متابعة – عبد العزيز اغراز
خلال مداخلته مساء السبت 14 من الشهر الجاري في الليلة الرقمية السادسة والستين من ليالي الوصال الرقمية للطريقة القادرية البودشيشية، تطرق الدكتور منير القادري الى حاجة عالم اليوم إلى التربية الروحية الأخلاقية.
تساءل القادري في بداية مداخلته عن مدى حاجة المجتمع الراهن إلى تصوف سني يؤسس لتربية صوفية صحيحة وسليمة ذات أصول قرآنية ونبوية في وقت أصبحت فيه كل وسائل الهداية لا تجدي وفشلت فيه اغلب مشاريع الاصلاح الاجتماعي.
وأكد في معرض جوابه أن التربية الصوفية العرفانية الأصيلة أصبحت في وقتنا الراهن أمرا ملحا، لأنها الكفيلة بتوجيه الإنسان نحو طريق الهداية والسمو الأخلاقي والرقي في مدارج السالكين، ولأن غايتها الاهتمام بالبعد الروحي والأخلاقي للإنسان ضمانا لتوازنه.
وتطرق لتعريف التصوف موردا مجموعة من التعاريف التي قدمها العلماء، ليخلص الى أن التصوف في حقيقته هو شرح لمعنى الإحسان، وأنه أحد أركان الدين الثلاثة كما جاء في حديث جبريل الذي رواه مسلم في صحيحه، عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “أخْبِرْنِي عَنِ الإحْسانِ، قالَ: أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فإنَّه يَراكَ “.
وأضاف أن التصوّف في أصله وتطوّره صَدَرَ عن الاستدامة على تلاوة القرآن وتدبّر معانيه والتخلّق بأخلاقه، وأنه من آيات كتاب الله استمدّ مشايخ الصوفية خصائص القرب الإلهي ومقام المراقبة.
وزاد أن التصوف هو العلم بتزكية النفوس وطهارة القلوب، حتى ترتقي إلى حضرة ملك الملوك، وأنه معرفة خواطر النفس وأماراتها ودقائق تلوناتها وفِطاَمِها عن شهواتها.
وأوضح أن وظيفته هي جعل كل الأعمال والتكاليف خالصة لوجه الله، وكذا الاهتمام بطهارة القلوب وتخليصها من الغفلة والقيود، مشيرا الى أنه علم الإخلاص الباطني الذي يهتم بصناعة الإنسان وإعداده إعداداً متكاملاً دينياً و دُنيوياً في ضوء مصادر الشريعة الإسلامية، ووفق منظور التحقق بمقامات أولياء الله الصادقين في مقامات القرب.
ولفت إلى أن التصوف السني قَدَّمَ عبر التاريخ نماذج إنسانية وحضارية راقية شكلت مرجعا قيميا وأخلاقيا وروحيا كبيرا، وكان لها الأثر البالغ في إشاعة روح التعايش والتسامح بين الأفراد والجماعات، مقدما أمثلة على ذلك.
وأشار رئيس مؤسسة الملتقى الى أنّ المتصوّفة أسّسوا «فقه الباطن» مثلما أسّس الفقهاء «فقه الظاهر»، وأن هذا الفقه انشغل بأخلاق النفس ووسائل تربيتها، وأنه بذلك جاء موازيًا لأحكام فقه الجوارح ومكمّلًا لها.
وبين أن أساليب شيوخ التصوف عبر التاريخ اختلفت في التعبير عن اندماجهم وخدمتهم للناس والمجتمع، غير أنهم سعوا جميعا الى نسج أواصر التعارف والتفاهم والألفة بينهم وتفعيل ثقافة الحوار والتعايش وترسيخ القيم الإسلامية النبيلة الداعية إلى التسامح والمحبة والسلام.
وأكد أن منهج الصوفية يقوم على أساس أن يقابل الخير بالخير، وأن يقابل الشر بالخير أيضا، و السعي في زرع إرادة الخير في الإنسان، وتخليق الحياة العامة، لافتا الى أن هذا الأمر عجزت عنه كثير من البرامج الإصلاحية في المجتمعات الإنسانية، واستطرد موضحا أن السادة الصوفية يقتدون في ذلك بالصحابة وبالسلف الصالح، حيث انهم لم يتفرغوا فقط للعلم الديني ولا الدنيوي، ولم ينصرفوا إلى الدنيا أو إلى الآخرة، بل جمعوا بين الحسنيين.
ونوه الى أن الصوفية المغاربة ابتعدوا عن “التصوف الفلسفي”، وانشغلوا بما يلبي حاجات المجتمع من الأمن في مختلف تجلياته، منه الأمن من الأطماع الخارجية التي كانت تهدد البلاد في بعض الحقب التاريخية، حيث أقاموا الرباطات لحماية الثغور، وكذا الأمن الغذائي بإصلاح الأراضي وبناء الزوايا لإطعام عابري السبيل، وإيواء المحتاجين، ثم الأمن الروحي بحماية العقيدة ونشر العلوم بحمل مشعل تعليم الناس أمور دينهم، وغير ذلك من أنواع الأمن التي جنّد صوفية المغرب كل إمكاناتهم وطاقاتهم من أجل تعزيزها والحفاظ عليها وترسيخها.
وأضاف أن التصوف جعل هذا البلد عبر تاريخه الشامخ بفعل تذوقه للفكرة الصوفية آمنا مطمئنا يَرْفُلُ في حلل الوئام والاستقرار.
وزاد أن التصوف السني كما أرسى قواعده السلوكية شيوخ التزكية وعلم السلوك من أهم مميزات التدين الإسلامي في المغرب وكثير من الدول الإفريقية جنوب الصحراء.
وأكد أن التجربة المغربية جديرة بالاهتمام عبر استثمار ما يكتنزه التصوف من طاقات أخلاقية وجمالية في مواجهة تحديات العصر وزحف التيارات المادية وأزمة الأخلاق في الكثير من المجتمعات المعاصرة.
وفي ذات السياف أورد رئيس المركز الاورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم مقتطفا من الرسالة الملكية السامية التي وجهها جلالة الملك محمد السادس نصره الله إلى المشاركين في الدورة الوطنية الأولى للقاء سيدي شيكر 2008 “ولعل صوفية المغرب قد تميزوا عن سواهم بما غلب عليهم من نزعة اجتماعية وتربوية وخلقية، فقد اشتغلوا على الخصوص بتعليم القرآن الكريم ونشر تعاليمه، بأسلوب مبني على مخاطبة القلوب وتعميق رجائها في رحمة الله”، وأيضا قول جلالته في ذات الرسالة “والتصوف وإن كان مداره على التربية وترقية النفس في مدارج السلوك، فإنّ له تجليات على المجتمع، ومن هذه التجليات ما يظهر في أعمال التضامن والتكافل، وحب الخير للغير، والحلم والتسامح ومخاطبة الوجدان والقلوب، بما ينفعها ويقومها “.
وذكر القادري بإجماع الباحثين على “أن التصوف السني يشكل في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ شعوب المنطقة والعالم على حد سواء مدخلا لبناء مجتمع أخلاقي وكيان حضاري متجدد ومنتج لقيم البناء الحضاري للإنسان والعمران وتحقيق المواطنة الصادقة في النفوس وفق رؤية تحافظ على ثوابت الأمة الدينية والتاريخية، وفي نفس الوقت قادرة على مسايرة العصر في جميع متغيراته وتطوراته و مخاطبة الأخر المخالف انطلاقا من منظور يعتمد الأخلاق أساسا له”.
واختتم مداخلته بالتأكيد على أن التراث الروحي للتصوف السني شكل على مر التاريخ المغربي جزءا مهما من هوية المغاربة، وشكل مصدرا قويا لتعزيز قيم الاعتزاز بالوطن وبذل الجسد والروح في سبيل المصلحة العليا للبلاد ونفع الخلائق وتصفية النفوس، وغير ذلك من قيم المواطنة الصادقة والتضحية التي يحتاجها شبابنا اليوم حتى يستحقوا رفع لواء هذه الأمة مجندين وراء جلالة الملك محمد السادس نصره الله.