً أمام المُبدع الحقيقي ، فيرسم بالحرف إلهامًا صور المستقبل .. ، فهاهو “البكاء بين زرقاء اليمامة” مازال ينهمر ، و مازالت كما هي يمامة لم تتوحش ، وإن كانت عينها تميل إلى الاحمرار ، ومازال الجميع يشغله “تعليق على ماحدث” أيام نكبة 67 ، والمطالبة بتعديل معاهدة كامب ديفيد الذي كتب فيها قصيدته الشهيرة “لاتصالح” ، والتي كانت واحدةً من حيثيات لقب “أمير شعراء الرفض السياسي” الذي أُطلق عليه ، وإن كان أمل دنقل –من خلال أشعاره- يرفض الألقاب والشعارات ، ورغم “مقتل القمر” إلا أن الشمس مازالتْ تؤكد استمرار الحياة والإشراق ، ولتشهد القراءات كشْفًا جديدًا في “العهد الآتي” عبْر اللغة الشعرية والانزياحات والإيقاع المستحدث في شعر أمل دنقل ، وحتمًا ستأتي “الروح المهجورة” بأسرارٍ و”أقوال جديدة عن حرب البسوس” لتفتح “الشرفة” بإشكاليات جديدة لِمَن أراد “الزيارة” النقدية المستقبلية مغتسلاً من “نهر الخطايا” بالترميز وصوت التراث ، ومُحدّثًا للصورة المُمَوسقة التي بدأت عند أمل دنقل من “أوراق الغرفة 8” ولن تنتهي أبدًا.