الليل والنهار وذكرهما في القرآن
بقلم الدكتور/ محمد العربي
جاء ذكر الليل في القرآن الكريم اثنتين وتسعة مرة منها : ثلاثة وسبعون بلفظ (الليل) ، ومرة واحدة بلفظ (ليل) ، وثمان مرات بلفظ (ليلة) ، وخمس مرات بلفظ (ليلاً) ، وثلاث مرات بلفظ (ليال) ، ومرة واحدة بكل من اللفظين (ليلها ، وليالي) .
وفي المقابل جاء ذكر النهار في القرآن الكريم سبعة وخمسين مرة منها : أربع وخمسون مرة بلفظ (النهار) ، وثلاث مرات بلفظ (نهاراً) . كما وردت ألفاظ (الصبح والاصباح والفلق وبكرة) ومشتقاتها بمدلول النهار في آيات أخرى عديدة ، كما جاءت كلمة (يوم) أحياناً بمعنى النهار في عدد من آيات القرآن الكريم .
وفي هذه الآيات يمن علينا ربنا تبارك وتعالى بتبادل الليل والنهار ، ويعتبرهما من آياته الكبرى لأن في ذلك استقامة للحياة على الأرض وعوناً للإنسان على تحديد الزمن والتاريخ للأحداث المتتالية ، وبدون هذا التبادل بين الليل المظلم والنهار المنير يتوقف الحياة على الأرض ويتلاشى إحساس الإنسان بمرور الزمن . وتتوقف قدرته على متابعة الأحداث والتأريخ لها .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ ﴿71﴾ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴿72﴾ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
[القصص : 71 – 73] .
الشواهد العلمية المستسقاة من تبادل الليل والنهار :
– التأكيد على كروية الأرض : فتبادل الليل والنهار على نصفى الأرض وتعاقبهما وإيلاج كل منهما في الآخر ، وإغشاء نور النهار بحلكة الليل ، وتجلية حلكة الليل بنور النهار ، وتكوير الليل على النهار ، وتكوير النهار على الليل كل ذلك إشارات ضمنية دقيقة إلى كروية الأرض . هذه القيمة العلمية جاء بها القرآن الكريم من قبل الف واربعمائة من السنين في وقت ساد فيه الاعتقاد باستواء الأرض .
ونزول الآيات القرآنية العديدة بهذه الصفة الكونية الثابتة في الجزيرة العربية التي كانت في ذلك الوقت بيئة بدوية بسبطة . ليس لها أدنى حظ من المعرفة العلمية ومناهجها ولا بالكون ومكوناته لما يقطع بأن القرآن ليس صناعة بشرية بل هو كلام الخالق المبدع سبحانه وتعالى :
ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج : 61] .
الوالدية والأبوية في القرآن الكريم وخصوصيتها في سورة يوسف :
ذكر لفظ الوالدة والوالدات في موضعين في القرآن وكذا لفظ الأبوبة ، لكن في سورة يوسف لا نجد ذكراً إلا للفظ الأبوية ، والفارق بينهما أنك إذا رأيت كلمة (الأبوين) فاعلم أن الآية قصدت الأب والأم مع الميل لجهة الأب . لأن الكلمة مشتقة من الأبوة التي هي للأب وليست للأم .
أما إذا رأيت كلمة (الوالدية) فاعلم أن الآية قصدت الأب والأم مع الميل لجهة الأم ، فالكلمة مشتقة من الولادة ، والتي هي من صفات المرأة دون الرجل .
لذا كل آيات المواريث وتحمل المسئولية والتبعات الجسام تكون مع كلمة الأبوية ليناسب ذلك للرجل ، فالرجل هو المسئول عن الانفاق فميراثه مصروف وميراث المرأة محفوظ .
قال تعالى : فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ﴿99﴾ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف : 99 – 100] .
وكل توصية ومغفرة ودعاء وإحسان تكون مع كلمة الوالدين لمناسبة ذلك الام.
وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء : 23] .
هدايات الآيات :
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [يوسف : 15] .
أي : فلما أقنعوا أباهم بإرسال يوسف معهم ، وذهبوا به في الغد إلى حيث يريدون ، وأجمعوا أمرهم على أن يلقوا به في قعر الجب ، فعلوا به ما فعلوا من الأذى ، ونفذوا ما يريدون تنفيذه بدون رحمة أو شفقة .
فالفاء في قوله فلَمَّا: للتفريع على كلام مقدر، وجواب “لما” محذوف ، دل عليه السياق .
وفعل “أجمع” يتعدى إلى المفعول بنفسه ، ومعناه : العزم والتصميم على الشيء ، تقول :
(أجمعت المسير) أي : عزمت عزما قويا عليه .
وقوله أَنْ يَجْعَلُوهُ : مفعول أجمعوا .
قال الألوسي : “والروايات في كيفية إلقائه في الجب ، وما قاله لإخوته عند إلقائه وما قالوه له كثيرة ، وقد تضمنت ما يلين له الصخر ، لكن ليس فيها ما له سند يعول عليه” (1).
والضمير في قوله وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ : يعود على يوسف – عليه السلام – .
أي : وأوحينا إليه عند إلقائه في الجب عن طريق الإلهام القلبي ، أو عن طريق جبريل – عليه السلام – أو عن طريق الرؤيا الصالحة .
لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا أي : لتخبرنهم في الوقت الذي يشاؤه الله – تعالى – في مستقبل الأيام ، بما فعلوه معك في صغرك من إلقائك في الجب ، ومن إنجاء الله – تعالى – لك ، بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا إيذاؤهم له وإلقاؤهم إياه في قعر الجب ، ولم يصرح – سبحانه – به لشدة شناعته .
وجملة وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ حالية ، أي : والحال أنهم لا يحسون ولا يشعرون في ذلك الوقت الذي تخبرهم فيه بأمرهم هذا ، بأنك أنت يوسف . لاعتقادهم أنك قد هلكت ولطول المدة التي حصل فيها الفراق بينك وبينهم ، ولتباين حالك وحالهم في ذلك الوقت ، فأنت ستكون الأمين على خزائن الأرض ، وهم سيقدمون عليك فقراء يطلبون عونك ورفدك .
وقد تحقق كل ذلك – كما يأتي – عند تفسير قوله تعالى : فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يوسف : 88] .
وكان هذا الإيحاء – على الراجح – قبل أن يبلغ سن الحلم ، وقبل أن يكون نبياً .
وكان المقصود منه ، إدخال الطمأنينة على قلبه ، وتبشيره بما يصير إليه أمره من عز وغنى وسلطان .
قالوا : وكان هذا الجب الذي ألقى فيه يوسف على بعد ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب – عليه السلام – بفلسطين .
من بلاغة الآيات :
بِدَمٍ كَذِبٍ [يوسف : 18] ، الدم لا يوصف بالكذب والمراد بدم مكذوبٍ فيه أو دمٍ ذي كذب وجيء بالمصدر على طريق المبالغة .
لطيفة : روي أن امرأةً تحاكمت إلى شريح فبكت ، فقال الشعبي : يا أبا أمية أما تراها تبكي ؟ فقال الشعبي : لقد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة ، لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق . نقله الصابونيّ .
من هداية الآيات :
- الميل إلى أحد الأبناء بالحب يورث العداوة بين الأخوة .
- الحسد سبب لكثير من الكوارث البشرية .
- ارتكاب أخف الضررين قاعدة شرعية عمل بها الأولون .
- الشفقة والمحبة في الشقيق أكبر منها في الأخ للأب .
التفسير الإجمالي للآيات الكريمة :
7 – لقد كان في قصة يوسف وإخوته دلائل وعبر ، للسائلين عنها والراغبين في معرفتها .
8 – إذ قال إخوة يوسف لأبيه فيما بينهم : ليوسف وأخوه الشقيق أحب إلى أبينا منا ، ونحن جماعة قوية هي أنفع له منهما ، إن أبانا بإيثاره يوسف وأخاه علينا لفي خطأ وبعد عن الحق ، والصواب واضح ، ظاهر الوضوح .
9 – اقتلوا يوسف أو ألقوا به في أرض بعيدة عن أبيه ، لا يصل إليها ، يخلص لكم حب أبيكم وإقباله عليكم ، وتكونوا من بعد إبعاد يوسف عنه بالقتل أو النفي قوماً صالحين إذ يقبل الله توبتكم ، ويقبل أبوكم اعتذاركم .
10 – قال أحد المتحدثين منهم : لا تقتلوا يوسف ، فإذا ذلك جرم عظيم ، وألقوه فيما يغيب عن العيون من غور البئر ، يلتقطه بعض السائرين في الطريق ، إذ ألقى دلوه في البئر ، فيذهب به بعيداً عنكم وعن أبيه ، إن كنتم مصرين على إبعاده وتحقيق غرضكم بالفعل .
11 – قالوا بعد أن تم اتفاقهم على إبعاد يوسف : يا أبانا ما الذي رابك منك حتى تبعد يوسف عنا ، ولا تشعر بالأمن إذا كنا معنا ؟ نحن نؤكد لك أننا نحبه، ونشفق عليه ، ونريد له الخير ، ونرشده إليه ، وما وجد منا غير الحب وخالص النصح .
12 – أرسله معنا إلى المراعي غداً ، يتمتع بالأكل الطيب ، ويلعب ويمرح وإنا لحريصون على المحافظة عليه ، ودفع الأذى عنه .
13 – قال : إنني لأشعر بالحزن إذا ذهبتم بعيداً عنى .. وأخاف إذا أمنتكم عليه أن يأكله الذئب وأنتم في غفلة عنه .
14 – قالوا : نقسم لك ، لئن أكله الذئب ، ونحن جماعة قوية ، ليكونن ذلك العار والخسار ، إنا إذا حدث هذا الذي نخشاه ، لخاسرون لكل ما يجب الحرص عليه وعدم التفريط فيه . فاطمئن فلن نتهاون في المحافظة عليه لأننا بذلك نعرّض أنفسنا للضياع والهوان .
15 – فلما مضوا به بعيداً عن أبيه ، وأجمعوا رأيهم في إلقائه في غور البئر ، أنفذوا ما عزموا عليه ، وألهمناه الاطمئنان والثقة بالله وأنه سيخبرهم بأمرهم هذا الذي دَبَّروه وقدموا عليه ، وهم لا يشعرون حين تخبرهم أنك أخوهم يوسف الذي ائتمروا به ، وظنوا أنهم قضوا عليه واستراحوا منه .
(1) تفسير الألوسي ج 12 ، ص 177 .