الإعجاز العلمي والعددي في القرآن الكريم (ثانيا)
بقلم / د. محمد العربي
أستاذ الشريعة الإسلامية جامعة الأزهر
وكان من مظاهر عناية الله بكتابه أن جعله محفوظاً فى ظل العصر بالتواتر الأدق القاطع يروية الخلف عن السلف بالكيفية المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن وفق له فى كل العصور حفاظاً متقنين جمعوه فى صدورهم وعمروا به ليلهم ونهارهم وأن قيض له رجالاً قضو معظم أيام حياتهم فى خدمة ودراسة علومه وفنونه فمنهم من ركز على العقائد والنبوات والأخلاق والمواعظ وتوضيح أيات الله فى الكون كالرازى فى التفسير الكبير وأبى حيان الأندلسى فى البحر المحيط والألوسى فى روح المعانى. ومنهم من اهتم بالقصص القرأنى وأخبار التاريخ كالإمام البغوى. ومنهم من اهتم ببيان الأحكام الفقهية بالمعنى الضيق للمسائل والفروع والقضايا كالقرطبى وابن كثير والجصاص وابن العربى. ومنهم من اهتم بالإعجاز البلاغى واللغوى كالذمخشرى وأبى حيان. ومنهم من كتب فى قراءته كالمبسوط فى القراءات العشر للإمام الأصبهانى ومنهم من اهتم بالعلوم النظرية الكونية مثل طنطاوى جوهرى فى كتابة (الجواهر فى تفسير القرأن الكريم) وكثير منهم كتبو فى تفسيره وتوضيح معانيه ومقاصده وألفاظه لأن تفسير القرآن هو المفتاح الذى يكشف عن تلك الهدايات السامية والعظات الشافية والتوجيهات النافعة والكنوز الثمينة التى احتواها هذا الكتاب الكريم ولقد أفاض الإمام ابن كثير فى بيان هذا المعنى وبيان أحسن طرق التفسير فقال فالواجب على العلماء الكشف عن معانى كلام الله وتفسير ذلك وطلبه من مظانه وتعلم ذلك وتعليمه فإن قال قائل فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب إن أصح الطرق فى ذلك أن يفسر القرأن بالقرأن فما أجمل فى مكان فإنه يبسط فى مكان أخر فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرأن وموضحة له وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إلا إنى قد أوتيت القرأن ومثله معه) يعنى السنة.
والغرض أنك تطلب التفسير القرآن فيه فإن لم تجده فمن السنة فإن لم تجده فمن أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التى اختصوا بها ولم لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح قال عبد الله بن مسعود ( والذى لا إله غيره ما نزلت أية من كتاب الله إلا وأنا اعلم فيمن نزلت ولو علم أحداً أعلم بكتاب الله منى تناله المطايا لأتيته)
فإذا لم تجد التفسير فى القرآن ولا فى السنة ولا عند الصحابة فقد رجع – الكثير من الأئمة فى ذلك أقوال التابعين كمجاهد بن جبر وسعيد بن جبير وعكرمة مولى بن عباس وعطاء بن أبى رباح والحسن البصرى وغيرهم.
ولقد سبقنى الى هذا العمل كثيرون غيرى ممن أثرت كتبهم المكتبة الإسلامية منها القديم والحديث منها الكبير والوسيط والوجيز استفدت كثيراً بما سجله أصحابها فيها وها أنذا أخى القارئ الكريم أقدم لك هذا الجهد المتواضع الذى حاولت كثيرا أن يكون بلسان عصرى ومادة مميزة غير مخالف للأول والثوابت مزودا إياك بزاد من ثقافتك القرآنية الأصلية التى تتفاعل مع واقع عصرك وتتجاوب مع قناعتك الذاتية وأصولك العقلية ومرتكزاتك الفكرية السليمة ملقيا الضوء فى ثنايا الأيات والألفاظ على لون عجيب من الإعجاز القرأنى الفياض خاصة العددى منها بأسلوب لا يجعلك تمله أو تأنف منه. وستلاحظ أيها القارئ الكريم أننى ركزت على إبراز ما اشتمل عليه القرآن من هدى جامع وحكم سامية وتشريعات جليلة وأداب فاضلة وعظات بليغة ثم أعقب ذلك كله بحديث عن الإعجاز العددى إن كان الأمر يقتضى ذلك.