كتب – عبد العزيز اغراز :
تواصلت اشغال الجامعة الرمضانية الرقمية الدولية التي تنظمها مؤسسة “الشيخ سيدي المختار الكنتي للدراسات والتنمية والتواصل الثقافي”،
من خلال برمجة المحاضرة السادسة تحت عنوان “التصوف وبناء التسامح”، من تأطير الدكتور خالد التوزاني، أستاذ باحث، ورئيس المركز المغربي للإستثمار الثقافي (مساق)، وبثت عير منصة مؤسسة الشيخ المختار الكنتي على موقع فيسبوك.
اكد الدكتور التوزاني في مداخلته ان التصوف يبني ثقافة التسامح وأسُسَ التعايش؛ ويعمل على خلق جسور من التواصل الفعال، وتكون له امتدادات في الوجود وفي الواقع بشكل خفي، مضيفا ان التصوف يمكن اعتباره “قوة ناعمة” يملك من الفعالية ما لا تملكه أعتى الأسلحة، إذْ يُدركُ باللين ما لا يُدركُ بالعنف.
وأضاف المحاضر ان الخطاب الديني المعاصر يعرف أزمة مزدوجة؛ الأولى على مستوى التفكير والتنظير والثانية على مستوى التنزيل أو الممارسة، بسبب الفجوة الكبيرة بين الفكر والواقع، وصعوبة استجابة هذا الخطاب لانتظارات المجتمعات المعاصرة، منبها الى أنَّ المجتمعات اليوم لم تعد تعيش في عزلة عن التواصل مع غيرها من مجتمعات الجوار، ولذلك لا مجال لخطاب مغلق على ذاته، مبرزا الحاجة الملحّة للتواصل والحوار والتبادل، وحسب التوزاني فان الأزمات العالمية كشفت عن هذه الحاجة وضرورتها، من أجل مواجهة التحديات والمخاطر التي تهدّد البشرية.
وبين ان الخطاب الديني المعاصر ظلّ يعمل وفق الأنماط التقليدية التي تنهل من مقولات فقهية تعود لعدة قرون مضت، أنتجتها ظروف مغايرة، أدى تبنيها اليوم ومحاولة تنزيلها في الواقع المعاصر إلى جملة من التناقضات التي جعلت المجتمعات الإسلامية في صورة مشوّهة، كانت من نتائجها ظهور التطرف الديني.
وتابع التوزاني “إنّ المبدأ الذي تبناه الخطاب الديني المعاصر، وخاصة إيمانه المطلق بامتلاك الحقيقة، كان من نتائجه إلغاء كل حوار قد يؤدي إلى حُسن الجوار، لأنه خطاب لم يقبل بالاختلاف، ونظر إلى المخالف بوصفه عدواً يُستتاب أو يُحارب أو يُقاطَع، ولا شك أنَّ هذه النظرة تعكس نوعاً من التعصّب المفضي في بعض الأحيان إلى الكراهية، ونزوع بعض تياراته إلى العنف، سواء الرمزي أو المادي”.
واعتبرا ان التصوف في محاولة بناء التسامح، يسعى لتأسِيس تعارف روحيّ يحترم الاختلاف، وليس من غايات هذا التَّعارف الإقناع أو دفع الآخر للتخلِّي عن معتقداته ومواقفه، لأن هذا النمط من التعارف والتواصل ينطلق من بعض الحقائق، منها: أنَّ هداية الناس، ليست من اختصاص البشر،
وإنَّما هي من تفضّل الله على مَنْ يشاء من عباده، ومنها أيضاً: أنَّ الصَّواب أو الخطأ أو السَّير على الهُدى لا يعلمه إلا الله، فالحقيقة المطلقة لا يملكها إلا خالق البشر، وهذه المنطلقات العَقدية يستمدها أهل التصوف الحق من القرآن الكريم باعتباره روح الكون ومعراج التعرّف إلى الله، مستشهدا بقوله تعالى: “إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ”.
وشدد الأكاديمي التوزاني على ان التصوف يركز على إصلاح الأخلاق وتصفية القلوب لخلق أرضية مناسبة للعيش بسلام وأمن أي تسامح لامحدود وغير مشروط، مبينا انه بذلك يلتقي مع كثيرٍ من الفلسفات الإنسانية القديمة والحديثة وأيضاً مع جملة من القيم السَّامية العليا أو ما يصطلح عليه بالقيم الكونية،
وهذا أمر طبيعي ما دام التصوف خِطاباً موجهاً للأرواح والضَّمائر، من أجل تأليف القُلوب بل محوها من الأغيار، وتوحيد الجهود، ومحو الفوارق، بغية تحقيق كرامة الإنسان وصونها، ضد كل انتهاك، ولذلك يملك التصوف القدرة على احتواء الإختلاف ليس بمحوه، بل بقبوله، ما دام هذا الاختلاف سُنّةً كونية لا تتبدّل.
واختتم محاضرته بالإشارة الى ان قيمة التصوف السني الأخلاقي في ترسيخ معاني التسامح، تتم عبر مدّ الأفراد والمؤسسات بجملة من القيم والفضائل المنتجة للأمن الروحي، والتي تؤدي عند تنزيلها بالشكل السليم، إلى تماسك المجتمع، وسلط الضوء على اهمية إصلاح القلوب عند شيوخ التصوف، من خلال أدوات التَّزكية: كالتخلية والتحلية، والمجاهدات، ليبلغ المرء درجة من اليقين والاطمئنان القلبي تؤهله لتذوق حلاوة الإيمان وجمال العبادة، فيدرك حقيقة التوحيد، ويتعلق بالحق فلا يرى في الكون غير الله، ويُثمر هذا السلوك محبة جميع الخلق، ومنْ بلغ مقام المحبة كان إلى التسامح أسرع وإلى الصّفح أقرب.