أبرز القضايا الواردة في سورة يوسف عليه السلام
بقلم/ د. محمد العربي
جاءت سورة يوسف مبرزة للحقائق والهدايات، بأسلوب المحاورات والمجادلات والمناقشات … ومن مظاهر ذلك :
المحاورات التي دارت حول إخوة يوسف في شأن الانتقام منه ، والتي منها قوله – تعالى – : لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ﴿7﴾ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿8﴾ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ﴿9﴾ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [يوسف : 7 – 10] .
والمحاورات التي دارت بينهم وبين أبيهم في شأن اصطحابهم ليوسف ، والتي منها قوله – تعالى – : قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴿11﴾ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴿12﴾ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴿13﴾ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ [يوسف : 11 – 14] .
والمحاورات التي دارت بين يوسف وإخوته ، بعد أن عرفهم وهم له منكرون ، وبعد أن ترددوا عليه ثلاث مرات للحصول على حاجتهم من الزاد … والتي منها قوله – تعالى – :
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ﴿88﴾ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ﴿89﴾ قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ۖ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي ۖ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ۖ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴿90﴾ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ﴿91﴾ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف : 88 : 92] .
وهكذا نجد السورة الكريمة زاخرة بأسلوب المحاورات والمناقشات والمجادلات . تارة بين يوسف وإخوته ، وتارة بين إخوته فيما بينهم ، وتارة بينهم وبين أبيهم ، وتارة بين يوسف وامرأة العزيز ، وتارة بينه وبين ملك مصر في ذلك الوقت . وهذه المحاورات التي حفلت بها السورة الكريمة ، قد أكسبتها لونا من العرض المشوق ، الذي يجعل القارئ لها يتعجل حفظ كل موضوع من موضوعاتها ، ليصل إلى الموضوع الذي يليه .
وهذا الأسلوب في عرض الحقائق من أسمى الأساليب التي تعين القارئ على حفظ القرآن الكريم ، وعلى تدول معانيه ، وعلى الانتفاع بهداياته ..
(ب) إبرازها لجوهر الأحداث ولبابها .. أما تفاصيل هذه الأحداث . فتركت معرفتها لفهم القارئ وفطنة وسلامة تفكيره ، وحسن تدبره لكلام الله – تعالى – ..
وهذا اللون من العرض للأحداث ، يسمى في عرف البلغاء ، بأسلوب الإيجاز بالحذف والقارئ لهذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل ، يراها على رأس السور القرآنية التي كثر فيها هذا الأسلوب البليغ .
فمثلا قوله – تعالى : وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ۚ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ [يوسف : 18] . معطوف على كلام محذوف يفهم من السياق .
والتقدير : وبعد أن ألقى إخوة يوسف به في الجب وانصرفوا لشئونهم وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ۚ لكى يخدعوا أباهم ، فلما أخبروه بأن الذئب قد أكله قال : قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ.
وكذلك قوله – تعالى – : قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَﮊ [يوسف : 33] . مترتب على كلام محذوف يفهم من سياق الآيات .
والتقدير : وبعد أن سمع ما قالته النسوة بشأنه عند ما دخل عليهن بأمر من امرأة العزيز ، وسمع تهديد هذه المرأة له بقوله : قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ۖ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ۖ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف : 32] .
بعد أن سمع يوسف كل ذلك وتيقن من مكرهن به ، لجأ إلى ربه مستجيرا به من كيدهن فقال : رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ .
وأيضاً قوله – تعالى – : وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ﴿45﴾ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ [يوسف : 45 – 46] . يعتبر من بديع أسلوب الإيجاز بالحذف ، إذ تقدير الكلام :
وبعد أن عجز الملأ عن تفسير رؤيا الملك ، وقالوا له : إن رؤياك أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ، وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا ، أي : من صاحبي يوسف في السجن وهو الساقي وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أي وتذكر بعد نسيان طويل ، أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ إلى من عنده تفسير هذه الرؤيا تفسيرا صحيحا – وهو يوسف – فاستجابوا له وأرسلوه إلى يوسف ، فذهب إليه في السجن ، فلما دخل عليه قال له : يا يوسف يا أيها الصديق ، أفتنا في سبع بقرات سمان …. الخ .
وهذا الأسلوب الذي زخرت به السورة الكريمة ، وهو أسلوب الإيجاز بالحذف ، من شأنه أنه ينشط العقول ، ويبعثها على التأمل والتدبر فيما تقرؤه ، ويعينها على الاتعاظ والاعتبار ..
وهو أسلوب أيضاً تفتضيه هذه السورة الكريمة ، لأنها تتحدث عن قصة نبي من أنبياء الله – تعالى – . والحديث عن ذلك يستلزم إبراز جوهر الأحداث ولبابها ، لا إبراز تفاصيلها وما لا فائدة من ذكره .
فاشتمال السورة الكريمة على هذا الأسلوب البليغ ، هو من باب رعاية الكلام بمقتضى الحال ، وهو أصل البلاغة وركنها الركين .
(ج) السورة الكريمة اهتمت اهتمام واضحا بشرح أحوال النفس البشرية وتحليل ما يصدر عنها في حالة رضاها وغضبها ، وفي حال صلاحها وانحرافها ، وفي حال غناها وفقرها ، وفي حال عسرها ويسرها ، وفي حال صفائها وحقدها ..
وقد حدثتنا عن الشخصيات التي وردت فيها حديثا صادقا أمينا ، كشفت لنا فيه عن جوانب متعددة من أخلافهم ، وسلوكهم ، وميولهم ، وأفكارهم … وأعطت كل واحد منهم حقه في الحديث عنه .
فيوسف – عليه السلام – وهو الشخصية الرئيسية في القصة – حدثنا عنه حديثا مستفيضا نستطيع من خلالها ، أن نرى له – عليه السلام – مناقب ومزايا متنوعة.
من أهم مناقب ومزايا يوسف – عليه السلام – :
1 – امتلاكه لنفسه ولشهوته مهما كانت المغريات ، بسبب خوفه لمقام ربه ، ونهيه لنفسه عن الهوى …
ولا أدل على ذلك من قوله – تعالى – : وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف : 23] .
قال الشيخ القاسمي : قال الإمام ابن القيم ما ملخصه : “لقد كانت دواعي متعددة تدعو يوسف إلى الاستجابة لطلب امرأة العزيز منها : ما ركبه الله في طبع الرجل من ميله إلى المرأة …
ومنها : أنه كان شابا غير متزوج .. ومنها : أنها كانت ذات منصب وجمال .. وأنها كانت غير آبية ولا ممتنعة .. بل هي التي طلبت وأرادت وبذلت الجهد ..
ومنها : أنه كان في دارها وتحت سلطانها .. فلا يخشى أن تنم عليه ..
ومنها : أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال فأرته إياهن ، وشكت حالها إليهن …
ومنها : أنها توعدته بالسجن والصغار إن لم يفعل ما تأمره به ..
ومنها : أن الزوج لم يظهر من الغيرة والقوة ما يجعله يفرق بينه وبينها ..
ومع كل هذه الدواعي ، فقد آثر يوسف مرضاه الله ومراقبته ، وحمله خوفه من خالقه على أن يختار السجن ارتكاب ما يغضبه …” .
2 – صبره الجميل على المحن والبلايا ، ولجوؤه إلى ربه ليستجير به من كيد امرأة العزيز وصواحبها : قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف : 33] .
3 – نشره للدين الحق ، ودعوته لعبادة الله وحده ، حتى وهو بين جدران السجن ، فهو القائل لمن معه في السجن يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴿39﴾ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يوسف : 39 – 40] .
4 – حسن تدبيره للأمور ، وتوصله إلى ما يريده بأحكم الأساليب ، وحرصه الشديد على إنقاذ الأمة مما يضر ويعرضها للهلاك ، قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ [يوسف : 47] .
5 – عزة نفسه ، وسمو خلقه ، فقد أبى أن يذهب لمقابلة الملك إلا بعد إعلان براءته وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف : 50] .
6 – تحدثه بنعمة الله ، ومعرفته لنفسه قدرها ، وطلبه المنصب الذي يناسبه ، ويثق بقدرته على القيام بحقوقه : قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف : 55] .
7 – ذكاؤه وفطنته ، فقد تعرف على إخواته مع طول فراقه لهم : وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴿57﴾ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ [يوسف : 58] .
8 – عفوه وصفحه عمن أساء إليه : قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ﴿91﴾ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف : 92] .
9 – وفاؤه لأسرته ولعشيرته : اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ [يوسف : 93] .
10 – شكر الله – تعالى – على نعمه ومننه : رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف : 101] .
هذا جانب من حديث السوة الكريمة عن يوسف – عليه السلام – ، وهو حديث بدل على أنه كان فى الذرة العليا من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم ..
(د) وتحدثت السورة عن يعقوب – عليه السلام – فذكرت من بين ما ذكرت عنه ، صفات الصبر الجميل ، والأمل في رحمة الله مهما اشتدت الخطوب ، والحرص على سلامة أبنائه من كل ما يؤذيهم حتى ولو أساءوا إليه ، والنظر إلى الأمور بعين تختلف عن عيون أبنائه ، والحكم عليها بحكم يختلف عن أحكامهم ..
يدل على ذلك قوله – تعالى – : وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ۚ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ [يوسف : 18] .
وقوله – تعالى – : قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف : 83] .
وقوله – تعالى – : وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ۖ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ۖ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [يوسف : 67] .
وقوله – تعالى – : وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ۖ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ ﴿94﴾ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ﴿95﴾ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ۖ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [يوسف : 94 – 96] .
(هـ) وتحدثت عن إخوة يوسف حديثا مستفيضا ، تبدو فيه غيرتهم من يوسف ، وحسدهم له ، وتآمرهم على حياته ، وحقدهم عليه حتى وهو بعيد عنهم … ثم ندمهم في النهاية على ما فرط منهم في حقه بعد أن مكن الله له في الأرض .
نرى ذلك في مثل قوله – تعالى – : اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ
[يوسف : 9] .
وفي قوله : قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ [يوسف : 85] .
وفي قوله – سبحانه – : قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ۚ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ۚ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا ۖ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ [يوسف : 77] .
وفي قوله – تعالى – : قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف : 91] .
(و) وتحدثت عن امرأة العزيز حديثا يكشف عن حال المرأة عندما تحب .. وكيف أنها في سبيل الحصول على رغبتها تحطم كل الموانع النفسية والاجتماعية ..
وتستخدم كل الوسائل التي تظن أنها ستوصلها إلى مرادها . حتى ولو كانت هذه الوسائل تخالف ما عرف عن المرأة من أنها حريصة على أن تكون مطلوبة من الرجل لا طالبة له .
(ز) وتحدثت عن العزيز حديثا قصيرا يناسب حجمه وسلوكه وتبلد شعوره ، فهو مع إيقانه بخطأ امرأته لم يزد على أن قال ليوسف ولها : يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۚ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ [يوسف : 29] .
(ح) وتحدثت عن ملك مصر في ذلك الوقت … وعن البيئة التي وصل الحال بها أن تزج بيوسف البريء في السجن ، إرضاء لشهوات النفوس الجامحة ..
قال – تعالى – : ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حتى حِينٍ [يوسف : 35] .
وهكذا نجد السورة الكريمة تحدثنا عن نماذج من البشر ، فتصف كل نموذج بما يناسبه من صفات ، بصدق وأمانة ، وتحكم عليه بالحكم الذي يناسبه .
قال صاحب الظلال ما ملخصه : والسورة كلها لحمة واحدة عليها الطابع المكي واضحا في موضوعها وفي جوها وفي ظلالها وإيحاءاتها ، بل إن عليها طابع هذه الفترة الحرجة الموحشة بصفة خاصة ..
ففي الوقت الذي كان الرسول † يعانى من الوحشة والغربة والانقطاع في جاهلية قريش – منذ عام الحزن – كان الله – تعالى – يقص عليه قصة أخ له كريم هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وهو يعانى صنوفا من المحن والابتلاءات .
محنة كيد الأخوة ، ومحنة الجب ، ومحنة الرق ، ومحنة كيد امرأة العزيز ، ومحنة السجن ، ثم محنة الرخاء والجاه والسلطان .
فلا عجب أن تكون هذه السورة بما احتوته من قصة ذلك النبي الكريم ، ومن التعقيبات عليها بعد ذلك … تسلية للرسول الله † ولأصحابه عما أصابهم من أعدائهم ، وتسرية لقلوبهم وتطينا لنفوسهم .
ولكأن الله – تعالى – يقول لنبيه † : كما أخرج يوسف من حضن أبيه ليواجه هذه الابتلاءات كلها ، ثم لينتهي بعد ذلك إلى النصر والتمكين .
كذلك أنت يا محمد ستخرج من بلدك مكة مهاجرا .. ثم تعود إليها في الوقت الذي يشاؤه الله ظافرا منتصرا .