قراءة في قصيدة “أبتي” للشاعرة سَفَّانة بنت ابن الشاطئ
محمد الشحات محمد
* يقولون: “ما مات حقٌّ وراءه مُطالب”، فكيفَ يموتٌ حقُّ وطن؟
المطالِب هنا في المقام الأول أبناءُ هذا الوطن، وأبناء الأبناء، وتتوالى الأجيال، وإن اختلفت الأنظمة، والمؤسسات والمُنظمات، أو مالت المعايير، مع احتراف انحراف الساسة وألاعيبهم.. ، فالوطن حق مشروع، ولا مفرّ من عودة الحق إلى أصحابه، لكن ..
– كيف يُطالب صاحبُ الحقِّ بحقِّه، وما دور الإبداع، وهل يُعتدُّ به في المواثيق الدولية، وما هي الدوافع؟
– هل نجح الإبداع مثلا في استعادة الحق الفلسطيني المشروع؟
إذا كان الإعلام يمثِّل نسبةً كبيرة، في طرح القضايا، وتوعية الشّعوب، فمن ناحية أخرى، يُمكنه التضليل والتهويل والتهوين، بلْ وافتعال الأزمات والثورات لاحتلال أراضي الغير، وسيطرة العولمة، ونهب الثروات، وإعادة ترسيم وتقسيم الدول .. أليس كذلك؟
إذًا .. لا يكفي الإعلام وحده، إنما لا بد من إبداعٍ جديد، مؤثر، لتوجيه الرأي العام نحو المستجدات، وإدراك ماهية الخلْق، وسر استمرار الحياة!
وهنا .. هل نجح الشعراء العرب في فترة ما بعد الستينات في استعادة الحق الفلسطيني، وأين هذا الشِّعر من احتلال العراق، وبعدها ما أسمته وسائل الإعلام ربيع الثورات العربي، ثمّ انقلبت عليه، بل وتم تقسيم السودان، وأين هذا الشِّعْر من إعلان “ترامب” أمريكا صهْينة القدس واعتبارها عاصمةً لإسرائيل، وضم الجولان السورية، وشائعات الوطن البديل، وغير ذلك؟
هل نفعت مدرسة “المقاومة” الشعرية التي أسسها محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، أو”مدرسة الثورة الفلسطينية”، وفيها محمود درويش أيضًا مع عز الدين المناصرة، وأين صحيفة القدس ومجلات النفائس، والفجر، وصوت العروبة، وجريدة “غزة” التي كانت تُوَزّع في مصر والسعودية والأردن، وغير ذلك من المنابر والخُطب؟
* وهل تمكن الشّعْراء الحاليون من استثمار الإعلام البديل (الأنترنت) بكل هذا الانتشار في التأثير على صانعي القرار على مستوى العالم؟
لم يستطيعوا أن يفعلوا ما فعلتْه “كورونا” .. ، وإذا كان لا بدّ من الاستمرار في المطالبة بالحق، فهل استحدثوا آليات، واختلفوا عن سابقيهم شكلا ومضمونًا، ليجعلوا من إبداعهم وسيلة مهمة في الأنشطة السياسية والوجدان الإنساني؟
– متى يكون الأب رمزًا للوطن، وهل ما خارج النصِّ يُسجّل في داخله؟
* دارت هذه الأسئلة وغيرها، وأنا أقرأُ قصيدة “أبتي” للشاعرة سَفّانة إسماعيل (بنت ابن الشاطئ)، وهي ابنة الشاعر الفلسطيني الكبير إسماعيل إبراهيم شتات، الذي عُرف بابن الشاطئ،
ليس غريبًا أن تكون المقدمة التي كتبتها الشاعرة قبل قصيدتها، قَنْطرةً للوصول إلى فكرة رفض الموت، واعتبار “الوصيّة” من أسرار العمر الممتد، وإذْا كانت الوصية شِعرًا بعنوان “ابنتي”، فإن تنفيذ تلك الوصية يُحَتِّمُ أن يكون عنوان الردّ “أبتي”، وكأن شاعرتنا تقول: حدثوني عن أبي الراحل/وطني المفقود، ولو بشيء من شِعْره/ حقّه المشروع،
ثم أن شاعرتنا تشير في مُقدّمتها للقصيدة إلى توكيد أبيها عليها في رسالته/الوصية على أنها “سَفّانة جوهرة نادرة الوجود”، كأنه يقول لها: هو اسمك، اللؤلؤة، أو الجوهرة، التي كان الأب يُكْنى بها، كـ حاتم طِّيِّيء، وابنته الصحابية (النادرة) سَفَّانة بنت حاتم، وبالتالي، فإنه طبيعيّ أن تعتز الابنة الشاعرة بِمُعَرَّف أبيها بين الشعراء، وهو “ابن الشاطئ”، لتكون هي بنتَ ابن الشاطئ، الأمينةَ على رسالته، القادرةَ على تحقيقِ أمنيتِه، كما جاء بالوصية: ” ضُمي بلادكِ، أسترح بسمَائي “، مهما واجهت في الطرقات البائسة!
وقبل الدخول في القصيدة/الرد “أبتي”، أحسبُ أنه من الجميل الاستفادة ببقعة ضوء حول ما قبل الرد، وذلك من خلال أبيات للشاعر الأب/مُرسل الوصية ..
يقولُ الشاعر إسماعيل إبراهيم ابن الشاطئ:
أعطني أرضًا، وخذْ مني ذراعًا .. وذراعا .. وأعِدْ زورقَ أحلامي، فمازِلْتُ شُعاعا
أزرعُ الضوء حقولا، أتحدّى المستحيلَ .. وعلى رِحلة محراثي .. تجَسَّدْتُ أصيلا
ويقول:
لا تُطْلقي ساقيكِ للريحِ .. إذا شاخ المكانُ .. أنا والعُروبةُ توأمانِ، ولنْ يُحرّفَنا الزمان
..
في الرد على “ابنتي”، وبعنوان “أبتي”، تشتركُ روح التحدي، والثبات، والحلم، والضوء، وتجسيد الصور، والزرع، والأشجار، والجنائن، والسماء، مع التمسك بالأرض، والبلاد، وكذا الريح والإصرار رغم الحرمان، وأحزان الوطن المفقود، لكنه الثبات الذي لن تغيّره الأزمنة، وإن انحرفت المعايير الدولية …
تقول شاعرتنا:
عجَّت رياحُ الحزنِ في أرجائي .. لله .. ما أقسى أفول ضيائي
يتفنّنُ الوجعُ المقيتُ مدجّجًا .. يهبُ الفؤادَ إلى أثيرِ سمائي
فـــ يجسّدُ الألمُ المهيبُ مُعانقًا .. ما شاءَ من صورٍ ومن أصْداءِ
اشتدت رياح الحزن، وأثار صوتها العالي غبارًا عجيبًا، غيِّب معه الضياء/شهرتها، وكان سَببًا في الوجع المُسلَّح، البغيض،الذي يبدعُ في إعطاء الفؤاد مجانًا لوسط لا لون له، لكنه كريه، كرائحة شجرة السماء في الصين (إشارة إلى كورونا)، وقد عمّت الرائحة الأجواء كلها، فيُجسّدُ هذا الألم الذي يخافُه الناس كل صور المأساة، والعطش الشديد (إشارة إلى اقتراب الموت)، وما له من انعكاسات عند أفراد المجتمع، ومنها استدعاء رسالة أبيها، وخصوصًا تزامن ذكرى رحيله الثانية عشرة مع إبريل هذه الجائحة، بل واستدعاء وطنيته، ومفردات قصيده..
وبهذه الروح النابضة المتصلة، تعلو الابنة الشاعرة على أي احتراقٍ وألم، فتخترق صوتَ بكائها بمحاولة الدخول إلى البيت الكبير الساكن فيها من أبيها (خير الرجال) .. تقول “سَفانة بنت ابن الشاطئ”:
وعلى احتراقِ الخافقينِ توثبَّتْ .. في لهفةٍ ..صوفيةٍ .. أرجائي
حاولتُ أن أجدَ الدخولَ لهيكلي .. وأُطيلُ في خيرِ الرجالِ رِثائي
وهنا قفزت أطرافها في لهفةٍ صافيةٍ، وراحت تذكر محاسنه وأمنياته، تلك التي تتداخل مع محاسنها وقدراتها، بفعل الجينات ..، تقول:
ما زِلتُ وردتَكَ الجميلةَ يا أبي .. تشتاقُ حُضْنَ رياضِكَ الغنّاءِ
قد عشتُ دَهِرا في فؤادِكَ غضَّةً .. كالـياسمينةِ عند نبـعِ الماءِ
لكنّ هذه الياسمينة النضرة عند الماء تبدّل حالها برحيل أبيها/فقد الوطن ..
أمستْ بدونِكَ مهرة مسبية .. أو نجمةً حَيرى بغيرِ فضَاءِ
فالمُهرة الأنثى/ الوردة النضرة أمست مسبية، أو نجمةً تجهل طريقها، لاختفاء الفضاء، فكيف تتصرف، وفيما يبدو أنه لا حيلة لها؟
يقول المتنبي: إذا رأتِ الأسْدَ مسبيّةٌ .. فأين تفرُّ بأطفالها؟
ما أقسى أن تكون أسيرًا في مواجهة القوى الغاشمة، وما الحال إذا لم يكن لك مكان أصلا، وظهرُ أمانٍ تستند إليه، وحصْنٌ تحتمي به؟
ولأنه الوطن/الأب، ولأنها الوصية والجينات والولاء والانتماء، فلابد من العمل والتحدي، والاستقواء بموروث القيم، وإن انتشر الغبار في الدروب، فلا مفر من أن نسلكها، دون انتظار العون من غريب، ولنا رؤانا –وحدنا/وحدي- التي نبصر/أُبصرُ بها الأشياء ذوات العمق، مهما طوّح بها الغبار المُعوِّقُ، وسْط الضحكات التي تخبئ تحتها نيرانًا، تحرق كل محتل، وُتشعلها تقاسيم الوجه وإشاراته المكسورة .. تقول:
ما زلتُ أركضُ أستقيكَ منَ الظمَا .. وغـبار دربي ثـار في أنحـائي
وحدي أسافر والرؤى أرجوحةً … من ضحكةٍ مكســـورةِ الإيمــاءِ
وتشير الشاعرة إلى مقولة “لن يحكّ جلدك مثل ظفرك” .. ولذا، فهي تصرح أنه لن يحلّ مشكلتك يا وطني، ويحقق مُنَى أبي إلا أنا (أنا الشاعرة)، وتؤكد (بمفردي)، فالشاعرة هنا هي المسئول عن تحقيق مًنى أبيها، واستعادة حقّه الوطن المشروع ..، فحبه هو الفلك التي تجري في غزير البكاء والحنين، ولا يهمّ هنا ضعفها الظاهر، ولن يثنيها صغرها في مواجهة العواصف .. تقول:
ألقيتُ في قلبي ضياكَ بمفردي .. فهوى وراءك إذ رحلتَ ضيائي
فُلْكُ هواك وفي عواصِفِه أنا .. (ما زلتُ أحبو) في غزيرِ بكائي
وهنا .. ما سرُّ كلِّ هذا الحب؟ الإجابة في قولها:
فرِضاكَ عندي خَيرُ ما أسْعَى له .. لولاَ رضاكَ .. إذن أموتُ بِدائي
وهنا يأتي التناص في عبارة “مازلتُ أحبو”، ولذا وجَبَ أن تكون بين قَوْسين، وفي المأثور أن “رضا الأب من رضا الرب”، لذا، فهو خير ما تسعى إليه الابنة الشاعرة، ولأنه عندها خيرُ الرجال، ويتداخل رضاه مع رضا الوطن بناءً عن رسالته الوصية القصيدة، فهنا سر الحياة الذي يرفض الموت لذاته، فما بالُ الموتِ بسبب داء، كان يمكننا تجنبه، والاحتراز منه، وهنا التوازي بين داء عدم رضا الأب والوطن، مع داء الكورونا الذي يخافه الناس، وإن كان بإمكانهم الاحتراز، والتزام البيت،
ولكن أين هو البيت؟ أين الشجر والطير والأمان؟ أين الوطن؟
تنادي الوطن في سياق حديثها إلى أبيها (شجرها الملتف/النَّسَب/الهُوية) الذي تحنُّ إليه، فلا يمكن تَصَوُّرُ ابتعادِ الغصن الأخضر المثمر عن الجذع/الوطن الأصلي، وإلا فالعبث، والرياح الصادمة، والبعد عن الدار، وغروب الشهرة/وافتقاد الهُوية ..، ولن يستطيعَ طوفان الكون/أيْ وطن بديل –مهما كان حنانُه وجمالُه- إشباع الرغبة في هذه الحياة .. تقول:
خذْني إليكَ وضُمَّني يا أيكَتي .. أنا منكَ غصـــــنٌ وارفُ الآلاءِ.
إنَّ الغصُونَ إذا نأتْ عن جِذعِها .. برُوائِــها عبثَتْ يَــــدُ الأنــــواءِ
لولاَ حنانُ الجذعِ.. يغدو عاجزا .. طوفان ُهذا الكون عن إروائي
وفي ظل هذا الحنين إلى الوطن المفقود، والأب الراحل، وجمر الاشتياق، والعمل الجاد، والدمع الغزير لتحقيق هذه المُنى، يأتي فيروس “كورونا” معاندا، لتقفَ كلُّ الأنشطة، ويتسمّر الزمن، لكن هنا لابد من التفاعل مع هذا المستحدث، واستثماره، فلا معنى لليأس، إنما هنا توقُّفُ الأنشطة العالمية، بخساراتها الاقتصادية، هو في الوقت نفسِه توقفٌ للتسلط والجبروت، ووقفةٌ لإعادة موازين القوى، وبغض النظر عن أن هذا الفيروس طبيعي، أومصنوع (أمريكيا كان أو صينيًّا)، فقد كان له فائدته غير المسبوقة للمستضعفين، وبالتالي فالزمن عند الشاعرة توقَّفَ، لاستعادة حقوقها المسلوبة، وعليه، فقد ينتشر، ويعمّ أثره في فراغ بيتها، وبيت أبيها/الوطن، وقالت هنا “بِفِنائي”، ولم تقل “بِفَنائي”، أو “فَناءِ” لعموم الهلاك، إنما هو فِناءُ البيت، للحياة من جديد.
ما يرقأ الدمع الهَتُون كآبةً .. فالجمرُ في جَوفي وفي أحشائي
يتسمّرُ الزمنُ الهزيــلُ معاندا … أبدا.. فيستشري خوا بفِنائي
إنه الحضورُ، والفكْر اليقظ، والأمل الدافع إلى اقتناص واستثمار المنح، التي تأتي مع المحن، و(مصائب قوم عند قوم فوائد) .. تقول:
ستعــود ذاكـــــــرةُ الإباءِ فتيّةً .. عربيــةً تجتاحُ كــــلَّ فضـــاءِ
وتُضيء في مقلِ الضمائرِ شُعلةً .. رغم الدجى ووقاحــــةِ العمــلاءِ
وتعـــــود راحلــةُ النضـال أبيّـــةً .. تُذْكي الوغى في صحوةِ الشرفاءِ
الأمل في عودة ذاكرة الإباء العربية بقوةٍ، تهلكُ كلَّ جبارٍ، وتستأصلُ عموم قرارات الظلم الزائفة، رغم الظلام والعملاء ..، ستعود رحلة النضال والكفاح بعزةٍ، تُشعلُ ساحة المعركة من جديد، تقودها صحوةُ الشرفاء!
ومع مضارعة الفعل، واستمرار العمل والكفاح، يسمو الشهيد إلى ربه، وهنا تتحول المنى إلى حقيقةٍ على أرض الواقع .. تؤكد ذلك في بيت واحد، يكون في شطره الأول الفعل مضارعا، ينتهي بسمو الشهيد، ليبدأَ الشطرُ الثاني، وحتى ختامِ القصيدة بالفعل الماضي، كأن الحلم تحقَّق ..تقول:
يسمو الشهيـــدِ إلى جنائنِ ربّهِ .. وهوى العميلُ بهُـــوَّةٍ سوداءِ/ كأداءِ
وهنا يختلف الملف الصوتي عن المكتوب في نهاية هذا البيت، إذْ تختمه الشاعرة صوتيًّا بلفظة “سوداء”، وغيرتها في المكتوب إلى “كأداء”، بمعنى الصعبة، أو الليلة المُظلمة، والدلالة واحدة، وإذا كان يجوز صرف الممنوع في الشعر، فأحسب إن “سوداء” أفضل، لقرب دلالتها مما هو موروث ..
قد يكون العميلُ هنا هو المُتخاذل، أو الخائن، أو حتى الصديق الذي ينصح بجهل، ولذا، فلا بد تجاهله، بل عقابه، بقدر خيانته ..، وهنا تقول الشاعرة الفلسطينية د. ربيحة الرفاعي:
دَعْ عَنْكَ نُصْحًا لا يُصيبُ مسامعًا .. واهجرْ صديقَ أسىً، بِجهْلٍ ضَيَّعكْ
مـــاذا تؤمّل في جهــالة أمّـــةٍ .. ثَمِلتْ عُيونَ القلبِ، كي لا تَسْمعَكْ
وتستمر الشاعرة “سَفَّانة بنت ابن الشاطئ” باستخدام الفعل الماضي، إشباعًا لرغبتها في رضا أبيها، وتحرير وطنها (فلسطين/المقصد) من أي نظريات غير عربية خالصة ..، وهنا يكون صباح العودة إلى الصبا، وميلاد الحياة.. تقول:
وغدتْ فلسطينُ الحبيبةُ حرّةٌ .. وطنُ الصِّبا ومشيمةُ الأحياءِ
وهنا يقول الشاعر الفلسطيني د. جواد يونس في إهدائه إلى روح الشاعر سميح القاسم:
لن يصلِبوا زيتوننا .. فبزيْتِه دُهن المسيح
* في أرض فلسطين تتلاقى الأديان، مع الحياة، وهل أكثر من الحياة، وهل أكثر مما دُهن به المسيحُ الحيُّ، وكان فيها خاتمُ المرسلين إمامًا لكل من سبقوه؟ أليست تستحقُّ هذه الأرض تحريرا، وتوصية من الآباء للأبناء؟
تقول بنت ابن الشاطئ:
هذي مُناك وأنت تُشحَذُ خافقِي .. “ضُمي بلادكِ، أسترح بسمَائي” !!!
هي مُناك أبتي التي وصيتني بها، ومازلتُ أعمل، وأخطو لتحقيقها، محبة فيك، وفي وطني، ودومًا ستظل ذكراك، وأنت تُنشط عَلَمي، وتحيا فلسطين حرة مستقلة
* في الختام .. جميلٌ ذاك الربط بين الأب والوطن، ومواكبة الأحداث، والتفاعل معها لصالح الحق الفلسطيني، وقد نجحت شاعرتنا إلى حد كبير في الصور، وتجسيد المعنوي، والإسقاط على كورونا والصراع الأمريكي الصيني، والمتخاذلين، فكانوا هم العملاء، وقد أكّدت شاعرتنا على نبذ الخيانة والتخاذل، بتكرار اللفظة، حيثُ جاءت مرةً مفردًا “العميل”، وأخرى جمعا “العملاء” صراحةً، وإن كان بإمكانها التغيير..، ثمّ يأتي التلاعب اللفظي، لاختلاف الدلالات في كثير من المفردات، مثل: “الهيكل” ، “السماء”، وغيرها، مع الحرص على الإضافة إلى الياء للمتكلم، فمثلا “سمائي” في البيت الثاني قد تعني فضاء الحرية والحياة، أو تشير إلى شجرة السماء الكريهة في الصين، بينما في التناص مع قصيدة ابن الشاطئ في آخر بيتٍ، تعني الرحيل، أو الموت، عكس الحياةِ تمامًا، وكما هو استثمار الشاعرة لكوفيد الصيني في التحرير، عكس التزام الناس بالبيوت!
وما بين الملف الصوتي والمكتوب، تستثمر الشاعرة اختلاف تشكيل الحركات، مثل حُضن(حيث وجودها تحت إبط أبيها)، وحِضن (باعتباره مأوى لها، وهي طيره)، واتساع مساحة القصيد، فيمكن للمتلقي أن يقرأها حَضْن، بمقصود امتداد الرعاية (عبر الوصية والوطن ذاته)، والمقابلات، مثل: ما بين الياسمينة النضرة عند منبع الماء، والمُهرة المسبية، رغم طوفانِ الكون، إلا أنه يعجز عن إروائها ..، وقد أحسنتِ الشاعرة في اختيار مُفرداتها، مثل “أركض”، و”أستقيك”، فالطلب يحتاج السرعة، ومن ثم يكون الأب منبعَ المياه/الحياة ..،
وهنا .. تميزَ خطابُ العقل، إذْ جعلت الرؤى أرجوحة بسبب الضحكة مكسورة الإشارات، وكذلك، فإن كل هذا الحب بسبب أنها كغصن، من الصعب أن تبعد عن الجذع ..، ثم التحول فجأةً من المضارع إلى الماضي، دون إخلالٍ، وكذلك الاستفادة بالموروث، والتناص، فالماضي يرسم المستقبل.
وكما نجحت شاعرتنا في التعبير عن وقف الأنشطة أمام “كورونا” احترازيا، فإنها جعلتها وقفةً لإعادة الحقوق، وكأنها تربط بين فلسطين الحرة، وقوة الصين، غير الطامعة في الاستبداد وقيادة العالم، لكنها تقف بالمرصاد إلى طغيان أمريكا، وانحيازها الكامل إلى إسرائيل، على حساب الشعب الفلسطيني وأرضه المقدسة ..، وهي رؤية سياسية من الدرجة الأولى، استطاعت شاعرتنا التعبير عنها، دون تقريرية، بل وكان الأثرُ أقوى، وأعمَّ حين جعلت رسالتها الوطنية تنطلق من رسالةٍ أكبر، فمُنحت وجوبية التنفيذ، كحتمية تنفيذ الوصية، ونبل المقصد!
*تحية للشاعرة سَفّانة إسماعيل إبراهيم شتات، بنت ابن اشاطئ، ورحم الله من قضى نحبه، وقد صدق ماعاهد الله عليه، وحفظ الله الإنسانية من “كيوفيد” المستحدث، وكورونا الظلم، وفتح أبواب الأمل في غدٍ مشرق.