خصوبة التربة!
بقلم د. إيمان عزمي
هذا هو الجزء الخامس (قبل الأخير) الذي (يتبع) الجزء الرابع المعنون بالإدارة عن بُعد: الخصائص والصفات، وفيه:
لحسن الحظ – أو لسوئه وفقا لطبيعة قيادتك وتأثيرك الإداري – لا يمكنك تطبيق النوع الخبيث للإدارة عن بعد – رغم كثرته وإن أعجبتك! – في المجتمعات الإدارية التي تستمد قوتها وتأثيرها من القيم الإنسانية الفطرية السليمة، الوارد بيانها في الكتب السماوية المتعاقبة عبر الزمن؛ وتمامها في تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ذلك لأن البيئة الخصبة لاستشراء ظاهرة الإدارة الخبيثة عن بُعد لها ثلاثة مقوماتٍ أساسية هي عناصر خصوبتها؛ تمامًا كمقومات التربة الخصبة المساعدة على النمو والازدهار، هذه المقومات هي:
(1) الغباء أو السذاجة العاطفية والاجتماعية في محيط الإدارة
(2) الطفولة العقلية في التعاملات الإدارية
(3) ضغوط الحياة
دعنا نتناولها واحدة تلو الأخرى …
أولا: الغباء أو السذاجة العاطفية والاجتماعية في محيط الإدارة، وهي نقيض الذكاء العاطفي والاجتماعي “Emotional & Social Intelligences“، وليست السذاجة كالغباء؛ فالساذَج بسيط القلب سليم النية، تراه عاطفيا صريحا يَنْخدِع بسُهولة مثل “عطيل” و”ديدمونة”، وقليل النَّباهة والدَّهاء لكثرة ما لم يُحِط به خُبرًا من أمور السواد الأعظم من البشر، وليس هذا كالغبي، فالغبي جاهل في المقام الأول، قليل الفطنة، تجده عاجزًا عن إصدار حكمٍ سليمٍ حتى فيما يخصّه مثل “إميليا” زوجة “ياجو”، وكثيرًا ما يُستخدمُ كمخلب قط في الإدارة (وهذا مصطلح إداري ربما نتحدث عنه تفصيلا في مقام آخر).
الغباء أو السذاجة العاطفية والاجتماعية في محيط الإدارة قوامها البُعد عن المصارحة والشفافية والمكاشفة في التعاملات الإنسانية، وعدم الاهتمام بربط الأحداث أو جمع المعلومات وتحليلها لإدراك الصورة كاملة، وغياب ردود الأفعال الفطرية السليمة في التعامل الإداري كإفشاء السلام، وصَدَقَة التبسّم في وجه أخيك، والثناء على الحَسَن من الأفعال والسلوك، والعقاب المنصب على الفعل دون الشخص، وغيرها.
ثانيا: الطفولة العقلية في التعاملات الإدارية، وقوامها البُعد عن الموضوعية، والاستناد إلى المشاعر دون الحقائق، والتسرع في الحكم على المواقف والظواهر والأفراد، فتجد ردودَ أفعالٍ غير ناضجة تقترب من ردود أفعال الطفل إن تعرض إلى ما يضايقه أو يؤذي مشاعره؛ فإما البكاء أو الغضب أو المعاداة أو ظن السوء أو سوء الظن، والظن هنا لا يُغني من حقيقة الأمر وواقِعِه والحق فيه شيئا “وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنا، إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ” (يونس: 36)، وردت نصًا مرتان “إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا”؛ مرة في سورة يونس، ومرة في سورة النجم: “وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ، إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا” (النجم: 28).
وفي بعض الظن ما تهوى الأنفس أن تراه “إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ، وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى” (النجم: 23)، وفي بعضه إثم “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ، وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ” (الحجرات: 12).
وفي بعضه الآخر – إن لم يكن كثيره – كذب؛ من الفعل “خرص” و”يخرصون”، وردت نصًا ثلاث مرات في القرآن الكريم، مرة في سورة يونس: “إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ” (يونس: 66)، ومرتين في سورة الأنعام: “وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ، إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ” (الأنعام: 116)، و”قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا، إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ” (الأنعام: 148).
نفس هذا الظن هو الذي دفع “عُطيل” لخنق زوجته المخلصة “ديدمونة” كونه نَسَج خيالا واسعًا وعاش فيه بعيدًا عن الواقع الحقيقي للأمور، ونفس هذا الظن أيضا دفع بعض الموظفين إما للاستقالة أو الاكتئاب أو الاغتراب أو الاحتراق الوظيفي وأحيانا – في بعض الحالات المستعصية – التفحم الوظيفي الذي لا يُجدي معه ماء يُطفئه أو نار تُشعله.
ثالثا: ضغوط الحياة المقترنة بالانشغال المستمر في مناحيها، ولحظات الضعف الإنساني المقترنة بالمرض والحزن والألم، وهذه يختلف إدراكها كضغط أو ضعف باختلاف طبائع وأنماط البشر، ومقدار علمهم وخبرتهم، وأيضا إيمانهم، فيصبح “الحسن ما حسّنه العقل (وإن كان عُرفا قبيحًا) والقبيح ما قبّحه العقل (وإن كان عُرفًا حسنًا)” كما قال قديمًا ابن رشد.
وسبحان الله الذي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ بقدر فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، وتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ الذي جعل في هذه الأرض من هم مطلعون، يتدبرون ويتأملون، ويعقلون ويتفكرون، ويفقهون ويبصرون، وسبحان من أوحى لعباده، وأسرى بعبده، وآتى الحكمة، “يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ، وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا” (البقرة: 269)، “وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ” (فصلت: 35)، “وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ” (البقرة: 269) … (يتبع)