توظيف العنوان في القصة الشاعرة
د. عبد الله أديب
مدرس الأدب والنقد بكلية اللغة العربية، جامعة الأزهر
توطئة:
أنتج عصر ما بعد الحداثة جنسًا أدبيًّا جديدًا في الشكل والتأطير، ألا وهو “القصة الشاعرة”؛ فقد ظهرت إرهاصاته وبواكيره في الشعر القصصي قديمه وحديثه، وقصائد الشعر الحر لاسيما القصائد السردية منها، لكنه لم يستو على سوقه كجنس أدبي خاصّ إلا في عصرنا الراهن؛ لذا تعد القصة الشاعرة نوعًا من أنواع التطور في المفهوم والتطبيق للقصة بمفهومها العام؛ ذاك أنها لون خاص من ألوان الحكي يبدأ حدثه من التأزم والذروة غالباً، أي أن زمن الخطاب فيها يسبق زمن القصة([1])، وينتهي في كثير من الأحيان إلى حيث لا نهاية فلا انفراجة للحدث ولا حلَّ له، تاركة المتلقي سابحًا بخياله لوضع النهاية التي يهتدي إليها فكره وتأويله، مضمرة بداية الحدث وتناميه وما يصاحب ذلك من حوار يعمل على تشابك الحدث أو تهدئته، كما أنها تأتي على نغمة شعرية خاصة، اتخذت من التفعيلات العروضية وقواعد الموسيقا الشعرية أساسًا لبنائها الفني.
وقد زاد من قبولها وخصوصيتها أنها أخذت من القصة الإمتاع الحكائي، وأخذت من الشعر الإمتاع النغمي، فضمت بعض خصائص النثر وبعض خصائص الشعر، مما جعلها تدخل حيز القبول لدى جلّ الأدباء والنقاد دون أن تجد لذلك عسيرا.
ولعل سرًّا من أسرار ذيوعها ونضجها الفنيّ سرعة إيقاعها وتكثيف أحداثها مما جعلها متماشيةً مع سرعة إيقاع الحياة، وما تقتضيه متطلبات النشر الحديث، وضميمة أخرى تضاف إلى ذلك وهي اتسامها بالجانب الرمزي الذي بدوره يفتح آفاقًا لا متناهية من التأويلات والثقافات، وهذا يسهم في غناء النص وثرائه، وإن كان استخدام الرمز هنا سلاحاً ذا حدين؛ إذ إنه كما يزيد من اهتمام المتلقي النموذجي ويثير شغفه بها، إلا أنه قد يكون سببًا لإحجام بعض المتلقين الذين يصعب عليهم لمح هذا الرمز ومدلولاته وبخاصة أنه صعب المنال.
وتعمل القصة الشاعرة على إكساب المتلقي دورًا رئيسًا يقوم على المشاركة في صنع الحدث، فلم يعد دوره مقصوراً على مجرد التسلية أو المتعة فقط، وإنما تعدى ذلك لتكون رؤيته وتأويله جزءاً من الحكاية، وقد تأتي أحداث القصة الشاعرة متشظية أو مفككة، وحينئذ يزداد دور المتلقي ليحمل عبء تجميع الحدث والعمل على اتساقه لتتضح الرؤية السردية، وهذا كله يجعلنا نؤيد أنها من النصوص المنفتحة وليست من النصوص المنغلقة.
ويلحظ على البناء السردي للقصة الشاعرة أن أغلب هاته القصص يسيطر فيها الراوي العليم على أطراف السرد، وفي هذا النوع يكون الراوي العليم > الشخصية (حسب الصيغة الرياضية لتودوروف) وتسمى الرؤية من الخلف (حسب مسميات جان بويون) وهو ما سماه (توماتشفسكي) بالسرد الموضوعي([2])، ونجد فيه الراوي يهيمن على السرد؛ لأنه يعرف كل شيء، وتبدو معرفته في أنه يعرف أفكار شخصياته ومصائرها في آن واحد ، الأمر الذي لا يمكن أن تقوم به شخصية منفردة من الشخصيات لذلك يطلق عليه الراوي كلي المعرفة([3]).
وقد أطلق (جيرار جنيت) على هذا النوع: الحكاية غير المبأرة أو ذات التبئير الصفر، حيث يقول الراوي أكثر مما تعلم الشخصية([4])؛ ففي هذه التقنية نجد تحريك الحدث بيد الراوي وليس في يد الشخصية، مما تنعدم فيه زاوية الرؤية للشخصية.
وأيضًا سمي غير مبأر إذ لا توجد فيه شخصية تنقل لنا ما تراه من بؤرة ما([5])، فالمعول عليه في هذه التسمية هو انعدام دور الشخصية في توصيل الرؤية، وهذا النوع من الرواية يتناسب مع السرد الموجه؛ إذ الحكايات تحمل رسائل موجهة، والمتلقين في مثل هذا النوع من القصص الشاعرة لا يعنيهم أن يتبينوا مصدر معلومات الراوي، بقدر ما يعنيهم أن يبين لهم الراوي ما تريده الحكاية.
وتأسيسًا على ما سبق يجدر بالمتلقي البحث عما يساعده في سبر أغوار هذا اللون المميز، ومما يساعده هنا العنوان، فالعنوان بما له من مدلولات وإيحاءات ووظائف يجب أن يحظى هنا بوافر اهتمام يزيد على غيرها من الأجناس الحكائية؛ إذ العنوان هنا يمثل عاملاً من عوامل كشف رمزها ويساعد على بيان مدلولاته، أي إن المتلقي هنا بحاجة كبيرة إلى استكناه عنوان القصة الشاعرة جيداً قبل وبعد وأثناء ولوجه عالمها القصصي، وذلك حتى يكون على خُبر من أمره وتثبت، وعلّ ذلك ينير له الدرب ويكشف له فضاءات النص.
العنوان ومقاربة النص:
يعد العنوان اللبنة الأولى مكانًا الأخيرة وضعًا في العمل الأدبي غالبًا، فهو أول ما تقع العين عليه، وهو همسة البداية لعين القارئ، وفي الوقت ذاته هو المختتم الذي يأتي في ذهن القارئ بعد نهاية القراءة حين يقارن بين أحداث ما قرأ والعنوان الذي افتتح به قراءته؛ لذا فهو يمثل وعدًا من المؤلف لقارئه؛ “ويمثل القفزة الاستباقية للنص”([6])؛ إذ هو يوحي بالأحداث قبل الشروع في قراءتها، وهذا كله تمهيد فاعل في استيعاب الرؤية السردية للشاعرقاص.
ويمثل العنوان هنا منطلقًا كاشفًا عن البعد الكامن وراء أحداث العمل، ومن ثمّ فهو يرسل إيحاءاته الموضوعية والفنية إلى المتلقين، “وهذا الترابط بين العنوان والنص هو ما يجعلنا نرى أن النص إذا كان بأفكاره وإيحاءاته مسندًا، فإن العنوان مسندٌ إليه”([7])، يبعث على التخيل، ويحيل إلى مدلولات النص الأدبي من حيث فكرة النص وموضوعه وأثره، وقد فقه قدماؤنا وظيفة العنوان ومدلولاته حين عرّفوا العنوان بكلمات: القصد، والأثر، والسمة، والتعريض([8])، تلك الكلمات التي تدل على وظائف العنوان، مما حدا د. “محمد فكري الجزار” أن يصف هذه الكلمات بأنها أقرب إلى المعنى الاصطلاحي منها إلى المعنى اللغوي فيقول: “إنما ما أورده المعجم لها من دلالة، أزعم أنها تكاد تكون اصطلاحية أكثر منها لغوية، فقول ابن سيده السابق إن العنوان “سمة الكتاب” يقطع بين الكلمة والثقافة الشفاهية التي كانت أساس حركة الجمع اللغوي بشروطها الثلاثة الزمانية والمكانية والثقافية”([9])، وهكذا فقه علماؤنا القدامى أهمية العنوان اصطلاحًا من حيث احتواء النص أو الإيحاء بما لم يقله النص، كما أشاروا إلى وظائفه المتعددة وإن لم ينصوا على ذلك بصورة صريحة، لكن كلماتهم وتعاريفهم توحي بذلك.
وقد اهتمت مناهج التحليل الأدبي الحديثة كثيرًا بدراسة العنوان، “وأولت “السيموطيقا” أهمية كبرى له، إذ يعدّ مصطلحًا إجرائيًّا ناجحًا في مقاربة النص، ومفتاحاً أساسيًّا في يد المحلل للولوج إلى أغوار النص العميقة قصد استنطاقها وتأويلها، ويستطيع العنوان أن يقوم بتفكيك النص من أجل تركيبه، عبر استكناه بنياته الدلالية والرمزية، وأن يضيء لنا في بداية الأمر ما أشكل من النص وغمض”([10])؛ فالعنوان إذن هو أولى لمحات النص المقدمة للقارئ الذي يقيس دلالاتها على جميع مضامين النص؛ فالعنوان دلالة، وفكر، وجمال.
فالعنوان دلالة: يجب أن يكون موحيًا بأحداث الحكاية ودالاً عليها؛ فيمكن رسم العلاقة بين العنوان والنص على أنها إجمال بعده تفصيل، فالعنوان إجمال والنص تفصيل له.. العنوان يرمز والنص يوضح، وإذا كان الكاتب يريد أن يرسل مضمونًا فكريًّا أو اجتماعيًّا أو سياسيًّا أو غير ذلك من المضامين التي يقصدها؛ فالعنوان هو أول رسالة يُرسلها الكاتب عبر نصه، لذلك أُطلق عليه بؤرة النص أو أنه النواة المركزية التي يدور في فلكها كل مضامين النص([11])، وكلما كان موجزًا اتسعت دائرة تأويله ومن ثم تتسع دائرة دلالته؛ لذا جعل “محمد الشحات محمد“ عناوينه موجزة جدًّا، فمنها ما جاء على كلمة واحدة: “أثر، تسريح، رقص…”، ومنها ما جاء على كلمتين: “دقت الكلمات، ثورة الصديق، مات حياً”، وقليلها ما جاء على أكثر من كلمتين: “إله بلا قدمين، زعيم من زجاج تحمله القهوة،..”، وهكذا جاء العنوان نواة مركزية دالاً على ماهية العمل عنده، وهذا يوضح اختيار كل عنوان عنده.
وإذا كان العنوان قد تكون من اسم مفرد من الناحية اللغوية، إلا أنه من الناحية الدلالية يمثل جملة؛ وذلك عند تأويل المحذوف أو المقدر من الكلمات التي تستلهم من أحداث العمل، مما يثبت أن العنوان خطاب موجه من الكاتب إلى متلقيه، “فالعنصر اللغوي للعنوان والعنصر البنائي للعمل ينتسبان إلى محورين مختلفين، الأول اللغة والثاني الخطاب، حيث التفاعل بين قصد المرسل الباني للعمل والعنوان، وقصد المستقبل الباني لإنتاجيته الدلالية، ومجرد تحقق هذا التفاعل يسقط العنصر اللغوي لحساب العنصر الخطابي”([12])، وبهذا يكون العنوان قد حصل على الأهمية الخطابية التي تجعله حيًّا ماثلاً أمام المتلقي دائماً، وبناء على هذا يكون الإيجاز في العناوين يكون قد أثمر في تداعي هذه المعاني التي تمتح من مصدره التأويلي، ويساعد الإيجاز فيها على أن تتسع شبكة المفردات والمعاني التي يتعالق معها هذا العنوان؛ فحذف بعض أجزائه يعطي العمومية التي تعدد العلاقات الرابطة بينه والتأويلات المتنوعة التي يتفتق عنها ذهن المتلقي، وقد فقه علماؤنا القدامى هذا الملحظ إذ يقول الإمام “عبد القاهر”مقدمًا لباب “الحذف”: “هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بياناً إذا لم تبن”([13])، فالحذف هنا داعٍ من دواعي العموم؛ إذ دلالة النص على دالة لغوية محددة يحجب باقي الدوال التي يمكن أن تتماس مع بنية العنوان، وتركها يتيح لبنية العنوان أن تنفتح آفاقها على دوال متعددة؛ فمثلاً قصته “انزياح” من يتأمل بناءها ومضمونها يستطيع أن يعدد تأويلات عنوانها كما يأتي: “انزياح الحدود الحمر، انزياح الممرضات، انزياح الكوبرا، …” وهكذا مثلت بنية الإيجاز مسارات عديدة لاستبطان النص واستكناهه.
وقد اعتمد “محمد الشحات محمد“ هنا على خصائص الأساليب العربية التي أتاحت له تقنيات عديدة يجعل بها عنوانه قليلاً في اللفظ كثيرًا في المعنى، ولهذا يمكن القول إنه: “بمقدار ما تنتقص اللغوية القاعدية بغياب السياق عن العنوان، بقدر ما ينفتح العنوان على عالم النصوص والخطابات، الأمر الذي يشير إلى أن العنوان كمصطلح لا ينحصر في بنيته السطحية فثمة بنية عميقة لا تنفرد بفاعلياتها دوال العنوان وما تستدعيه/ تتناص معه، وإنما تسهم فيه – كذلك – القاعدة التركيبية التي تنتظم بحسبها تلك الدوال”([14])، وقد يكون هذا الحذف مبعثه الاهتمام الزائد بالجزء الموجود وقلة الاهتمام بالجزء المحذوف، فالعرب كانوا يعنون بالمبادرة إلى المطلوب فيحذفون ما قيمته أقل ليبقوا على ما قيمته أكبر، فعنوانه مثلاً: “صفعة” يوضح أنه يريد التركيز على الصفعة التي نالها العرب دون التماهي في تقنيات السرد المكثف، ولم ينسب الصفعة لأحد حتى لا يلتفت إلى الأسماء التي ورد ذكرها لهذا حذف المضاف إليه وأقام المضاف مقامه، وأما عنوانه: “صرخة” فنجده أنهى الحدث في هذه القصة الشاعرة على هذه الصرخة التي كانت من امرأة تستغيث بالحجاج، فأراد “محمد الشحات محمد“ أن يؤكد على أن مسار الحكاية يرتكز على نصرة الحجاج قديما للمرأة في حين أننا حديثاً لا نلتفت للصرخات العديدة من مدننا العربية، وهكذا كان “محمد الشحات محمد“ يصدّر عنوانه بما له أهمية في مجرى الحدث أو بما تقوم به الفكرة مستخدمًا تقنية الحذف التي تضمر المفردة فتصير كأنها موجودة.
وقد غلب الاسم على الفعل في عناوين “محمد الشحات محمد“ مما زاد من مراعاة القيمة الوصفية أكثر من القيمة الحركية، فالتعبير بالجملة الاسمية يوحي بالثبات والاستقرار، وقد تركب العنوان عند “محمد الشحات محمد“ من بنية تركيبة غير مكتملة نحويًا غالبًا، فقد يكون مسندًا “الخبر” وحذف المسند إليه “المبتدأ” مثل عناوينه: “أثر، تسريح، رقص، ….” على تأويل: عنوان القصة أثر، أو تكون على نية حذف المسن إليه وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فتكون: قصتنا الشاعرة قصة أثر، وقصة تسريح، أو على نية حذف المسند إليه وحذف المضاف إليه وإقامة المضاف مقامه مثل عنوانه صرخة الذي يؤول على: قصتنا صرخة امرأة، وهكذا تتعدد تقنيات الحذف في العنوان عند “محمد الشحات محمد“ لتثري القيمة الدلالية للقصص.
والعنوان فكر: فيجب أن يكون وضعه بعد تأمل ونظر؛ ليكون وثيق الصلة بأحداث الحكاية؛ فهو الجسر الذي سيعبر عليه القارئ إلى النص، لذا لابد من وجود خيط يربط بين العنوان وبين ماهية الأحداث، فلو قلنا إن العنوان يعد اختصارًا للحكاية، فإن هذا الاختصار عمل نابع من الفكر والتمحيص وطول النظر حتى يخرج متوائمًا مع أحداث حكايته، وهذا معنى القول السابق (العنوان بؤرة النص)، وعلى هذا فالعنوان تلخيص للحكاية وحصر للمعلومات بشكل مكثف، ومعنى هذا أنه يمكن من تحليل مفرداته الوصول إلى مضامين الكاتب التي يريد بثها في نفوس المتلقين، والعنوان هو الصوت الأول في النص من قِبل الكاتب، والصوت الأول يجدر أن يكون أقوى صوت في الحكاية؛ لذا فإن “محمد الشحات محمد“ قد عمد إلى شحن العنوان بكل الخبرات التي توافرت لديه؛ ليكون العنوان دالاً على الحكاية مضمونها ومغزاها، فعنوانه: “زعيم من زجاج تحمله القهوة” يوحى بهشاشة هذا الزعيم الذي يكسر ويحطم مع أقل صدمة، وليس وراءه جموع تدفع عن أو تسانده فهم مثل وجه القهوة هش لا يصمد بل يغور بداخل كل ما يسقط فيه، فهذه التخيلات تقع في خلد المتلقي عند لمح هذا العنوان وعند مطالعة النص يتأكد ذلك إذ يقول:
“تابع شاشات التنوين على منزله قصصا شاعرة في حي الجراح وغابت كتب السيرة حتى أدمن في كل صباح ترويض النسوة وطعاماً يجعل من أوعية القدس منابر تشكو عمليات التهويد لآكلها…، ذات وعاء نددت الجمعيات الإسلامية بالإرهاب الساقط في المشرط…، أيقن ساعتها أن الشمس تغيب وتشرق خلف دعاء يأتي من سبأ، فيمر على القاهرة الكبرى، متفقاً مع بلقيس على أمر سليمان الفاتح..، ضمد جرح المحتل، وغادر بلدته ضمن فريق يترأس جمعيات حقوق الإنسان القابع تحت الجنب الأيسر من سبأ المحتلة…، صار زعيماً من أصل زجاج تحمله القهوة…!!”([15]).
فالقصة الشاعرة تحكي مشاهد التخاذل العربي أمام قوى الصهيونية التي تداعت على القدس تداعي الأكلة على قصعتها، والشعوب العربية وقفت –كالعادة- عند حدّ التنديد والصراخ متمسكين بحقوق الإنسان التي غابت خلف قوى الظلم الغاشمة، ولم تعد تجدي شيئاً حتى وصل الأمر في النهاية إلى غياب شمس العرب وأفول نجمهم خلف الأحلام، ومن هنا وافقت إيحاءات العنوان مدلولات المتن القصصي مما يجعل العنوان ذا فكر فاعل في فهم القصة، وهذا ظاهر في عديد من قصصه إن لم يكن في جميعها. وكذلك قصته الشاعرة: “ضد مجهول”، فهذا العنوان أول ما تقع العين عليه تذهب النفس إلى الجرائم التي تحدث ولا يستدل على صاحبها، وعند مطالعة القصية نراه يقول: “جرائم هند فعل دون فاعله..، فتحت العين أقرأ هذه الدعوى..، أسرت كلبة الشرطي أمراً أدهش الحاسوب وانسحبت على وجهي قضايا ضد مجهول..، فهل أدلي بأوردتي..؟”([16])
فأول كلمة في القصة الشاعرة هي الفكرة نفسها التي وقعت في ذهن المتلقي مما يدل على اتصال العنوان بالأحداث، وعلى هذا فإن عناوين شاعرنا “تمثّل بنية وسيطة بين داخل الحكاية وخارجها، وهذا التوسط يجعلها نسيجًا من معلومات الحكاية”([17])، وبهذا تكون بداية الحكاية من العنوان وليست من بداية الأحداث، إذ وظائف العنوان لها أثرها في الدلالة والتحليل وبث الشوق واللهفة في نفوس المتلقين، وهذا كله جزء من الحكاية له أهميته التي لا يمكن إغفالها؛ إذ فقدان أي منها قد يودي بالحكاية إذا عزف المتلقون عنها نتيجة هذا الفقد.
والعنوان جمال:
فيجب أن يكون ذا لمسة جمالية مشوقة جذابة تشد القارئ، وأن يكون موجزاً فلا تمله الأذهان؛ إذ هو أول ما يلفت النظر ويزرع بداخلنا بذور الشوق والانجذاب نحو العمل، وقد تحققت هذه المقاييس في عناوين “محمد الشحات محمد” التي جاءت ذات دلالة واضحة على مكنون أدبه، وعبرت عن أفكاره التي وصف بها عصره، كما جعلها متناسقة في ذاتها حين اتخذ تقنية الحذف سبيلاً للوصول إلى اللمسة الجمالية التي تضفي سحرًا لغويًا يزيدها بهاءً، وتعددت العناوين التي راعت هذه الشروط، بل لا يخلو عنوان منها من تحقق بعض هذه الشروط، إن مجتمعة أو متفرقة، مما يدل على حسن اختيار “محمد الشحات محمد” لعناوينه وأن موهبته الأدبية اتفقت مع التقعيد النقدي الذي جاء ليحدد مقاييس وأسس اختيار العنوان.
وهذه المقاييس السابقة تتفق مع الوظائف التي حددها (جينيت) للعنوان، إذ حدد أربع وظائف للعنوان تتحدد بها مهام العنوان وآثاره.
وظائف العنوان:
يعد العنوان وحدة نصية متكاملة لذا عنيت محاولات كثيرة بدراسته وبيان وظائفه المتعددة، وأسهمت كل دراسة بجهدها في بيان تلك الوظائف مثل دراسة: “رومان جاكبسون” الذي درس العنوان على أنه مقاربة بين الكاتب والقارئ والنص([18])، كما حدد كل من: “شارل غريفل” و”ليوهوك” وظائف العنوان التي تكمن في: تعيين العمل، وتعيين محتوى العمل، وجذب الجمهور([19])، إلى أن جاء “جيرار جينيت” وفصل القول في وظائف العنوان التي تتعلق بالوظيفة التعيينية، والوظيفة الوصفية، والوظيفة الإيحائية، والوظيفة الإغرائية، وهي كما يأتي:
الوظيفة التعيينية([20]): وهي وظيفة تعطي الكتاب اسمًا يميزه من غيره من الكتب، وبها يصير له عَلَمٌ يوسم به، وهي أكثر الوظائف تواجدًا ويشترك وجودها بين كل الأعمال التي تحمل عنوانًا، وقد حدد “محمد الشحات محمد” كل أعماله بعناوين تدل عليها، ومنها ديوانه محل الدراسة “من ثقب الشتلات الأولى”.
الوظيفة الوصفية([21]): وهي وظيفة تتعلق بمضمون الحكاية أو بنوعها، لذلك يأتي العنوان -غالبًا- مكونًا من جملة اسمية، فالعنوان سمة الشيء، وغلبة الجملة الاسمية على العناوين تؤكد دلالته؛ لأن العنوان اسم للعمل الأدبي وسمة له، وهذه الوظيفة أتم ما تكون وضوحًا في الأعمال التي تحمل المدلول القصصي بصورة مباشرة مثل: “بوسي والباب الأزرق، ثورة الصديق، خلف الساتر، الحب والناموس…” لكن هذه الوظيفة لم تظهر في الأعمال الأخرى كما ظهرت هنا، فقد توارت خلف هذا العنوان غير المباشر مثل: “أثر، تسريح، رقص…”
وتقتصر هذه الوظيفة غالبًا على الإشارة إلى ظاهر الحكاية التي يسردها الكاتب، لذا فإنها في الغالب لا تشير إلى الأبعاد الكامنة وراء أحداث هذه الحكاية، فهذه الأبعاد التي يقصدها الكاتب تتحدد بالوظيفة الآتية من وظائف العنوان.
الوظيفة الإيحائية([22]): وهي أشد ارتباطًا بالوظيفة الوصفية، لكنها تفترق عنها إذ هي تعنى بالقيمة الإيحائية التي يمكن أن يحدثها العنوان في نفوس المتلقين، وما يمكن أن يترتب على هذا الإيحاء من تأثر يرتبط بالأثر العام للحكاية، مثل عناوينه: “فك الشفرة، مات حيًّا، إله بلا قدمين، صرخة، ….”، ويلحظ أن غالب عناوين “محمد الشحات محمد” في ديوانه “من ثقب الشتلات الأولى” لم تبن على المفارقة؛ إذ جاء العنوان شديد الارتباط بمضمون القصة الشاعرة، مما يجعل المتلقي منجذبًا مع أحداث القصة الشاعرة من عنوانها، وكذلك مما يعزز الوظيفة الإيحائية للعنوان.
الوظيفة الإغرائية([23]): وهي وظيفة تسعى إلى إغراء القارئ باقتناء الكتاب أو قراءته؛ فالقارئ قد يحجم عن متابعة العمل الأدبي إذا لم يغره العنوان، لذا تعين أن يكون مشوقًا مغريًا بالقراءة، وقد ظهرت هذه الوظيفة في شتى عناوين “محمد الشحات محمد”، واتضحت بخاصة في العناوين التي تتكون من مفردات غير متناسبة مع بعضها مثل عناوينه: “أغنيات للموت، لغة الجدار، السقوط نحو الأعلى…” فهذه العناوين مثيرة ومغرية للمتلقين؛ فكل عنوان منها يتكون من كلمتين أو أكثر لا ترتبط إحداها بالأخرى؛ فالأغنيات لا تكون للموت، والجدار ليس له لغة، والسقوط لا يكون للأعلى، فهذا التباعد جعل لهذه العناوين دلالتها الإغرائية التي تجذب المتلقين.
وتتجلى هذه الوظيفة أتم ما يكون في الأعمال التي تثير في نفوس المتلقين العديد من الأسئلة، مثل: “فك الشفرة” فهذا العنوان يبعث على تساؤلات عدة منها:
ما هذه الشفرة؟، ومن سيقوم بفكها؟، وما الذي سيحدث عند فكها؟ فهذه الأسئلة علامة إثارة الحكاية وتشويقها، وإغراء للمتلقي كي يقبل عليها، ومثل هذا كثير عند “محمد الشحات محمد“ مثل: “دقت الكلمات، إله بلا قدمين، وتخصيب الصمت…”
ومن وسائل الإغراء العناوين التي تكسر أفق التوقع مثل: “الرصيف السائل”، فحينما يسمع المتلقي كلمة: “الرصيف” يأتي في ذهنه الحجارة والطريق وقطع الرخام الصلبة، لكنه عندما يكمل العنوان بقوله: “السائل” فإن توقعه يخيب وينكسر إذ سمع أو قرأ مالم يكن يتوقعه، وكذلك عنوان قصيدته: “السقوط إلى الأعلى” فالمتلقي حينما يسمع كلمة: السقوط” يأتي في ذهنه النزول إلى الأسفل، ولكن توقعه ينكسر مع سماع كلمة “الأعلى” وبهذا يكون العنوان جذاباً أكثر ومغرياً بالقراءة.
الخلاصة:
– يتضح مما سبق أن عناوين “محمد الشحات محمد” تشكل في مجموعها بنية معرفية ودلالية؛ معرفية يتحصل بها التعرف على اتجاهاته ومضامينه في نتاجه الإبداعي، ودلالية تتحدد بها رموزه وما لم يصرح به، كما جاءت العناوين لتدل على أن للعنوان اتجاهين:
“أحدهما داخلي: يحيل إلى الأحداث داخل الحكاية، كما مرّ بيانه. والآخر خارجي: يؤدي دورًا مهمًّا في إنجاح وظيفة تداول الحكاية”([24])، وبدراسة عناوين “محمد الشحات محمد” يتضح أنها تؤدي وظيفتها في الاتجاهين بنجاح كبير؛ إذ مثلت وظائف العنوان مرشدًا إلى أحداث الحكاية، وجسرًا يعبر عليه المتلقي للتفاعل مع رؤية الأديب، وباعثًا على متابعتها والتأثر بها.
– كما يمثل العنوان أحد دعائم العمل الأدبي الذي يتكون من: عنوان الإبداع+ المتن + اسم المبدع = العمل الإبداعي، وعلى هذا لا يكون العنوان فرعاً ولا فضلة ولا نافلة([25])، بل هو أساس من أسس النص الأدبي.
ويلحظ على ديوان الشاعر “محمد الشحات محمد” “من ثقب الشتلات الأولى” وهو محل الدراسة خلوه من بقية النصوص الموازية؛ مثل العنوان المصاحب أو الإهداءات أو الصور أو الذيول..([26])، ولم يكن منها إلا المقدمة الوافية التي قدّم بها الأستاذ الدكتور “صبري أبو حسين”، ولا شك أن مثل هذه النصوص لها دور فاعل في مقاربة النص القصصي، والعمل على مثاقفته والتحاور معه.
– وظف “محمد الشحات محمد” العنوان ليكون وسيلة من وسائل الإثارة والتشويق التي تسهم في نجاح العمل، وبخاصة عنوان الأعمال الذي ضم مفردات غريبة كسر بها أفق توقع المتلقي كما مرّ بيانه.
– انمازت عناوين “محمد الشحات” بإثارتها لأسئلة عديدة في نفوس المتلقين، مما يجعل أعماله مثيرة لشغفهم، وبهذا تكون قد حفزت على فرض فرضيات متعددة وعلى مستويات مختلفة قبل الشروع في قراءتها.
([1]) الزمن في البنية السردية للعمل الأدبي ليس زمنا واحدا بل هو زمن متعدد تبعا لهذا العمل؛ ففي كل قصة يوجد زمانان متكاملان هما: زمن القصة، وزمن الخطاب؛ فزمن القصة مرتبط بالترتيب المنطقي للأحداث، لكن زمن الخطاب غير مرتبط بالترتيب المنطقي للأحداث بل هو مرتبط بما يريد السارد إيصاله إلى المسرود له، ورؤيته في ذلك، ومن تعدد الأشكال السردية ظهر ما يسمى بالمفارقات الزمنية في السرد، وهذا ما سماه (تزفيتان تودوروف) بالتحريف الزماني حيث يقول: يرجع السبب في طرح مشكل تقديم الزمن داخل السرد إلى عدم التشابه بين زمانية القصة وبين زمانية الخطاب. ينظر: بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، د. حميد لحمداني، المركز الثقافي العربي بيروت، الطبعة الأولى 1991م، ص73، 74.
([2]) السرد الموضوعي: يكون الكاتب فيه مطلعاً على كل شيء حتى الأفكار السرية للأبطال، فيقدم الحكي بصورة موضوعية باسم الكاتب على شكل إخبار، دون أن يفسر لنا كيف نتمكن من معرفة هذه الأحداث. ينظر: نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة إبراهيم الخطيب، مؤسسة الأبحاث الغربية، بيروت لبنان الطبعة الأولى 1982م ص189.
([3]) الواقع والتخييل أبحاث في السرد: تنظيراً وتطبيقاً، د.مرسل فالح العجمي، سلسلة نوافذ المعرفة توزع مع سلسلة عالم المعرفة العدد 418 نوفمبر 2014م، ص55.
([4])خطاب الحكاية (بحث في المنهج)، تأليف: جيرار جنييت، ترجمة: محمد معتصم وعبدالجليل الأزدي وعمر حلى، طبعة الهيئة العامة للمطابع الأميرية، الطبعة الثانية 1997م، ص201.
([5])البلاغة والسرد، د. محمد فكري الجزار، الهيئة العامة لقصور الثقافة،ط1،2011م، ص308.
([6]) نظرية السرد من وجهة النظر إلى التبئير، جيرار جينيت وآخرون، ترجمة ناجي مصطفى، منشورات الحوار الأكاديمي والجامعي الطبعة الأولى 1989م، ص124.
([7]) ينظر مقال (السيميوطيقا والعنونة) د. جميل حمداوي، مجلة عالم الفكر المجلد الخامس والعشرون العدد الثالث يناير/ مارس1997م، ص97.
([8]) ينظر مادة “عنن” ومادة “عني” القاموس المحيط، ولسان العرب، والمعجم الوسيط، وتاج العروس.
([9]) العنوان وسميوطيقا الاتصال الأدبي، د. محمد فكري الجزار، الهيئة المصرية العامة للكتب 1998م، ص18.
([10]) ينظر مقال (السيميوطيقا والعنونة) السابق ص96.
([11]) سيمياء العنوان، بسام قطوس، وزارة الثقافة عمان الأردن، ط1، 2001م، ص39، ص101.
([12]) ينظر عتبات جيرار جينيت من النص إلى المناص، ص21 وما تليها.
([13]) دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2000م، ص146.
([14]) العنوان وسميوطيقا الاتصال الأدبي، ص36.
([15]) من ثقب الشتلات الأولى، محمد الشحات محمد، دار الزيات للنشر والتوزيع 2019م، ص57.
([17]) البلاغة والسرد، د. محمد فكري الجزار، الهيئة ص210.
([18]) ينظر: في نظرية العنوان “مغامرة تأويلية في شئون العتبة النصية”، خالد حسين حسين، التكوين للتأليف والترجمة والنشر دمشق 2007م، ص97.
([19]) ينظر: عتبات جيرار جينيت من النص إلى المناص، عبد الحق بلعابد، منشورات الاختلاف الجزائر، الطبعة الأولى 1429هـ 2008م، ص73.
([20]) عتبات جيرار جينيت من النص إلى المناص، ص86.
([22]) عتبات جيرار جينيت من النص إلى المناص، ص87.
([23]) عتبات جيرار جينيت من النص إلى المناص، ص88.
([24]) البلاغة والسرد، د. محمد فكري الجزار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص210
([25]) ينظر سيمياء العنوان ص53.
([26]) ينظر مقال (السيميوطيقا والعنونة) د. جميل حمداوي، مجلة عالم الفكر المجلد الخامس والعشرون العدد الثالث يناير/ مارس1997م.