بقلم: د. خالد راتب
من علماء الازهر الشريف
إن مواسم الخير تأتي سريعا وترحل عنا سريعا، قال تعالى -عن أفضل الشهور-: “أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ “(البقرة:184)،وفي ذلك إشارة إلى سرعة ذهابه ،والعاقل لابد أن يعرف شرف الزمان ويعطي كل زمن ما يستحقه، يقول ابن الجوزي: “ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل”. وإن المسلم الذي يرجو لقاء ربه يسعى دائما لزيادة حسناته، ويعلم أن عمره قصير، والزمان لا يتسع للواجبات المطلوبة منه؛ لذا فهو يسارع إلى الخير في مواسم الخيرات؛ ليتعرض لنفحات الله، قال r:”افعلوا الخير دهركم وتعرضوا لنفحات رحمة الله فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده وسلوا الله أن يستر عوراتكم وأن يؤمن روعاتكم”. وقال بعض السلف : الأيام والليالي خزائن، فضع في خزينتك ما شئت، فسوف تلقاه. فماذا ستضع في خزينة الأيام المباركة في رمضان؟! ،وكيف نتعامل مع الأيام المعدودات، فالعمر أيام معدودة ،ورمضان أيام معدودة، وكلاهما يمر بسرعة، فيجب على المسلم الاستعداد لهذه الأيام المعدودات عن طريق خطة ومنهج ووسائل يعزم الصائم على تحقيقها، ومن هذه الوسائل:
أولا: الاستعانة بالله: إذا أردت أن تغتنم رمضان فعليك بالاستعانة بالله فكثير من الناس إذا عزم على العبادة يجعل غاية عزمه التخطيط والتصميم الجازم وسأفعل كذا وكذا … وينسى أن هذه مجرد وسائل ثانوية- لابد منها- وإنما الوسيلة الحقيقية هي (الاستعانة) ؛ ولذلك رغم أن الاستعانة في ذاتها عبادة إلا أن الله أفردها بالذكر بعد العبادة فقال “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ”(الفاتحة:5).وهذه الاستعانة بالله عامة في كل شيء، في الشعائر، وفي المشروعات الاصلاحية، وفي مقاومة الانحرافات، وفي الخطاب الدعوي، فمن استعان بالله ولجأ إليه فتح الله له أبواب توفيقه بألطف الأسباب التي لا يتصورها ..
ثانيا: معرفة قدر الزائر وما فيه من نفحات: ما من موسم من مواسم الخير إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعته يتقرب بها إليه ، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته عليه، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات ، وتقرب فيها إلى مولاه ، بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار، فشهر رمضان ممتلئ بالنفحات، ونحن مطالبون بالتعرض لها، ومن هذه النفحات :
- شهر رمضان موسم للعفو وللرحمة وللعتق من النار، فقد كان لبعض العظماء في الجاهلية يومٌ يسمى يوم العفو، ويوم العفو هذا -ولله المثل الأعلى- يشبه شهر رمضان، فقد كان للنعمان بن المنذر يوم العفو، يستقبل رعيته في ذلك اليوم، فمن زاره أعفاه من الإعدام ومن الحبس، ومن الضرائب فمن أراد العفو من الله فليجتهد في هذا الشهر الكريم؛ فقد صح عنه- r – أنه قال:” الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر “.
- رمضان تفتح فيه أبواب الجنة الثمانية وتغلق أبواب النيرات وتسلسل الشياطين: قال r – قال: « إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة »،وقال : «إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين».
- شهر القرآن: قال تعالى: “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ” (البقرة : 185).
- خلوف فم الصائم أطيب من المسك: قال:”لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك”.
- استغفار الملائكة للصائمين: وقد ثبت هذا في أحاديث كثيرة منها: “إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين”.
- إذا صام المسلم رمضان صياما حقيقيا كان له جُنَّة وسُترة من الآثام ،ومن النار كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله قال: “الصيام جنة فلا يرفث، ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله، أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين” .
- أضاف الله الصيام إليه من بين سائر الأعمال كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله : “قال الله:”كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به”..قال الحافظ ابن رجب: “فعلى هذه الرواية يكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة فتكون الأعمال كلها تضاعف بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد، بل يضاعفه الله – عز وجل- أضعافا كثيرة بغير حصر عدد…”.
- الصائم يترك حظوظ النفس وشهواتها الأصلية التي جُبلت على الميل إليها لله – عز وجل – ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام.
- الصيام سر بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره؛ لأنه مُركّب من نية باطنة لا يطلع عليها إلا الله، وترك لتناول الشهوات التي يُستخفى بتناولها في العادة، ولذلك قيل: لا تكتبه الحفظة وقيل: إنه ليس فيه رياء.
- الصيام -وكذا الصلاة والصدقة- كفارة لفتنة الرجل في أهله وماله وجاره كما ثبت في صحيح البخاري عن حذيفة قال: قال عمر – رضي الله عنه -: من يحفظ حديثا عن النبي في الفتنة؟ قال حذيفة أنا سمعته يقول:” فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة”
- أن في الجنة بابا للصائمين يقال له الريان يدخلون فيه دون غيرهم ، عن سهل – رضي الله عنه – عن النبي أنه قال: “إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل فيه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل فيه أحد” .
- من صام رمضان وقام لياليه عن إيمان واحتساب يغفر له ما تقدم من الذنوب كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي قال: “من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه “.
- أن الصائم إذا لقي ربه فرح بصومه كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله : “…للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه . أما فرح الصائمِ بلقاء ربه فلما يراه من جزائه وثوابه، وترتّب الجزاء الوافر عليه بقبول صومه الذي وفقه الله له، وأما فرح الصائم عند فطره فسببه تمام عبادته وسلامتها من المفسدات، وما يرجوه من ثوابها حيث تم صومه وختمت عبادته وأبيح له الفطر الملائم لطبيعته فزال جوعه وعطشه.
ثالثا: الفرح برمضان وما فيه من طاعات والشوق إلى لقاء القرب والود: الفرح بالطاعة منهج قرآني ،قال تعالى :” قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ “(يونس:58)، كما أنه منهج نبوي ،فقد جاء في حديثه-صلى الله عليه وسلم- :” …وجعلت قرة عيني في الصلاة “، وكان من دعائه في صلاته: “وأسألك الرضا بالقضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك…”.
رابعا: النية الصالحة والإخلاص: استحضار النية في كل الأعمال، ومراقبة هذه النية من الأمور المهمة؛ لأن العمل دون نية يذهب هباء منثورا، فالإخلاص مفتاح قبول العمل، وبه يثبت الإنسان على طاعة الله، ويجعله دائما متشوقا للصالحات، ولا يتعثر إلا فاقد الإخلاص، لذا قالوا: إنما يتعثر مَن لم يخلص، والصادق الموفق يزين سريرته للحق كما يزين علانيته للخلق.
خامسا: تلاوة القرآن حق تلاوته: رمضان شهر القرآن، والقرآن الكريم ربيع للقلوب وشفاء للصدور، قال تعالى:” وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا”(الإسراء:82) ولا يكون القرآن شفاء ومحركا للإيمان ومجددا للأشواق إلا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، قال تعالى:” إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ”(ق:37) وقد جاء رجل إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ليتعلم القرآن فانتهى إلى قوله عز وجل: ” فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ”(الزلزلة:7-8) قال: يكفي هذا وانصرف، فقال – صلى الله عليه وسلم -: “انصرف الرجل وهو فقيه”، وكذلك لا يتجدد الشوق في القلب إلا بتلاوة القرآن حق التلاوة، يقول أبو حامد الغزالي -رحمه الله تعالى- عن تلاوة القرآن حق تلاوته:” أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب، فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل، وحظ العقل تفسير المعاني، وحظ القلب الاتعاظ والتأثر والانزجار والائتمار، فاللسان يرتل والعقل يترجم والقلب يتعظ “.
سادسا: صحبة المجدّين في السير إلى الله وترك الغافلين :
وقد أمر الله خير الخلق بصحبة المجدّين في السير إلى الله وترك الغافلين فقال عز من قائل : ” وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا”(الكهف:28)، وقال عز وجل: “وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ”(لقمان:15)، وقال:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ”(التوبة:119).
سابعا: استثمار الوقت وعدم ضياعه:
قال “بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة، فالساعة أدهى وأمر”. رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.