بقلم الشيخ/ أحمد رمزي
“المدد”.. كلمة مجازية يُراد بها (طلبات وآمال كثيرة من الله).. عجز العقل عن وصفها، وعجز اللسان عن التعبير عنها، فاختار الصوفية لها كلمة (المدد)..
انفردوا بها.. وهي من مصطلحاتهم الخاصة..
فإذا سألت أحدهم عن مدلولها.. سيجيبك بمفهوم يختلف عن الآخر..
فتجدها إما طلب لقضاء حاجة مادية أو معنوية.
(مال.. زواج.. شفاء.. بنين.. نجاح.. قرب ووصل بالله.. استغفار.. هداية.. وكثير من المعاني الروحية التي يصعب التعبير عنها بمفردات اللغة.. وغيرها).
والدليل على (سلامة عقيدة) الصوفية في دقة اختيارهم كلمة (المدد)..
أنه لم تنسب (كلمة المدد) ومشتقاتها بمعنى (المنح، والعطاء، والزيادة، والبركة) في (القرآن الكريم) إلى (مخلوق) على الإطلاق.. وإنما تنسب (لله وحده).. مثل:
﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ﴾..
﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾..
ووردت (كلمة المدد) في القرآن الكريم متعددة ومتنوعة العطايا ..
منها “المدد المعنوي” الذي لا يدركه عقل إلا (رجل كامل الإيمان) وهو (مدد الْمَلَائِكَةِ)..
﴿ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ﴾ ..
ومنها “المدد الحسي” وهو (الأَمْوَال وَالبَنونَ، الأَنْعَام، الفَاكِهَة، اللَحْم الطيب)..
﴿ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ ﴾.. ﴿ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ﴾ .. ﴿ وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ ..
فالصوفي يسأل الله أن يمده من عطائه اللامحدود..
﴿كُلًّا نُمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّك﴾..
أما قولهم “مدد يا رسول الله”.. “مدد يا حسين”.. “مدد يا ست”.. “مدد يا رفاعي”..
فإن الصوفي يختار من (خيرة الناس).. من يعتقد (بحُسن ظنه) أن الله أكرمهم وأنعم عليهم واصطفاهم بما لم يعطه غيرهم.. وأمدهم بما يريده من الله..
فكما أمددتهم أمدني.. وبكرامتهم عندك أعطني مثلهم..
فنجده يطلب المدد من الله (بندائهم) وليس (منهم)..!!
لا يقول (مدد من الحسين، ولا مدد من البدوي)..
والأعجب أنه لا ينسب المدد إليهم (مددك يا شاذلى.. مددك يا نفيسة)..
ولما الإنكار؟؟!!
هل “سيدنا جبريل” هو من وهب “السيدة مريم” ابنها “المسيح عيسى” وهو القائل: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ﴾؟؟!! أم الله هو الوهاب الحقيقي..؟؟!!
وفى قوله تعالى ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا )
فالرزق هنا مجازي لأن الرازق على الحقيقة هو الله..
والمقصود من الآية هو أن نكون وسيلةً وسببًا لإيصال رزق الله الذي قدره لخلقه..
وتأمل قوله تعالى ﴿إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ﴾..
أي أن الله تعالى، وجبريل، وصالح المؤمنين، والملائكة، كلهم أعوان وسند لسيدنا رسول الله على من يؤذيه..!!
ألم يقل سيدنا رسول الله (فَإِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ عَرْجَةٌ بِأَرْضٍ فَلاةٍ فَلْيُنَادِ: أَعِينُوا عِبَادَ اللَّه)..
أتعتقد أن هذا العون من محض تصرف وإرادة الملائكة؟! أم أنه بمشيئة الله وقدرته..؟؟!!
ورسول الله يخبرنا ﴿قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ﴾. فلم تكن لا ناهية مطلقة، لكن بمشيئة الله النفع والضر..!!
ولما الإنكار..؟؟!!
ألم يقل الله سبحانه وتعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾
هل المعنى اسأل أرضها وديارها..؟!!
أم اسأل من فيها من أهلها..؟؟!!
وقوله تعالى: ﴿وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا﴾
هل المقصود اسأل القافلة بأحمالها وبعيرها..؟!!
أم اسأل من فيها من مرتحلين..؟؟!!..
في حين أن لله مدد (سخط وغضب وعقاب).. أيُعقل أن يكون هذا مراد قائل (مدد)..؟!!
فقد أمد الله بعض عباده (الْعَذَاب، الضَّلَالَة، وجعلهم فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ )..
﴿ كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا﴾ .. ﴿ قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَٰنُ مَدًّا﴾ ..﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾..
فكما نفهم أن من يقول (مدد) لا يريد (مدد غضب)..
فهو بالتالي يجب أن نوقن أنه يقولها وهو في كامل يقينه وإيمانه أن الله وحده هو (المعطي الوهاب).. مهما قلنا: مدد يا فلان..!!
هذا.. والشائع أيضًا عند الصوفية،
أنه إذا ذُكر (اسم ولي) من أولياء الله الصالحين..
قالوا: (مدد).. أي..
(اللهم أفض علينا مما اختصصته وأكرمته به من عطائك)..
فتجدها عندهم بمثابة (رضي الله عنه، قدس الله سره).. فتعبر كلمة (مدد) عما يعجز عنه اللسان في تقدير هؤلاء السادة وإعطائهم قدرهم..
يقول شيخنا “الإمام الرائد محمد زكي إبراهيم”..
أتسخَـرُ منا لقولِ (مـَـدَد)؟ ** ولستَ الفقيهَ ولا المجتهد
أتَسخــَـــر مـــنا بلا حُجَــةٍ ** وقد قال رَبُــك: ( كُلًّا نُمِـد)
عَطــــاءً رخــاءً تَجــَـلَّى به ** وكلٌّ عليـــــه بـِـــه يَعتـَــمِد
فَفِيم المَلام وفَيِم الخِصَام ** وليـــس المُعَقَّــد كالمُعتَقِــد
لنا عِلمُنــــا ولــكم عِلمُــكم ** وكلٌّ إلي حُجــــةٍ يَســــتَنِد
فقــد نَتــَـأوَّلُ إذ نَرتَجـِــي ** وقد نَتَوسـَّـــل إذ نَســـتَمــِد
تَجَاربُـــــنا حُجَـــةٌ بينـــنا ** وما من أفـــادَ كمن لم يَفِـــد
فإن كنت تَفهـَـمُنا فاعتَقِـد ** وإلا فَدَعنـــَــا ولا تَنتقـِـــد !!
مدد.. مدد..
وأخيرًا.. بعد هذا البيان من أدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.. نقول:
مصطلح “المدد” من اصطلاحات الصوفية الخاصة التي عبروا فيها عن مدركاتهم ومواجيدهم وأذواقهم..
التي قد تبدو مخالفة لنصوص الشريعة وأحكامها، إلا أنها تعتمد على التجربة الخاصة، والمعرفة بأحوالهم..
فإن لم تتحقق فمُحال تُصُدِّق..!!
والله اعلم .