ظاهرة التكرار في القصص القرآني وبيان سببه
بقلم الدكتور/ محمد العربي
التكرار في القصص القرآني ظاهرة ، واضحة ، لافتة للنظر ، وداعية لكثير من التساؤل والبحث ..
والقصص التي جاءت في القرآن مرات ومرات ، هي قصة خلق آدم من الطين ، وسجود الملائكة له ، واستكبار الشيطان عنه ، ولعنه وطرده لأجله ، وسعيه من ذاك في إغواء بني آدم وإضلالهم وقصص محاجة نوح ، وهود ، وصالح ، إبراهيم ، ولوط ، وشعيب مع شعوبهم وأقوالهم في توحيد الله – تعالى – والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واستكبارها وطغيانها وإدلائهم بشبهات ركيكة وردود الأنبياء – عليهم الصلوات التسليمات – عليها ونزول عذاب الله – تعالى – ونقمه على الأشقياء وظهور نصرة الله – تعالى – وتأييده في حق الأنبياء والأتباع ، وقصص سيدنا موسى – عليه السلام – مع فرعون وملأه ، وسفهاء بني إسرائيل ، ومكابرتهم له ، وعقاب الله – تعالى – لأولئك التعساء وتركهم يتيهون في الأرض ، وظهور تأييدات الله – تعالى – متتالية لنجيه وكليمه – عليه السلام .
وقصص سيدنا داود وسليمان – عليهما السلام – وخلافتهما ومعجزاتهما وخوارقهما ، وقصة محنة سيدنا أيوب وسيدنا يونس – عليها السلام – وظهور رحمة الله – تعالى وعطفه عليها ، وقصة دعاء سيدنا زكريا – علية السلام – واستجابة الله – تعالى – إياه ، والقصص العجيبة لسيدنا عيسى – عليه السلام – وولادته من غير والد ، وتكلمه في المهد ـ وظهور الخوارق والمعجزات على يده ، وأمثال هذه من القصص التي اطردت في القرآن الحكيم بألوان مختلفة من الإيجاز والإطناب والتفصيل حسب مقتضى الأساليب المرعية في السور .
القصص التي لم تتكرر في القرآن كثيراً :
أما القصص التي لم تتكرر في القرآن تكرار القصص الأولى بل وردت في موضع أو موضعين فحسب فهي :
– قصة رفع سيدنا إدريس – عليه السلام – مكاناً علياً .
– وقصة محاجة إبراهيم لنمرود ، ومشاهدته إحياء الطير ، وقصة ذبح ولده الوحيد .
– قصة سيدنا يوسف عليه السلام .
– وقصة ولادة سيدنا موسى – عليه السلام – وإلقائه في اليم ، ووكزه للقبطي وقتله إياه ، ثم توجهه إلى “مدين” وتزوجه هناك ، ومشاهدته النار على الشجرة وسماع الكلام منها .
– وقصة ذبح البقرة .
– وقصة لقاء موسى مع الخضر – عليهما السلام .
– وقصة طالوت وجالوت .
– وقصة بلقيس (ملكة سبأ) .
– وقصة ذي القرنين .
– وقصة أصحاب الكهف
– وقصة الرجلين المتحاورين (أحدهما يعتز بما له من مال وبنين وجنات من أعناب ، والآخر قليل المال ولكنه يذكره بالله – تعالى – ونعمته وشكره والآخرة) .
– وقصة أصحاب الجنة (الذين أرادوا أن يحرموا الفقراء المساكين من عطاياهم وصدقات أموالهم ، فرجعوا محرومين والجنة خاوية على عروشها) .
– وقصة الرسل الثلاثة الذين بعثهم سيدنا عيسى – عليه السلام – لدعوته ، واعتدى عليهم الكفار وقتلوهم .
– وقصة أصحاب الفيل ، وغير ذلك .
وقد وجد أصحاب الأهواء ، ومرضى القلوب ، من الملحدين وأعداء الإسلام في هذا التكرار مدخلا ملتويا ، يدخلون منه على هذا الدين ، للطعن في القرآن الكريم ، والنيل من بلاغته ، وإسقاط القول بإعجازه ، وليقولوا إن هذا التكرار قد أدخل الاضطراب على أسلوب القرآن ، وجعله ثقيلا على اللسان وعلى السمع معا .. ثم يخلصون من هذا إلى القول بأن أسلوب القرآن ليس على المستوي البلاغي الرفيع ، الذي يتسع للدعوى التي يدعيها له المسلمون بأنه معجز .. وبأنه منزل من السماء ، من كلام ربّ العالمين ! ولقد كان التكرار في القصص القرآني ، موطناً من المواطن التي دخل منها المستشرقون ، وأشباه المستشرقين ، من أعداء الإسلام ، للطعن في القرآن ، وأن هذا التكرار ، هو اختلال في النظم ، جاء نتيجة للحالات العصبية والنفسية التي كانت تعترى النبيّ ، كما يقولون ، كذبا وبهتانا.
قال الباقلاني : “فقد أتى بذكر القصة على ضروب ليعلمهم عجزهم عن جميع طرق ذلك .. ليكون أبلغ في تعجيزهم وأظهر للحجة عليهم” .
وقال السيوطي : الاقتدار أن يبرز المتكلم المعنى الواحد في عدة صور اقتداراً منه على نظم الكلام وتركيبه وعلى صياغة قوالب المعاني والأغراض فتارة يأتي به في لفظ الاستعارة وتارة في صورة الإرداف وحينا في مخرج الإيجاز ومرة في قالب الحقيقة ، قال ابن أبي الإصبع وعلى هذا أتت جميع قصص القرآن فإنك ترى القصة الواحدة التي لا تختلف معانيها تأتي في صور مختلفة وقوالب من الألفاظ متعددة حتى لا تكاد تشتبه في موضعين منه ولا بد أن تجد الفرق بين صورها ظاهراً.
وإن من أدق ما ذكره السابقون تعليلاً لتكرار القصة في القرآن الكريم قول البقاعي في نظم الدرر :
المقصود من حكاية القصص في القرآن إنما هو المعاني فلا يضر اختلاف اللفظ إذا أدى جميع المعنى أو بعضه ولم يكن هناك مناقضة فإن القصة كانت حين وقوعها بأوفى المعاني الواردة ثم إن الله تعالى يعبر لنا في كل سورة تذكر القصة فيها بما يناسب ذلك المقام في الألفاظ عما يليق من المعاني ويترك ما لا يقتضيه ذلك المقام ، ولم تكرر قصة يوسف ، وكأن عدم تكريرها لأن مقاصد السور لم تقتض ذلك والله أعلم (4) .
علة ذلك أن القرآن نزل شيئاً بعد شيء نجوما ، في ثلاث وعشرين سنة ، فكانت العرب ترد على النبي من كل أفق فيقرئهم المسلمون السورة من القرآن ، فيذهبون بها إلى قومهم .
وكان يبعث إلى القبائل المتفرقة ، بالسور المختلفة ، فيبلغ إلى هؤلاء من القصص ما لم يبلغ إلى هؤلاء ، فثنى الله القصص وكررها ليكون يبلغ إلى هؤلاء ما يبلغ إلى هؤلاء إشهارا منه لهذه القصص ليتعظ بها من بلغته ، ويعلم أنها دلالة على نبوة من أتى بها ، ويعيها كل قلب ، ويزداد الحاضرون السامعون لتكرارها تفهما .
ولو نزل القرآن جملة واحدة لسبق حدوث الأسباب التي أنزله الله (عز وجل) بها ، ولثقلت جملة الفرائض على المسلمين ، وعلى من أراد الدخول في الدين ولفسد معنى النسخ ، فإنما نزل فرضا بعد فرض ، تدريجيا للعباد وتيسيرا عليهم إلى أن يكمل دين الله (عز وجل) .
كل ذلك تثبيتا لهم على الإسلام ، قال الله : كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ [الفرقان : 32] ، وهذا جوابهم إذا قالوا : لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ [الفرقان : 32] ، فإنما نزل متفرقاً ليثبتهم على الإسلام ، إذ لو نزلت الفرائض مرة واحدة ، لكان ذلك داعية إلى النقار والصعوبة عليهم .
فإن قيل : هلا كررت الفرائض كما كررت القصص ؟
قيل : إن الفرائض كان رسول الله يبعث بها إلى كل قوم ليعلمهم بها فرض الله عليهم ، من الصلاة والزكاة ، فكل المؤمنين يصل إليه ذلك ببعث رسول الله (عليه السلام) إذ ذلك وجب عليه ، وهو من تمام التبليغ .
والقصص ليس كذلك ، إنما نزلت على على طريق الاعتبار ، فليس يقتص بها كل من آمن ، فكررت لتشتهر عند المؤمنين.