المواطن المكانية للحمد
بقلم/ د. محمد العربي
كما أن للحمد أزمنة يتأكد في بعضها ويستحب في الآخر كذلك له مواطن مكانية يستحب فيها. والمواطن المكانية قد تصلح لأن تكون زمانية؛ بخلاف الزمانية، وهذا ما قد يفرق بينهما وإن كان هناك تشابه. أما المواطن المكانية للحمد فهي:
الموطن الأول : هو ما يكون من دعاء الحجاج على صعيد عرفات ، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : “أفضل ما قلت أنا والنبيون عشية عرفة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير” ، وهذا الموطن وإن جاز فيه أن يكون زمانيًا ، لكن أحببت أن يكون مكانيًا لتخصيصه بمكان معين ، وهو صعيد عرفات ، فلا اعتبار للزمن وإنما المعنُّي هو المكان .
الموطن الثاني : إذا صعد الحاج أو المعتمر على الصفا والمروة ، فقد كان من هديه عليه الصلاة والسلام أن يحمد ربه عليهما ، روى جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – في الحديث الطويل الذي يذكر فيه حجة النبي، أنه قال : (… أبدأ بما بدأ الله به ، فبدأ بالصفا فَرقي عليه ؛ حتى رأى البيت ، فاستقبل القبلة فوحد الله ، وكبره ، وقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيءٍ قديرٌ ، لا إله إلا الله وحده أنجز وعدهُ ، ونصر عبدهُ ، وهزم الأحزاب وحدهُ ، ثم دعا بين ذلك ، قال مثل هذا ثلاث مراتٍ ، ثُم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ، ففعل على المروة ؛ كما فعل على الصفا …) .
الموطن الثالث : الحمد في السوق حيث يكون الناس في غفلة شديدة عن ذكر الله ، فقد شغلتهم الدنيا والمكاسب عن ذلك ، فمن وفقه الله لحمده في ذلك المكان نال من الأجر ما الله به عليم ، روى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : “من قال في السوق : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، يُحيي ويميت ، وهو حيٌ لا يموت ، بيده الخير ، وهو على كل شيءٍ قديرٌ ، كتب الله له ألف ألف حسنةٍ ، ومحا عنه ألف ألف سيئةٍ ، وبنى له بيتًا في الجنة . وهذا الذكر لا يكون إلا في مكان واحد وهو السوق ، فمن حافظ عليه في ذلك الموطن نال من الحسنات الشيء الكثير ، ومُحيَ عنه من السيئات الشيء الكثير كذلك .
الموطن الرابع : ما تلهج به الملائكة حملة عرش الرحمن ، فهم في تسبيح وحمد لربهم ، ثم استغفار لمن تاب من المؤمنين ، والدعاء لهم ، وقد جاء ذلك في قوله تعالى : الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر : ٧] ، وما كان من ذكر في ذلك الموطن العظيم من هؤلاء الملائكة الكرام لهو دليل على فضل ذلك الذكر، وعلو مكانته عند الله عز وجل.
مواطن الحمد المكانية في الآخرة : وللحمد ستة مواضع يكون فيها من قيام الناس من قبورهم، وحتى استقرارهم في دار النعيم ، جعلنا الله من أهل تلك المحامد في تلك المواطن العظيمة إلى أن تستقر في دار كرامته ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ! وهذه المواطن هي :
أولاً : إذا خرج المؤمنون من قبورهم ؛ ففي ذلك المكان يحمدون ربهم ، روى الطبراني في الأوسط عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : “ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا منشرهم ، وكأني انظر إلى أهل لا إله إلا الله وهم ينفضون التراب عن رؤوسهم ، ويقولون : الحمد لله الذي أذهبا عنا الحزن” ، ولا يحمد في ذلك المكان إلا من ثبته الله ؛ لأن الخروج من القبور من أشد ما يلقاه الإنسان لهول ذلك الموقف، أجارنا الله منه !
ثانيًا : في موقف الحساب ، وذلك حين ينادي : وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس : ٥٩] ، فعندما يتميز المؤمن من الكافر تلهج ألسنة المؤمنين بحمد ربهم ، ويقولون : فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون : ٢٨] ، فهم يحمدون الله على أن نجاهم من الوقوع فيما وقع فيه غيرهم ، ثم لم يكن مصيرهم كمصيرهم .
ثالثًا : بعد مجاوزتهم للصراط ، وخاصة من كانوا أضعف الناس مرورًا عليه ، فتصيب النار جوانبهم وعندما يتجاوزنه يحمدون الله أن نجاهم من النار في ذلك المكان ، روى الحاكم عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الطويل عن ذكر مرور الناس على الصراط” … قال فيخلصوا ، فإذا خلصوا ؛ قالوا : الحمد لله الذي نجانا منك بعد الذي أراناك لقد أعطانا الله ما لم يعط أحدًا .
رابعًا : إذا دنوا من باب الجنة واغتسلوا بماء الحياة ، ونظروا إلى الجنة ، وفي ذلك المكان يحمدون الله على أن هداهم لهذا ، قال تعالى : وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف : ٤٣] ، فمن شدة فرحهم بالجنة ، وما أعده الله لهم فيها تحركت ألسنتهم بحمد ربهم ذلك العطاء العظيم .
خامسًا : إذا دخلوا الجنة واستقبلتهم الملائكة بالسلام والتحية ، قالوا : وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر : ٧٤] ، وهذا الحمد يكون في الجنة ، وهو من المواطن المكانية للحمد .
سادسًا : إذا استقروا في الجنة وعرف كل منهم منزله وسكن فيه يكون ذلك المكان موطنًا للحمد ، حيث يقول كل واحد منهم: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ﴿34﴾ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر : ٣٤ – ٣٥] ، فهو اعتراف منهم بأن ما نالوه من خير إنما هو من فضل الله ، وليس بأعمالهم ، فأعمالهم لا تبلغهم عشر معشار ما هم فيه من النعيم المقيم .
سابعًا : ومن أعظم المواطن المكانية للحمد ما يكون يوم العرض الأكبر ، حينما يقوم نبينًا – صلى الله عليه وسلم – فيسجد بين يدي مولاه ؛ فيحمده بمحامد كثيرة ، قال – عليه الصلاة والسلام -: “… فأقوم بين يديه فأحمدهُ بمحامد لا أقدر عليه الآن ، يُلهمُنيه الله ، ثم أَخِرُّ له ساجدًا فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك ، وقل يُسمع لك ، وسل تُعطه ، واشفع تُشفع ، فأقول : رب أُمتي أُمتي ، فيُقال : انطلق ، فمن كان في قلبه مثقال حبةٍ من بُرةٍ أو شعيرةٍ من إيمان فأخرجه منها ، فأنطلقُ فأفعلُ ، ثم أرجع إلى ربي فأحمدهُ بتلك المحامد ، ثُم أخرُّ له ساجدًا فيقالُ لي : يا محمد ارفع رأسك ، وقل يُسمع لك ، وسل تُعطه ، واشفع تُشفع ، فأقول : أُمتي أُمتي ، فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبةٍ من خردلٍ من إيمان فأخرجه منها ، فأنطق فأفعل ، ثم أعودُ إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ، ثم أخر له ساجدًا فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تُعطه ، واشفع تُشفع ، فأقول : يا رب أمتي أمتي ، فيُقال لي : انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبةٍ من خردلٍ من إيمانٍ فأخرجه من النار ، فأنطلق فأفعل). صلى الله عليه وسلم.