أيكولوجيا الجرائم والانحرافات المختلفة
د. نجلاء الورداني
ظهر اصطلاح الأيكولوجيا لأول مرة سنة 1869 عندما استخدمه عالم الأحياء الألماني أرنست هايكل “Ernst Haeckel” حيث استخدم كلمة Oekologie”” ليشير بها إلى “علاقة الكائن الحي ببيئته العضوية وغير العضوية”، ثم عدل اللفظ بعد ذلك إلى”Ecology”، وعرفت الأيكولوجيا البيولوجية بأنها ذلك العلم الذي يدرس التشابه المتبادل بين النباتات والحيوانات التي تعيش معًا في مناطق طبيعية. أما اصطلاح الأيكولوجيا البشرية فقد استخدمه كل من بارك وبيرجس في كتابهما الأساسي مقدمة في علم الاجتماع، وكلمة أيكولوجيا مشتقة من أصل يوناني، ومكونة من مقطعين هما “qikgs” أي ما يحيط بالشيء أو الكائن الحي أو السكن، وكلمة logus”” وتعني علم أو دراسة العوامل المحيطة بالكائن الحي وما يتم بينهما من تفاعلات متداولة.
ومن هنا جاءت علاقة الإنسان ببيئته تتضمن بالضرورة علاقته بأفراد نوعه والأنواع الأخرى التي تشاركه نفس الموطن، وما يرتبط بها من تفاعلات. إلى جانب تفاعله بالخصائص الفيزيقية لهذا الموطن وتشكل مجموعة التفاعلات التي تقوم بين أفراد النوع الواحد أو الأنواع المختلفة، أو بينهم وبين الموطن الذي يشتركون فيه ما يعرف باسم النسق الأيكولوجي Ecosystems”“، وتعتبر تطبيق مرحلة المفاهيم الأيكولوجية لفهم علاقة الإنسان بالبيئة التي بدأت بها نظرية داروين “Darwin” عن أصل الأنواع هي الأفكار التي نادت بها النظرية كالصراع من أجل البقاء والانتخاب الطبيعي …. وغيرها، حيث كانت كلها بمثابة حجر الأساس الذي استندت عليه النظرية الأيكولوجية.
ولهذا تلقي هذه النظرية الضوء على التأثيرات المتبادلة بين البيئة الطبيعية ومنها المسكن كعوامل محيطة بالإنسان والسلوك الإنساني بوجه عام، كما أن علماء الأيكولوجيا يميلون إلى ربط الظواهر الاجتماعية والثقافية بالمناطق الطبيعية في المدينة، واهتموا على وجه الخصوص بدراسة مناطق التحول والأحياء العشوائية باعتبارها تسهم في ظهور وانتشار الجريمة والعنف، والأمراض، والانتحار، والتفكك الأسري، وأنماط آخري من السلوك المنحرف.
وحينما يؤكد بعض الباحثين أن سكان منطقة متخلفة معينة لديهم اتجاهات انحرافية كالجريمة والعنف مثل هذا التأكيد. قد يوحي أن هؤلاء الباحثين يقصدون بذلك أن المباني المتهدمة والشوارع الضيقة القذرة هي التي تلعب الدور الأساسي في تشكيل أنماط السلوك. والواقع أن هذا التفسير البيئي قد شاع في كثير من أعمال علماء الاجتماع سواء ممن أفادوا بالاتجاه الأيكولوجي في بحوثهم أم أية اتجاهات آخرى.
ولقد تعرضت هذه النظرية لانتقادات كثيرة منها تجاهلها للدور الذي تلعبه العوامل الثقافية أو التقليل من شأن هذه العوامل في تشكيل السلوك الانساني.
وبالرغم من الانتقادات التي وجهت إلى هذه النظرية إلا أنها قدمت لنا إسهامات مهمة، حيث تفيد الباحثين في دراساتهم للجرائم وأنماطها ولاسيما داخل المناطق العشوائية والمهمشة، وذلك من خلال نظرتها الشاملة للتفاعل بين العوامل البيئية المحيطة بالأسرة والأسرة بأفرادها كافة، حيث يمكن اعتبار أن بيئة المسكن أو الحي أو العمل جزء من النسق الأيكولوجي الذي يمثل الجانب المادي للنسق الأيكولوجي، ويؤثر على أفراد الأسرة بما يضمه من مشكلات تنعكس على العلاقات الأسرية داخل النسق. وتفسر هذه النظرية العديد من المشكلات الأسرية التي تنشأ بسبب عدم وجود مسكن مناسب أو بيئة فيزيقية محيطة غير مناسبة لعملية التنشئة الاجتماعية الصحيحة، كما تفترض هذه النظرية ومداخلها عدة استراتيجيات مهمة للعمل على توجيه السلوك الفردي مثل:
- النظر إلى الإنسان والبيئة بمنظور تكاملي وإنهما يؤثران في بعضها البعض.
- الإنسان والبيئة في حاجة إلى التوجيه والمساعدة.
- توضيح وتحديد جوانب النسق البيئي التي تؤثر على سلوك الإنسان وتكيفه.
- تحديد المواقف التي تؤدي إلى وجود ضغوط على سلوك الإنسان، حيث تؤدي به إلى أنماط سلوكية غير مقبولة اجتماعيًا.
- تقوية العلاقات الاجتماعية الإيجابية بين الإنسان وغيره من الأنساق البيئية المحيطة به، والتي تساعده في تحقيق التغيير الإيجابي والفعال.
- مساعدة الإنسان على تحقيق تكيف أفضل مع بيئته على جميع مستويات النسق، وهذا من خلال تعديل الإطار السلوكي للفرد وإيجاد أدوار جديدة له، وتنميتها في ضوء ما تعلمه من معلومات ومعارف.
- اكساب الأفراد مهارات فردية جديدة تسمح لهم بالتأثير في بعضهم البعض في إطار المفاهيم السلوكية الجديدة، وهذا من خلال مجموعة الأنشطة التي يمارسها الأفراد بهدف تحقيق النمو الفعال لدعم النسق البيئي المحيط بالإنسان، وبما يقبله المجتمع ويوافق عليه.