بقلم: د. مصطفى النجار
سفينة شقت طريقها تجرى فى موجٍ هائجٍ متلاطمٍ كالجبال، فما انكسر شراعها، ولا تصدعت أركانها، و أنجزت رحلتها تحت سماءٍ فُتِحَت أبوابها بماءٍ سيالٍ هاطلٍ منهمرٍ، وأرضٍ تفجرت عيونا بماء فوار ثائر مندفع، فما غمرتها سيول السماء الهاطلة، ولاهزتها ثورة ماء عيون الأرض المتفجرة، وما جنحت عن غايتها، حتى استوت على جبل الجودى، فَنَجَّى الله بها المؤمنين، وقيل بعداً للقوم الظالمين.
تلك سفينة صنعتها أيادى النبوة المتوضئة القديرة الماهرة، وعقلها العبقرى الرائد، فأتقنت التصميم وأجادة الصنعة، وأبدعت فى الإدارة والقيادة، أخلص نوح عليه السلام التوجه للخالق وصدق فى إتقان العمل والإدارة والتوجيه، فكان خير رُبَّانٍ قاد سفينة البشرية لشاطىء النجاة وبر الأمان، هل كانت النجاة ممكنة اذا تخلى نوح عليه السلام عن رسالته؟ أو أساء صنعتة أو إدارته وقيادته؟ إن النجاة لم تكتب لنوحٍ والبشرية معه لنبوته فحسب، كُتِبَت النجاة لهم حين اقترنت أنوار النبوة بِحُسنِ الصنعة والمهارة، عندما جمع نوح بين طُهرِ الرسالة وإخلاص التسبيح من جهة ودقة وكفاءة التصميم وجودة الإنتاج من جهة آخرى، حين زَاوَجَ بين صلابته فى الحق وصبره على قومه وإبداعه فى دعوتهم وبين جَدَارَتِه فى قيادة وتوجيه السفينة، لقد تَجَلَّت عظمة ذاك النبى فى امتزاج رغبته فى الآخرة بِحُسنِ وإتقان عمارته للدنيا، بمثل هؤلاء وأتباعهم تنجو البشرية وتصل سفينتها لشواطىء الأمل والرقى والتقدم، باقتفاء أثر هؤلاء الأطهار تنهض الأسر والمجتمعات وتُبنى الأمم.
و حين نُقَيِّمُ حظ العالم العربى من أنوار النبوة وقيم السماء، نجد حسرةً خانقةً وخزياً مؤلماً، ضياعاً للأخلاق وغياباً للفضيلة إلا قليلاً، وظهوراً للفساد وشيوعاً للرشوة والعقوق والرزيلة، وشباباً إذا لم نتدارك فسادَ أخلاقهم وأفكارهم، فنتعهده بالتقويم والإصلاح فهم الخطر الذى يهدد البلاد والمجتمعات.
أما حظنا من إتقان الصنعة و وفرة الإنتاج، تكشف سوئته الصادرات والواردات، وتبديه لنا سيارات تَملاءُ شوارعنا ليس فيها واحدةٌ صنعتها أيدينا، وطائرات تحلق فى سمائنا إذا تلفت أحد أجزائها، توقفت حتى يرسل لنا صانعوها البديل، وثروات فى باطن الأرض يخرجها لنا غيرنا، يُقَاسِمُنَا فيها إذا تكرم علينا، أو يأخذَ خيرها ويترك لنا الفُتَات، ونحن فى أشد الحاجة اليها، و ماكينات بالشركات لا يُمكِنُنَا صناعتها ولا صناعة الخامات التى تعمل بها، وغيرِ ذلك مما لا يتسع لذكره مقام، زد على ذلك عنصر بشرى لا يتقن غالبيته إلا الإهمال والكسل، نموذج لسوء الصنعة وضعف الانتاج و غياب الاخلاق والانضباط أى خِزىٍ هذا؟ هل تعلمنا من نوحٍ عليه السلام؟ أم أننا لا نقرأ؟ أم نقرأ دون وعى ولا عمل؟
إنه لا أمل للشرق العربى والاسلامى فى النهوض، ليتبوأ مقام الأجداد من المجد والعزة، إلا إذا اقترنت أنوار النبوة وقيمها النبيلة بإتقان الصنعة وحُسنِ الإدارة فى قلوب وسلوك أبنائة فى مواقع العمل والإنتاج، و فى القلب منهم الشباب، سننهض حين يكون لمحراب العمل والإنتاج فى نفوس العاملين قُدسِيَةٍ لا تقل عن محراب الصلاة والتسبيح، سنعود للعزة والصدارة عندما تمتزج رغبتنا فى الآخرة بِحُسنِ وإتقان عمارتنا للدنيا، عندها سيكون للشرق العربى والإسلامى على هذا الكوكب مكان ومكانة، لِيَتَزَينَ بعودته مقام القيادة والريادة، وفى القلب منه مصرنا الحبيبة، حفظ الله مصر.