الاتجاهات البيولوجية وتفسيراتها للجرائم داخل المجتمعات المختلفة
د. نجلاء الورداني
ارتبط الاتجاه البيولوجي في علم الإجرام بمرحلة التأسيس، حيث ترجع النظرية البيولوجية الجريمة والانحرافات إلى عيوب وراثية معينة في الأشخاص المنحرفين بوصفها المسؤولة عن سلوكهم المنحرف، فالجريمة تحدث نتيجة تشوهات عضوية أو عقلية للشخص المجرم، فالمجرم في نظر الاتجاه البيولوجي إنسان شاذ التكوين له سمات خاصة تؤهله لارتكاب الفعل الإجرامي دون أن تكون له القدرة على اختيار آخر.
وقد عرف هذا الاتجاه انتشارًا واسعًا حيث درس شخصية المجرم من الناحية العضوية، وهو الشيء الذي أثار الكثير من النقاش والاختلاف الذي أدى بدوره إلى ميلاد نظريات أخرى.
ويعد سيزار لومبروزو “”Ceaser Lombroso العالم والطبيب الإيطالي أشهر علماء هذه المدرسة، حيث قام بدراسة تشريحية لعدد من المجرمين طبقت عام 1876م بيَّن من خلالها الطراز الجسمي لمرتكبي الجرائم، كما بين أثر العوامل الوراثية في انتقال الإجرام.
لقد اعتبر لومبروزو أن الانحراف يحدث نتيجة لتشوهات دماغية وعصبية تخل بالعلاقة بين مراكز الغرائز العدوانية، بحيث يؤدى تغلب تلك المراكز على السلوك إلى إضعاف وظائف الضبط وتحرير النزعات العدوانية، وبالتالي حدوث السلوك المنحرف.
ومن ثم، فالمنحرف لدى لومبروزو يرتكب السلوكيات المنحرفة لصفات كامنة فيه قد انتقلت إليه بفعل العوامل الوراثية منذ ولادته، هذا بالإضافة إلى الضعف العقلي الموروث حيث لا يقدر المصاب به عواقب سلوكه وتصرفاته.
وقد تكون هناك خصائص بعينها تميز الشخص المجرم بالوراثة، مثل: (ضخامة الرأس حجمًا وشكلًا عن النمط الشائع في بيئة المجرم، خلل في نصفي الوجه وخاصة الفك السفلي، فطس الأنف وامتلاء الشفتين، خلل في شكل الذقن، طول زائد للذراعين وقلة الحساسية للألم). فإذا توافرت تلك الخصائص السابقة عند إنسان بدرجة ما تفاوتت درجة الإجرام عند ذلك الإنسان.
وقد تأثر أنصار هذه النظرية بأفكار وأعمال “تشارلز دارون” عن التطور، وبالتيارات المختلفة التي كانت تعمل على تحسين النسل عن طريق العوامل البيولوجية والتحكم في الصفات الوراثية بانتقاء أفضل هذه العناصر لإيجاد تربية منتقاة.
بينما ذهب “فيري” في تحليله لمرتكبي الجرائم “المنحرفين والمجرمين” إلى الاهتمام بدراسة أنواع السلوك الإجرامي والطريقة التي يظهر بها، حيث أن تمييز ملامح السلوك الإجرامي يتضمن الأدوار الاجتماعية التي يقوم بها مرتكب الجريمة ودرجة تعريفه للجريمة، وتصوره لنفسه كمجرم، وأنماط ارتباطه بالآخرين مجرمين أو غير مجرمين، واستمراره وتدرجه في الجريمة، والطريقة التي يرتكب بها جريمته والعلاقة بين سلوكه وسمات شخصيته والدرجة التي أصبح عليها سلوكه الإجرامي جزءً من نظام حياته الكلي.
ويعتبر السلوك الإجرامي من خلال هذا المدخل نتاج التفاعل الاجتماعي الذي يكون فيه سلوك الفرد له معنى فقط في علاقته بالأشخاص الآخرين. بالإضافة إلى ذلك، فإن أنواع السلوك تتيح لنا النظر إلى الفعل الإجرامي كعملية مستمرة وليس شكلًا كليًا جامدًا. إن العلاقة بين الطبيعة الإنسانية والسلوكيات الإجرامية باقية ومستمرة.
وقد نقد كل من نوروود ايست “”Norwood East وتارد “”Tard آراء لومبروزو موضحين أن المجرم ليس مجنونًا أو نموذجًا متخلفًا، وأن الجريمة لا يمكن أن تكون نتاجًا فرديًا خالصًا بل مصدرها المجتمع، فالجريمة تنتشر بين أفراد المجتمع في ضوء الإيحاء والتقليد والمحاكاة، ولذا يجب دراستها من خلال التفاعل بين الأنظمة السائدة في البيئة الاجتماعية.
وبالمثل نظرية شيلدون “Sheldon” التي تعد امتدادًا طبيعيًا لنظرية لمبروزو ومدرسته، فهي امتداد لفكرة الارتباط بين التكوين الجسماني والإجرامي، حيث ميز بين ثلاث فئات لبنية جسم الفرد وهي النمط الممتلئ والنمط المكتمل، والنمط النحيل، كما قال بأن كل نمط من الأنماط السابقة يقابله حالة مزاجية معينة، فمثلًا:
النمط الممتلئ يقابله النمط البطني أو الحشوي Endomorphy، وهذا النمط يميل إلى الراحة والتفاعل مع الآخرين.
النمط المكتمل يقابله النمط العضلي أو العظمي Mesomorphy، ويميل هذا النمط إلى الثقة بالنفس والنشاط.
النمط النحيل ويقابله النمط الرضوي Ectamorphy، وهو نمط يميل إلى السكون والانطواء.
وأخيرًا، وضع “شيلدون” لكل نمط سابق نمطًا نفسيًا يقابله، فهناك نمط يميل إلى الاكتئاب الدوري، ونمط عقائدي وآخر متباين، إلا أنه يعقب على التصنيف السابق بقوله: إن النمط الخالص لا يوجد في الواقع، نظرًا لأن معظم الأفراد مزيج من هذه الأنماط الثلاثة.
وبالتالي يتضح لنا مدى تأكيد عدد كبير من العلماء أهمية العوامل البيولوجية في تحديد الظاهرة الإجرامية.
وحقيقةً قد نختلف أو نتفق مع هذه الاتجاهات والتفسيرات، ولكن لا أحد يستطيع إنكار أهمية هذه الدراسات والعوامل البيولوجية في التأثير على سلوك الفرد المنحرف، ولكنه يكون في ضوء التفاعل بين العوامل النفسية والاجتماعية، وكذلك تأثير البيئة المحيطة بالفرد المنحرف، حيث تفرض العوامل الوراثية متحدة مع العوامل الاقتصادية كالفقر والمرض مثلًا تبعتها على جيل الآباء والأحفاد تأثرًا بالآباء فتظهر الملامح الإجرامية منتقلة من جيل إلى جيل آخر.