الطاقة الكامنة
د. إيمان عزمي
عندما عرّفَت الإدارة على أنها “فن إنجاز المهام من خلال الآخرين” كانت تعلم “ماري باركر فولت” (1868 – 1933م) أن للنفس الإنسانية تأثيرًا على غيرها، وأحسب أنها كانت تعلم أيضا أن هذا التأثير قد يمتد ليُصبح تأثيرًا عن بُعد.
وسائل الاتصال عن بُعد رقميا تصلح أكثر للتعليم والتواصل؛ خاصة مع الجائحة التي نشهدها ونتعايش معها في أيامنا هذه، أما الإدارة فلها شأن آخر.
“ماري” كانت زعيمة كبرى من زعيمات الإدارة النسائية في الأيام الأولى للنظرية الكلاسيكية الإدارة، وعملت كمستشارة شخصية في إدارة المنظمات غير الهادفة للربح وغير الحكومية للرئيس السادس والعشرين للولايات المتحدة الأمريكية “ثيودور روزفلت” الذي حكمها من عام 1901 إلى 1909م.
وأحرص على أن يعلم عنها وعن غيرها في تاريخ الإدارة طلابنا في مقررات الإدارة العامة وإدارة الأعمال والسلوك التنظيمي للفِرَق الأولى سواء للشعب الإنجليزية أو العربية.
“ماري” لفتت الأنظار نحو أهمية العمليات غير الرسمية التي تحدث داخل المنظمات (بمحمل طيب – أو إن أردت خبيث)، وألّفت العديد من الكتب والمقالات في مجالها علم النفس الاجتماعي والعلاقات الإنسانية والسلوك التنظيمي وتسوية النزاعات.
وبمنطق التأثير الذي ابتدعته “ماري” في الإدارة كان قبل مولدها بثلاثة قرون المشهد المؤثر الذي خنق فيه “عُطيل” Othello زوجته المخلصة “ديدمونة” Desdemona في رائعة الكاتب الإنحليزي الشهير “وليم شكسبير” (1564 – 1616م): “Othello”.
“ديدمونة” كما تُصوّرها الرواية شريفة صادقة لا تعرف الخداع وراحت ضحية غيرة زوج مُحب، ومكيدة شرير حاقد على زوجها إلى أبعد الحدود يُدعى “ياجو” Iago والذي كان مقرّبًا من “عُطيل” كونه حامل رايته في جيش البندقية.
اعتمد “ياجو” في الوصول إلى غاياته على الدسيسة، والدسيسة في معجم المعاني هي ما أُضمِر من العداوة والمكيدة والنميمة والحيلة الخفية، وهي الخديعة والشر والمكر السيّء؛ ذلك الذي لا يحيق إلا بأهله “وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ، فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا” (فاطر: 43).
ومنها الفعل “دَسّ” فيصبح المفعول به شخصا كان أو شيئا مدسوسًا مدفونا مخفيا في الأمر لغرض ما. هذا ما اعتمده “ياجو” باقتدار مع معرفته العميقة بشخصية ضحاياه بحكم قربه منها، وكان على رأسهم “عطيل” وزوجته “ديدمونة”.
لا أدري لماذا وجدت في “ياجو” أستاذًا بارعًا فيما أسميته فن الإدارة عن بُعد “distance management” – إن صح التعبير باللغة الإنجليزية، إدارة الأفراد والأحداث والعمليات عن بُعد، ولا أدري أيضا كيف ارتبط ذلك في ذهني بفلسفة “الآيكيدو” كأحد الفنون القتالية اليابانية التي يحتفظ فيها اللاعب بطاقته وهدوئه ولا يهدرهما عند المواجهة مستخدما قوة الخصم نفسه وطاقته في إيذائه. وليس هذا بالأمر الهين على أرض الواقع، فهو يستلزم أن تعي أولا طاقتك وقوتك وقَدْرَك لتتمكن من تجميع الكيانات الثلاثة التي تشكّل بنيان “الآيكيدو” في مقاطعها اللفظية باليابانية، فالآي 合 تعني الانسجام والتوافق النفسي والحركي لديك ومع الطرف الآخر، والكي 気 هي الطاقة الكامنة فيك والتي تستخدمها طوعا دون أن تدري أو تستحضرها عمدًا، والدو 道 هي الطريقة التي ستعتمدها في الأداء. هذا ما فعله “ياجو” تماما قبل قرون عدّة من اعتراف الحكومة اليابانية رسميا بالآيكيدو كأحد الفنون القتالية سنة 1940م، وقبل أن يُبدع الممثل الأمريكي “ستيفن سيجال” في تجسيد هذا الفن القتالي ضمن الحبكات الدرامية لأفلامه في أواخر الثمانينيات وحتى العام الماضي.
هو ذاته مُعلّمٌ ومُدربٌ لفنون الدفاع بالآيكيدو، حاصلٌ فيه على 7 دان شيهان، وبطل العالم فيه لسبع سنوات متتالية، ولطالما استغرقت شغفا بطريقته القتالية التي يتقن بها هذا الفن في أفلامه.
“ياجو” أتقن بنفس الإبداع حين بَحَثَ عن وسيلة يحاول فيها تخريب بيت قائده “عُطيل” بيد “عُطيل” نفسه؛ وقد فَعَل … (يتبع)