الخطاب الشعري عند أبي إسحاق الإلبيري الأندلسي
تأليف الأستاذ الدكتور عصام محمد ندا
عرض وتحليل الدكتور صلاح عدس
نحن هنا أمام كتاب يتميز بما فيه من تحليلات عميقة وما في منهجه من الدقة العلمية وما فيه من الإحكام في الأحكام النقدية وما في طريقة عرضه من التشويق والجاذبية وما في أسلوبه من النواحي الجمالية وما في ردوده على المستشرقين من الموضوعية وخاصة “جوميث” و “جورسيه” في هجومهما على “الإلبيري” كنوع من النيل من الإسلام والعداء له ..
و”أبو إسحق الإلبيري” شاعر من أعظم شعراء العربية وإن لم يأخذ حقه من التقدير والشهرة مثل “أبي نواس” و “بشار بن برد” و “حمّاد عجرد” الذين كتبوا “لهو الحديث” من مجون وخمريات وشذوذ جنسي، وكانوا حفنة من الزناة والملاحدة والشواذ والمخمورين لكن الرواة تناقلوا شعرهم لأنهم كانوا ندماء السلاطين ومن هنا كانت شهرتهم، بينما تجاهل الرواة والنقاد أشعار الزبيريين وشعراء أهل البيت الذين لقوا السجن والاضطهاد من الأمراء ولقوا الاهمال والتجاهل من الرواة والنقاد الذين تناقلوا هذه الأحكام الخاطئة جيلاً بعد جيل ومن كتاب إلى كتاب ولذلك فإن تاريخ الشعر العربي قديماً وحديثاً بحاجة إلى إعادة كتابته بمنظور إسلامي لرفع الظلم عن مظاليم الأدب والشعر في الماضي والحاضر، وذلك بناء على قاعدة نقدية طرحها “ريتشاردز” أكبر نقاد الأدب الإنجليزي في كتابه “أسس النقد الأدبي”(*)
إذ يقول: ]إن العمل الأدبي يتكون من شكل ومضمون أما الشكل فهو الذي يحدد ما إذا كان العمل أدباً أم لا وأما المضمون فهو الذي يحدد عظمة العمل الأدبي[.. ولذلك نقول إن “أبا إسحق الإلبيري” كان شاعراً عظيماً لأنه يحمل مضموناً إسلامياً عظيماً وهذا ما يشرحه ويحلله لنا الدكتور عصام ندا في كتابه هذا حين يحدثنا عن المحاور الشعرية، أي الأغراض عنده ويحدثنا عن الاحساس العام في شعره والذي يتجلى من خلال الأنغام الوجدانية التي يجسدها في صوره الشعرية وألفاظه وبذلك يحلل إنتاج “أبي إسحق الإلبيري” تحليلاً أسلوبياً إلى جانب تحليل المضمون باعتبار العمل الأدبي منظومة متكاملة.. وقد ظهر “أبو إسحق الإلبيري” في القرن الخامس الهجري وعاش في عهد ملوك الطوائف، إذ توفي سنة 460هـ في إمارة “غرناطة” التي كانت أيامها تحت حكم “بن باديس” من البربر إلزيريين” الأفارقة وقد تولى الوزارة “يوسف النغريلي” اليهودي الذي طغى وأظهر سيطرة اليهود على الحكم وفرض الجبايات الباهظة على المسلمين وتطاول على القرآن، مما أثار السخط والحمية الثورية عند شاعرنا وكذلك “ابن حزم” وكتب شاعرنا قصيدة رائعة أشعلت ثورة قتلوا فيها آلاف اليهود …
وإذا كان “سارتر” يقول في كتابه “ما الأدب”(*) ]لا يوجد أديب في العالم له جمهور بمعنى التأثير والقيادة الجماهيرية[ فإن “أبا إسحق الابياري” هو أول شاعر كانت الجماهير تردد شعره خاصة قصيدته الثورية ضد اليهود، وبذلك لم يكن “الإلبيري” صوفيا سلبياً بل كان ثورياً قيادياً إيجابياً ……
وقد كانت هذه الظروف السياسية ذات أثر كبير في شعر “الإلبيري” إلى جانب ظروفه الخاصة المتمثلة في وفاة زوجته مما جعله ينكسر روحياً أمام صدمة الموت وصدمة الشيخوخة مما جعله يتجه إلى الصوفية والزهد وساهم في ذلك رفضه لما شاع في عصره من المجون والترف والانغماس في الشهوات الدنيوية مما عجَّل بانهيار المسلمين في الأندلس على يد الإفرنج في حربهم التي يسمونها باسم “حرب الاسترداد” “Reconquesta” ضد ملوك الطوائف الذين كانوا إمارات متحاربة يستعدي بعضهم “ألفونسو” على بعضهم الآخر … وهكذا يوضح لنا كاتبنا كيف كانت حياة “أبي إسحق الإلبيري” وبيئته الخاصة والعامة بمثابة المدخلات” التي أثرَّت في منظومة الابداع الشعري لدى شاعرنا أي شكلّت انتاجه الشعري من حيث الأغراض والمضامين ..
أما الاحساس العام في شعر “أبي إسحق الإلبيري” فهو الاحساس بالمأساة وهي عنده ذات بعدين، أولهما البعد الذاتي الذي يتمثل في احساسه بالمرارة والأسى إزاء صدمة الشيخوخة وصدمة الموت، موت زوجته لأنه أدرك أن الحياة هشَّة قابلة للكسر في أي لحظة، ومن ثمَّ زهد فيها لأنها فانية، وأما البعد الثاني في الاحساس العام بالمأساة لديه فيتمثل في انهيار المسلمين في الأندلس آنذاك وتغرقهم وتناحرهم وانغماسهم في الملذات الدنيوية..
أما المحاور الشعرية عند “أبي إسحق الإلبيري” فهي ثلاثة: المحور الصوفي والمحور الإنساني والمحور القومي بالمفهوم الإسلامي .. أما المحور الصوفي أو الميتافيزيقي” حيث ظهر في إنجلترا في القرن السابع عشر المدرسة (· ) الميتافيزيقية في الشعر لأنها تصور ما هو ديني وإلهي وروحاني مثلما في شعر “جون دون” وأما المحور الثاني فهو المحور الإنساني أي محور القيم الإنسانية، العامة وما هي في واقع الأمر إلا القيم الإسلامية، أما المحور الثالث فهو المحور القومي وهو محور إسلامي أي أيديولوجي بمعنى أنه عقائدي يتعلق بالجهاد وليس بمعنى “الوطني” المحدود، والجهاد هنا كان يتمثل في ثورة “أبي إسحق الإلبيري” ضد اليهود في شعره. ويحلل لنا الدكتور “عصام ندا” الاحساس العام بالمأساة في شعره من خلال صوره الشعرية التي تشكل في مجموعها الأنغام الوجدانية التي تشكل بدورها هذا الاحساس العام .. وهذه الأنغام هي نغمة الحزن والأسى والرثاء لنفسه واليأس إلا من رحمة الله بقبول توبته وخلاصه من النار وثوابه بالجنة مما يعطيه نغمة الأمل … ونعرض هنا بعض النماذج الشعرية التي أوردها الدكتور عصام ندا في كتابه فلنستمع إلى أبي إسحق الإلبيري إذ يقول:-
نحن في منزل الفناء ولكن * هو باب إلى البقاء وسُلَّـــــــمْ
ورحى الموت تستدير علينا * أبدا تطحن الجميع وتهشمْ
وأنا موقن بذاك عليـــــــــــــــــم * وفعالي فعال من ليس يعلم
********************
ويقول “الإلبيري”: من خلال الصور الشعرية التي تشكل في مجموعها الأنغام الوجدانية وهي نغمة الحزن والأسى أمام الموت موت زوجته وامام الشيب والشيخوخة بعد بلوغه الستين وكذلك نغمة الشعور بالذنب والأمل في الخلاص بالتوبة والزهد في الحياة والاقتراب من الله، إذ يقول:
تغازلني المنية من قريب * وتلحظني ملاحظة الرقيـب
وتنشر لي كتاباً فيه طيِّ * بخط الدهر أسطره مشيبي
كتاب في معانيه غموض * يلوح لكل أوَّابٍ منيـــــــــــــــــب
********************
يقول أيضاً:
أزال الشيب يا صاح شبابـي * ومن حسن النضارة بالشحوب
كذاك الشمس يعلوها اصفرارا * إذا جنحت ومالت للغــــــــــروب
********************
ولنستمع إليه ينعي نفسه بهذا الاستفهام التحسري لأن أحدًا لن يبكي لموته:
فمن هذا الذ بعدي سيبكـي * عليها من بعيد أو قريــب
********************
ولنستمع إليه يخاطب حمامة الأيك التي تبكي لفرقة الحبيب مستعملاً أسلوباً لغوياً بسيطاً وألفاظاً رقيقة إذ يقول في عاطفية حارة:
لكن ما أشكوه من فرط الجوى * بخلاف ما تجدين من شكـواك
أنا إنما أبكي الذنوب وأسرهـا * ومناي في الشكوى منال فكاكي
وإذا بكيت سألت ربي رحمـة * وتجاوزا فبكاي غير بكــــــــــــــــــاك
ويقول أيضاً:
من ليس يسعى في الخلاص لنفسه * كانت سعايته عليهـــا لا لهــــــــــــــــــــــــا
إن الذنوب بتوبة تُمحى كمــــــــــــــــــــــــا * يمحو سجود السهو غفلة من سها
********************
ويقول أيضاً مصوراً الشعور بالذنب:
أي خطيئاتـــي أبكي دمـــــــــــــاً * وهي كثير كنجوم السمــــــــــا
قد طمست عقلي فما اهتدى * وأورثت عين فؤادي العمـــــــا
إنا إلى الله لقد حـــــــــــــلَّ بي * خطب غدا صبحي به مظلما
********************
ويقول أيضاً مصوراً احساسه التراجيدي بالموت:
أين الملوك وأين ما جمعوا وما * ذخروه من ذهب المتاع الذاهب
قصفتهم ريح الرّدي ورمتهــم * كفُّ المنون بكل سهم صائــــــــــــب
********************
ويقول عن الدنيا وكيف نرحل عنها والأرض باقية:
تفنى وتبقى الأرض بعدك مثلما * يبقى المناخ وترحل الركبانُ
أأسرُّ في الدنيا بكل زيـــــــــــــــادة * وزيادتي فيها هي النقصانُ
********************
ويقول شاعرنا أيضاً:
وتدعوك المنون دعاء صدق * ألا يا صاح: أنت أريد أنـت
تنام الدهر ويحك في غطيط * بها حتى إذا متَّ انتبهتــا
فكم ذا أنت مخدوع وحتى * متى لا ترعوي عنها وحتى؟
********************
ويقول أيضاً عن فناء الدنيا:
سجنت بها وأنت لها محبُّ * فكيف تحبُّ ما فيه سجنتـا
ونادِ إذا سجدت له اعترافاً * بما ناداه “ذو النون بن متىَّ”
تفرُّ من الهجير وتتقيــه * فهلا عن جهنم قد فررتـــــــــــــــــا
أما عن رثائه لزوجته فإن موت الحبيب يجعلنا نحس بفاجعة الموت وكيف أن الحياة الإنسانية هشة قابلة للتحطم في أي لحظة، وشاعرنا يصور هذا الاحساس التراجيدي بما فيه من لوعة وأسى إذ يقول عنها:
إن كان يدثر جسمه في رمســه * فهواي فيه الدهر ليس بداثـر
فعساه يسمح لي بوصل في الكرى * متعاهدا لي بالخيـال الزائـر (·)
فأعلل القلب العليـــل بطيفــة * عليِّ أوافيه ولست بغــــــــــــــــــــــــادر
ولو أنني أنصفتــه فـــي ودّه * لقضيت يوم قضى ولم استأخـــــــــر
********************
ويتوحد عند شاعرنا مأساة الموت بمأساة الحياة في الدنيا إذ يقول عنها:
فأجبتها متعجباً من غــــــــدرها * أجزيت بالبغضا من يهـــــــــــــواك
لأجلت عيني في بنيك فكلهم * أسراك أو جرحاك أو صرعـــــــــاك
ما كنت منُ أمٍ لا أكالـــــــــــــة * بعد الولادة ما أقلّ حَيَـــــــــــــــــــــــــاك
فرضٌ عليا بُّراُ أمَّاتنــــــــــــــــــــا * وعقوقهم مُحــــــــــــــــــــــــــــــــرَّم إلاّلِ
لا عيش يصفو للملوك وإنما * تصفو وتحمد عيشته النُسَّاك
********************
ويصور لنا شاعرنا صدمة الشيخوخة إذ يقول:
هــلا إذا أشفى رأي شيبه * ينعاه فاستحى من اللهِ
********************
أما عن القيم الإنسانية العامة في شعر “الإلبيري” فمنها رثاؤه لمدينته “إلبيرة” بعد أن أدركها الخراب سنة 401هـ إذ يقول:
أتندب أطلال البلاد ولا يــــــــــــرى * الإلبيرة منهم على الأرض نادب
على أنها شمس البلاد وأنسها * وكل سواها وحشة وغيـــــــــــــــــــــاب
********************
وكذلك مدائحه ومراثيه التي لم تكن نفاقاً ولا زيفاً وإنما كانت تمجيداً لقيم الكرم والشهامة والشجاعة في الممدوح وهي قيم إسلامية وإنسانية.
أما عن ثورية شاعرنا الذي لم يكن صوفيا غارقاً في غيبوبة عن مآسي مجتمعه وعصره بل كان مجاهداً بطلاً مناهضاً لظلم اليهود ويوسف بن النغريلة وزير “باديس” حاكم “غرناطة” والذي كان الشعراء يمدحونه ويمدحون اليهود ويدعون للخمر والجنس والترف أما “الإلبيري” فهاجم كل ذلك وهاجم اليهود الذين تجاوزوا المدى وذلك بأيدي المسلمين الذين مكنوهم من ذلك وقد نشبت ثورة ضدهم آنذاك قُتل فيها آلاف اليهود …
ويخاطب شاعرنا “باديس” معاتباً إياه بأنه اختار “كاتبه” أي وزيره من اليهود فيقول:
تخير كاتبه كافـــــــــــــــــــــــراً *** ولو شاء كان من المسلمين
فعزَّ اليهود به وانتخــــوا *** وتاهوا وكانوا من الأرذليـــــــن
فكم مسلم فاضل قانـت *** لأرذل قرد من المشركيــــــــــــن
وما كان ذلك من سعيهم *** ولكنَّ منَّا يقوم المعيــــــــــــــــن
وكيف استنمت إلى فاسق*** وقارنته وهو بئس القريــــــن
تأمل بعينيك أقطـــــــــــــارها *** تجدهم كلاباً بها خاسئيــــن
وكيف انفردت بتقريبهـــــم *** وهم في البلاد من المبعدين
وإني احتللت بغرناطـــــــــــــة *** فكنت أراهم بها عابثيـــــــن
وقد قسموها وأعمالــــــــــــهـا *** فمنهم بكل مكان لعيــن
وهمُ أمناكم على سرّكـم *** وكيف يكون خؤون أميــــــــن
ويأكل غيرهم درهمــــــــــــــــا ***فيقضي، ويدنون إذ يأكلون
ولا تحسبن قتلهم غدرة *** بل الغدر في تركهم يعبثون
وقد نكثوا عهدنا عندهم *** فكيف تلام على الناكثيـن
ونحن الأذلة من بينهـم *** كأنا شأنا وهم محسنـون
فلا ترض فينا بأفعالهـم *** فأنت رهين بما يفعلـون
خلاصة القول هي أننا أمام شاعر كبير يتميز بالبساطة والرقة والعاطفية وبعظمة المضمون الإسلامي، وكذلك نحن أمام ناقد قدير هو الدكتور عصام ندا جمع لبحثه هذا أدق المراجع وأوثق المصادر وقام فيه بتحليل المضمون والتحليل الأسلوبي لشعر أبي القاسم الإلبيري بعمق وموضوعية، وكتابه بذلك ليس فقط دراسة أكاديمية باهرة وإنما هو أيضاً إثراء للمكتبة العربية ولكل المثقفين عامة ..
* Principles of criticism, by : A. Richards. P. 75
* ما الأدب – جان بول سارتر – ترجمة: د. محمد غنيمي هلال.
- History of English literature – by:
- أنظر كتاب الأغاني لأببي الفرج الأصفهاني في حديثه عن ديك الجن عبد السلام بن رغبان وقد أورد هذا المعنى في رثاءه لزوجته التي قتلها بسبب وهم الغيرة إذ يقول:
جاءت تزور فراشي بعدما قبرت * فظللت ألثم نحرًا زانه الجيــــــدُ
وقلت قرة عيني هل بعثــــــت لنا * وكيف ذا وطريق القبر مسدود
قالت هناك عظامي فيه مودعـــة * هذي زيارة من في القبر ملحود
وهذا ما يسمونه في النقد الحديث باسم التناص أي تداخل النصوص ….