بقلم: شيماء اسماعيل
باحثة فكرية ولغوية من دولة كوسوفا الشقيقة
إن هذه الامة الشريفة رفعها الله بعلمائها المخلصين الذين يجددون للامة امر دينها ويتثبتون بالحق ولاتأخذهم مباهج الدنيا ولا زخارف القول وانما لسان حالهم قوله صلى الله عليه وسلم (ماتصدق الناس بصدقة مثل علم ينشر) من هذا المنطلق اجدني في حالة من الحزن حيث فقدت الأمة الاسلامية مساء أمس الأحد، الأستاذة الدكتورة عبلة الكحلاوى الداعية الإسلامي عن عمر يناهز 72 عاما.
لقد بلغ الإسلام بالتحرير لضمير المرأة وإرادتها الذروة، فها هو رسول الله ﷺ النبي وقائد الأمة، ورئيس الدولة، والفاتح المنتصر، يخطب لنفسه أم هانئ، بعد أن فرق الإسلام بينها وبين زوجها المشرك، لتكون له زوجاً وللمؤمنين أماً، فتعتذر أم هانئ عن خطبة الرسول لها، في أدب جم وحكمة بالغة، فتقول لخير خلق الله: يا رسول الله لأنت أحب إلي من سمعى وبصري، وحق الزوج عظيم، فأخشى إن أقبلت علي زوجي أن أضيع بعض شأني وولدي، وإن أقبلت على ولدي أن أضيع حق زوجي!.. فقبل المصطفى ﷺ اعتذارها، واحترم رغبتها التفرغ لأولادها، صنع ذلك وهو القائد المنتصر يوم الفتح الأكبر والانتصار الأعظم، ولم تكن عظمة التحرير الإسلامي للمرأة واقفة فقط على الكم العددى للنساء اللاتى دخلن في الإسلام وطلائع الصفوة الذين قادوا وأنجزوا مع رسول الله ﷺ تأسيس الدين وإقامة دولة الإسلام، وإنما كانت العظمة أيضا وبالدرجة الأولى في (نوعية التحرير) الذي أثمر ريادات وقيادات نسائية لاتزال حضارتنا الإسلامية تباهى بهن الدنيا حتى هذه اللحظات.
فلما جاءت نهضتنا الحديثة، لتنقل العلم والتعليم من “فرض الكفاية” إلى” فرض العين” سبق التعليم المدني في هذا الميدان، فتخرجت من مؤسسات التعليم المدني نماذج رائدة وقائدة من النساء، لكن ظلت المرأة بعيدة عن التخصص في الشريعة الإسلامية وعلومها، اللهم إلا من فلتات اقتحمن هذا الميدان بجهدهن الذاتي والخاص، فلما كان تطوير الأزهر في ستينيات القرن العشرين، انفتحت الأبواب مرة أخرى أمام المرأة المسلمة لحمل أمانة الدين مع أمانة الدنيا، فتواصل واقعنا المعاصر مع عصر النبوة، ورأينا فقيهات يتخرجن من الأزهر الشريف يحملن أمانة الدين إلى الناس.
يتذكر المرء كل هذا، وأكثر من ذلك، عندما يرى العطاء المتميز، والفكر الحضاري للأستاذة الدكتورة عبلة الكحلاوي، التي هى من جيل الفقيهات اللاتي أثمرتهن هذه العقود القليلة التي مرت بعد دخول المرأة في رحاب الأزهر الشريف.
والأستاذة الدكتورة عبلة الكحلاوى فقهية ومفكرة كبيرة، لها دور بارز وفعال في حقل الفكر والثقافة والمشروع الحضاري المتميز، وقامت بجهود بناءة داخل مصر وخارجها في سبيل نشر العلم وخدمة قضايا المسلمين.
وهى تعتبر مثالاً بارزاً على مدى مساهمة المرأة في إنعاش الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية والحضارية بصفة عامة، كما أنها تعتبر من أعلام الفكر المعاصر من النساء، بل إنها تعتبر من جيل الرواد الذين استطاعوا أن يحققوا الكثير من القضايا ويكشفون اللثام عنها.
وهى ضاربة بقدم راسخة في ميدان الفكر والثقافة، وشخصية كهذه لابد وأن يكون لها أثر واضح وفعال وبصمات بارزة في ميدان التأليف والتصنيف، وبالفعل فقد ألفت كتباً عديدة غاية في الجودة والإتقان، من أبرزها… (الخلع دواء من لا دواء له) و(بنوك اللبن وبنوك التقوى) و(فاعلية الزكاة في حماية الاقتصاد والتنمية)، وغير ذلك كثير.
كما ساهمت بنشاط واسع في مجال المشاركات العلمية والثقافية على المستوى المحلي والعالمي، حيث حضرت العديد من الندوات واللقاءات العلمية، وشاركت بالعديد من البحوث وإلقاء المحاضرات، وهى في كل ذلك تثير قضايا ساخنة لها خطورة ومكانة في المجتمع المسلم، كما أنها تعتبر عملاقة وفارسة في هذا الميدان.
إن الأستاذة الدكتور عبلة الكحلاوى قد آثرت المكتبة العربية والإسلامية بالعديد من المؤلفات وقد أبدعت فيها وأجادت، وصارت مصنفاتها مسير الشمس، ورزقت الحظ السامى عن اللمس، ابتكرت فيها الآراء المفيدة، وأنتجت فيها الأبحاث القيمة، كلامها دقيق، وموضوعاتها رائعة، فهى تحلل ببراعة، وتناقش بهدوء، وتصل إلى نتائج علمية وبحثية خطيرة، وكل ذلك بأسلوب بديع، وكلام أدبي غاية في الدقة والإحكام والجودة والإتقان، وهى حين تكتب تلامس الحياة الواقعية، فتكتب بموضوعية ودون حيادية، وأبحاثها تحمل علماً غزيراً.
هذا وقد لعبت دوراً هاماً في النضال من أجل الحرية والتطور الحضاري والاجتماعي، كما خاضت أعنف المعارك في ميدان الفكر والثقافة، وأثبتت وجودها وعبقريتها بلا ريب ولا شك، فهى من جيل نسائي حمل على عاتقه عبء الدعوة الإسلامية وتبليغها وتصويرها للإسلام في صورته الصحيحة، وتبنى قضايا المرأة المسلمة، وما يتعلق بها من موضوعات وإشكالات.
كما لعبت دوراً مهماً وخطيراً في خدمة قضايا العالم الإسلامي من حيث آرائها في كتاباتها، وصرخاتها العالية في الصحف والمجلات، وكلامها في الاجتماعات والندوات، وتطالب العالم بأن ينظر للأمور بجدية وموضوعية، والعمل بإيجابية نحو القضايا، والقضاء على جميع ما يعترض عملية السلام من كوارث وعقبات.
هذا والأستاذة الدكتورة عبلة الكحلاوى لعبت دوراً مهما في دفع عجلة المرأة المسلمة نحو الأمام، كانت ربانية مخلصة في الدعوة إلى الله.. اللهم عاملها باحسانك جزاء ما قدمت… اللهم أسكنها الفردوس الأعلى مع النبيين والصدقيين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.