سلطان الإرادة والاختيار
بقلم الدكتورة/ إيمان عزمي
هذا هو الجزء الثالث الذي (يتبع) الجزء الثاني المعنون بمنديل الحلو، وفيه:
إن كان لعُطيل أن يحيى ويكتشف حقيقة الأحداث التي أدارها “ياجو”، سيكون رد “ياجو” أمامه جاهزًا كرد الشيطان لما قُضِيَ الأمر: “وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم” (إبراهيم: 22)، صدق رغم مساعيه الحثيثة للإيحاء بسلطانه هذا الذي يتبرّأ منه، هو من قال: “لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا I وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ” (النساء: 118 – 119) و”لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ I ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ، وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (الأعراف: 16 – 17). سبحان ذي الفضل العظيم والنعم قَالَ: “اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا I وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ، وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا I إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ، وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا” (الإسراء: 63 – 65).
ومع هذا صَدَق! ما كان لياجو على “عُطيل” من سلطان إلا أن دعاه واستماله ووسوس له وأغواه وأضله وضلله ومنّاه وأتاه في غربته عن زوجته وحبيبته من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله، فليس له أن يلومه على قتل زوجه، هو من قتلها خنقا بيديه لا “ياجو”، وهو من قتل نفسه ندما لا “ياجو”، الأخير أداره فقط عن بعد فليس له أن يُلام على شيء. في لومه ضعف، وفي لومه نشوة، ضعف للمؤمن أمامه، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، ونشوة له بَرَع الممثل المصري “يحيى الفخراني” في تجسيدها باقتدار في مسلسل “وَنّوس” مع كل خطيئة يقع فيها ابن آدم بوسوسته، بصوته الناعم الخفي إلا على الـمُوَسوَسِ له ذَكرًا كان أم أنثى، وكيف أنه صديق قريب من الجميع، يتهادى في الاستمالة بالغواية، وكيف أنه “يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا” (النساء: 120)، وكيف أنه خيّب لمن حوله آمالا كبارًا وصغارًا بحسرةٍ وندمٍ وخوفٍ “إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ” (آل عمران: 175).
“عُطيل” لما عرف الأمر بعد فوات الأوان، قتل نفسه! ووصف فِعلَه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة قائلا: “… رجل لم يعقل في حبه بل أسرف فيه، رجل رمى بيده لؤلؤة أثمن من عشيرته كلها…”، لم يعقل، والعقل إدراكٌ للحقائق وتمييزٌ للأشياء وفهمٌ للحقيقة، والعقل حِصنٌ وملجأ وقلب، فإن غاب معه تمييز الحسَن من القبيح، والخير من الشر، والحق من الباطل، يكون القلب أعمى “فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ” (الحج: 46) ويدخل المرء في زمرة الغافلين فتجد “لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا، أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ” (الأعراف: 179).
لام عطيل نفسه في عقله وإسرافه في حبه، والإسراف فيه مجاوزة للحد وإفراط وتبديد، وفي الحب يُذهِبُ اللازم لأمن وحماية من نحب حتى مع الأم نحو وليدِها، “إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ” (الأعراف: 31، والأنعام: 141) بل و”لَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ” (الشعراء: 151) “إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ” (غافر: 28)، و”كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ” (غافر: 34)، فإن أسرفت كان الخطاب بأن: “قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ” (الزمر: 53)، وكان الدعاء: “رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ I فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” (آل عمران: 147-148).
لام عطيل نفسه في عقله وإسرافه في حبه، وفي تضييع من كانت بين يديه مخلصة صادقة محبة وحافظة لعهدها معه. في سنة 1968م أبدع المغني البريطاني “توم جونس” في وصف هذا المشهد حين غنى رائعته “دِلَيلى” Delilah ووصف تفاصيل إحساسه وانفعاله وفِعله مع حبيبته المماثل تماما لما فعله “عُطيل” مع “ديدمونة” بالقتل جزاءً لخيانتها التي لم تكن موجودة إلا في عقله فقط كما أداره “ياجو” عن بُعد، ولكنه يبرر ذلك بأنه “ضاع كعبدٍ لا يمكن لأحد أن يعتِقَه” في حبها but I was lost like a slave that no man could free إن دفعك الشغف لسماع ألحانها وكلماتها فستجدها من خلال الرابط أسفل هذا المقال، وإن أردت أن ترى أداءً فستجد حفلاً حيًا في الستينيات منشورا عبر اليوتيوب لهذه الأغنية وجمهور هذه الحقبة من الزمن إن وضعت في محرك البحث: Delilah 1968
وستجد داخل مؤسسات القطاعين العام والخاص بحورًا وأودية وحتى أدغالاً من فنون الإدارة عن بعد في الوقت الحاضر وفي كل وقت، تطورت لتتناسب مع معطيات كل زمن، غاية ما أخشاه أن تظن كما ظن من قبل السياسي الإيطالي “ميكيافيلي” (1469 – 1527م) في تنظيره السياسي الواقعي الذي أودعه في كتابه “الأمير” The Prince أنها وباء أو مفهوم مقترن بالدسائس والمؤامرات والمكائد في الإدارة – حتى وإن كان لها الغلبة، ذلك لأنه كما وضع الله قدرة الإدارة الخبيثة عن بُعد؛ وضع أيضا قدرة الإدارة الطيبة عن بُعد، وهما بطبيعة الحال لا يستويان وإن كانت خصائصهما الأساسية واحدة، وتكون الثانية أقوى وأعمق في تأثيرها مصداقا لقوله تعالى: “لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” (المائدة: 100) … (يتبع)