بقلم : أ.د/ محمد عبد الدايم الجندي الإسنوي
وكيل كلية الدعوة الإسلامية للدراسات العليا والبحوث
ما زلت أعرض حكاية الفارس الأوروبي المنصف مع سيد الناس صلى الله عليه وسلم، وإنصافه له والذي يخرس به ألسنة البغي والعدوان عليه صلى الله عليه وسلم ما زلنا مع قصة الحضارة حيث تقرير “ول ديورانت” عن عظمة ورحمة النبي صلى الله عليه وسلم والذي ينسج فيه قصة أعظم حضارة في تاريخ البشر، إنها الحضارة التي علمت الدنيا مفهوم السلام ومعنى القيادة، الحضارة التي أنارت أوروبا المظلمة، الحضارة التي تقول لمتطرفي الغرب وأنساقهم في الشرق ممن يرددون كلماتهم ترديد الببغاوات، إن رسالة “ول ديورانت” إلى هؤلاء الصغار الذين أرادوا أن يحجبوا نور رسول الله عن الكون رسالة قوية، فهو من بني جلدتهم، إنها جعلت كل بغي في حجم الذبابة التي تريد أن تحجب نور الشمس بجناحها عن الوصول إلى الأرض، إنهم قالوا عن سيد الناس إرهابي وقاتل ومتطرف وبدوي وأحمق وعديم الرحمة وسفاك دماء ورسالته قامت على الإكراه والعنف، ثم صدح بها ابن أوروبا المنصف:ول ديورانت” في وجوههم فشاهت، ورسالة ول ديورانت أثبتت لكل منصف يريد الحقيقة أن من يلج مسير التاريخ يدهش في وقائعه وهو يستقرئ بين دفتيه كثيرا من مشاهد التواضع والتسامح والرحمة لدى النبي صلى الله عليه وسلم والتي جمع رصيدها في كيانه أربعين عاما رغم أن قلبه كان مفعما بالحسرة لما لقيه من لجاج العناد والعداء، لذا حطت قلوب المنصفين ركابها عند مكارم أخلاقه مستسلمة وخاضعة.
وكان لـ ” ول ديورانت ” رؤية في أمر جملة من صفاته، وهي تتلخص في نقاط ؛ الأولى: العجز عن إحصاء جوانب رحمته صلى الله عليه وسلم: يقول: “أعماله الرحيمة أكثر من أن تُعد”، لقد حاول “ول ديورانت” ـ كغيره من المنصفين ـ أن يعبر عن خواطره المنصفة تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكارم أخلاقه، لكن تبقى الحقيقة وهي أن كل كلامه ” لا يبلغ صفات رسول الله، ولا يجلي حقيقته وقد منحه الرحمن صفتين من صفاته “الرأفة والرحمة” فقال: (بالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، وقد صدق “ول ديورانت”، فإن أخلاق النبي ـ جملة وتفصيلا ـ وشمائله ومناقبه لا يحتويها سفر جامع أو سجل حافل ، ومهما قيل في أخلاق النبي وشمائله فلن يسعف البيان ولن يرقى التعبير” ، أما النقطة الثانية فهي: جامعية مكارم أخلاقه لسائر الأحوال: وقد تاه “ول ديورانت” في شعاب هذه المكارم، وقد بدا ذلك في قوله: “وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ لطيفاً مع العظماء، بشوشاً في أوجه الضعفاء، عظيماً مهيباً أمام المتعاظمين المتكبرين، متسامحاً مع أعوانه، يشترك في تشييع كل جنازة تمر به، ولم يتظاهر قط بأبهة السلطان، وكان يرفض أن يوجه إليه شيء من التعظيم الخاص، يقبل دعوة العبد الرقيق إلى الطعام، ولا يطلب إلى عبد أن يقوم له بعمل يجد لديه من الوقت والقوة ما يمكنانه من القيام به لنفسه .
والنقطة الثالثة : المحبة المترتبة على مكارم أخلاقه وتواضعه صلى الله عليه وسلم : يقول “ول ديورانت” عن ثمرة مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم :”كان جم التواضع إلى درجة تحببه إلى النفوس”، وهذه الأخلاق النبوية لم تتعرض للتآكل ، فالنبي صلى الله عليه وسلم منذ نعومة أظفاره معروف بالتواضع والصدق والأمانة، يقول المستشرق “ر.ف.بولي” : “وظلت أخلاقه ثابتة لا تتبدل أيا كان العمل الذي يعمله، سواء كان يرعى الغنم في البادية ، أم يبيع عطوره في دمشق، ولم تتبدل أمانته، ولم يتغير صدقه ، بل بقيت فضائله ثابتة على الأيام حتى لقب بالأمين”، وكانت هذه الصفات والمحاسن جزءا من رسالته، وتطبيقا لروح الإسلام فهو إلف وأخلاق عكستها تصاريف أفعاله يقول “ول ديورانت”: “الإسلام دين يؤلف بين هذه الجماعات المتباغضة المتباعدة، ويخلق منها أمة قوية سليمة، دين يسمو بأخلاقهم عما ألفه البدو من شريعة العنف والانتقام”، وفي كلام “ول ديورانت” إشارة إلى الحاجة الماسة إلى أخلاق الفطرة، وإلى الرسالة التي تحمل كل خير للبشر، والاقتداء بحامل تلك الرسالة الذي أرسله الله للبشرية جمعاء .
- النبي محمد صلى الله عليه وسلم جامعية قيادية لا تبارى: يشير منطق “ول ديورانت ” عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه كان جامعية قيادية في كل ميادين الحياة، وأهمها: أولا : قيادته الدعوية : فهو سيد الدعاة ، ويثابر من أجل العودة بالبشرية إلى فطرتها التي خلقها الله عليها، ويبعث فيها من جديد الرونق والعبير الذين يضفيان عليها قيمة وجودها، ويمثل “ول ديورانت” لبعض ملامح دعوة النبي التي تسنم بها ذروة القيادة ، فيقول: “وكان محمد صلى الله عليه وسلم كما كان كل داعٍ ناجح في دعوته الناطق بلسان أهل زمانه، والمعبر عن حاجاتهم وآمالهم”، وفي كلامه “بيان صريح لقيادة النبي للدعوة والدعاة لأنه” تهيأ لها بعناية ربه، فهي أوضح شيء فهما لمن أحب أن يفهم، وهي أقوم شيء سبيلا لمن استقام”، ويقول: “وكان محمد صلى الله عليه وسلم يستقبل في داره كل من أراد الاستماع إليه، غنياً كان أو فقيراً أو عبدا رقيقاً، ومن العرب والمسيحيين واليهود، وقد تأثر بحماسته وبلاغته قوله عدد قليل ممن جاءوا إليه وآمنوا به “، وتبدو معالم القيادة النبوية في منطق ” ول ديورانت ” برهان حق أحبط مساعي المشككين في قيادته، وكسع آمال الحاقدين بالخذلان، بعد أن عطل مساعيهم الحاقدة التي صدرت عن آمالهم الخبيثة، فهيهات هيهات لهم من محمد؛ فها هم يعودون وقد تعثروا بأذيال الخيبة .
ثانيا: القيادة السياسية والاجتماعية والأخلاقية والحربية: وعن هذا المجموع من صور القيادة يبين ” ول ديورانت ” من خلال عرضه توقل النبي لذروة القيادة السياسية ، وأنه كان “قائدا سياسيا عظيم التأثير، ولا يزال تأثيره قويا واسع الانتشار ” .
وعن كونه قائدا اجتماعيا ، وزعيما في مكارم الأخلاق ، يقول ” ول ديورانت “: ” إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينشئ حكومة مدنية في المدينة ، واضطر بحكم الظروف أن يخصص جزءاً متزايداً من وقته للمشاكل العملية المتصلة بالتنظيم الاجتماعي، والأخلاق، والعلاقات السياسية بين القبائل، ولشؤون الحرب، لأنه لم يكن ثمة حد فاصل بين الشؤون الدينية والدنيوية، بل اجتمعت هذه الشؤون كلها في يد الزعيم الديني ، فكان محمد في المدينة الرسول الديني والحاكم السياسي جميعاً ” .
وتنفرج أسارير ” ول ديورانت” وتعجبه سياسة النبي وحسن إدارته لمجتمع المدينة المتشابك المعتقدات والديانات حين جمع أنساقهم في بيت واحد ، فيقول :” وقد عقد محمد مع أولئك اليهود عهداً ينم عن مهارة سياسية كبيرة، وقد جاء فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن يتبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربقتهم يتعاقلون بينهم وهم يقدرون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة، وبنو الحارث، وبنو جشم، وبنو النجار، وبنو عمر بن عوف، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وإن ذمة الله واحدة، وأن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا مناصرين عليهم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود وبينهم مواليهم وأنفسهم، وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم “، وكلام ” ول ديورانت ” عن روعة سياسة النبي في جمع أنساق المجتمع المدني تحت ظلال العدالة الإنسانية ، يذكرنا بقول الكاتب الغربي ” بودلي ” حين وصف المدينة في ظل هذه الوثيقة بالبيت الكبير ، يقول: ” وكانت المدينة بيتا كبيرا في قرية صغيرة “.
المهم …. أن كل التصاريف النبوية في كل مجالات الحياة ؛ دفعت “ول ديورانت” إلى احترام النبي وإنصافه والإقرار بقيادته التي قالها صراحة: “كان النبي من مهرة القواد، فقد جهز في العشر السنين التي قضاها في المدينة خمساً وستين غزوة وسرية حربية قاد بنفسه سبعاً وعشرين منها، ولكنه كان إلى هذا سياسياً محنكاً، يعرف كيف يواصل الحرب بطريق السلم ” ، ويقول:” كان جواب محمد جواباً كريماً، فقد أعلن عفواً عاماً عن جميع أهل مكة “، ويعجب “ول ديورانت” من منهج النبي الفريد في الإصلاح والتكافل الاجتماعي، فهو من هذه الناحية يختلف عن معظم المصلحين ؛ يقول: ” لسنا نجد في التاريخ كله مصلحًا فرض على الأغنياء من (الضرائب) ما فرضه عليهم محمد صلى الله عليه وسلم لإعانة الفقراء..” ..في مثل هذه المشاهد تجلت قيادة النبي في منطق ” ول ديورانت ” .