الربيع والطبيعة في شعر إقبال
بقلم/ أ. د. هند عبد الحليم محفوظ
مقدمة
موضوع البحث: يتناول هذا البحث وصف عناصر الطبيعة لدى العلامة إقٌبال . فالعلامة إقبال هو أكبر شاعر في شبه القارة الهندوباكستانية، فهو شاعر الشرق، وذلك من خلال قصائد ديوان “بالجبريل” لإقبال، وقد وقع اختياري على هذا الديوان-على وجه الخصوص – لما يحتوي على الكثير من عناصر الطبيعة، كما أن إقبال في هذا الديوان يحكى عن خواطره الخاصة،وأسفاره إلى إسبانيا، وفلسطين، وبكائه على أطلال قرطبة، وغيرها من الآثار الإسلامية والتاريخية وقد تعرض لكل هذا من خلال وصفه لعناصر الطبيعة، لذا يعد هذا الديوان أفضل دواوين إقبال عن الطبيعة.
وإقبال تخرج من مدرسة الثقافة العصرية والدراسات الغربية، فقد درس في انجلترا وألمانيا على يد أساتذة بارعين وارتوى من مناهلهم حتى أصبح من أفذاذ الشرق الإسلامي في الثقافة الغربية، لكن إقبال لم يكتف بثمار تلك المدرسة، فقد جمع بين علوم الشرق وروحانياته وعلوم الغرب، وصب كل ذلك الخليط في شعره الذي أبهر العالم بأسره. وجهوده لا يستطيع أحد أن ينكرها أو ينساها، والتي لولاها لما وصل الأدب الأردي والشعر منه بصفة خاصة إلى تلك المكانة التي وصل إليها اليوم، فقد تطرق إقبال إلى موضوعات شعرية جديدة لم يتطرق إليها أحد من قبل. ويتميز إقبال عن غيره من الشعراء بأنه قد كرس شعره من أجل النهوض بمسلمي الهند، والأخذ بيدهم نحو النهوض والتطور والتقدم.
فرضيات البحث: عاش اقبال فى الفترة الزمنية والتي وقع فيها العالم الإسلامي بأسره تحت ظلال الاحتلال البريطاني، وكان كلا الشاعرين من أوائل الشعراء الذين وهبوا أنفسهم وسخروا قلمهم من أجل النهوض بالوطن للخلاص من هذا الاحتلال الغاشم، فكان لكلا منهما فلسفة خاصة، وقد وظفا شعريهما لتحقيق هذه الفلسفة، ومن هنا أجدني مضطرة لطرح تساؤلًا هامًا يجب أن أبحث له عن إجابة في ثنايا الدراسة وهو:
- ما هي أهم عناصر الطبيعة عند ه ، وكيف وصف هذه العناصر؟
- كيف وظف إقبال عناصر الطبيعة في تطويع فلسفته؟
- عناصر الطبيعة في شعر العلامة إقبال
نوّه العلامة أبي الحسن علي الندوي، إلى أن هناك أربعة عوامل أسهمت في تكوين شخصية إقبال، وهذه العوامل هي:
- الإيمان.
- القرآن العظيم.
- معرفته لنفسه والغوص في أعماقها والاعتداد بقيمتها والاحتفاظ بكرامتها.
أما العامل الرابع فيقول عنه العلامة أبي الحسن الندوي:
( أما المربي الرابع الذي يرجع إليه الفضل في تكوين سيرته وشخصيته وفي قوة تأثير شعره، وجدّة المعاني، وتدفق الأفكار، هو أنه لم يكن يقتصر على دراسة الكتب، والاشتغال بالمطالعة، بل كان يتصل بالطبيعة من غير حجاب، ويتعرض لنفحات السحر، ويقوم في آخر الليل، فيناجي ربه، ويشكو بثه وحزنه إليه، ويتزود بنشاطٍ روحي جديد، وإشراقٍ قلبي جديد، وغذاء فكري جديد، فيطلع على أصدقائه وقرائه بشعر جديد، يلمس الإنسان فيه قوة جديدة، وحياة جديدة، ونوراً جديداً؛ لأنه يتجدد كل يوم، فيتجدد شعره، وتتجدد معانيه)([1]).
فالعلامة إقبال كان عظيم التقدير لهذه الساعات التي يقضيها في السحر، حيث يقول داعيًا في إحدى قصائده:
“خذ مني ما شئت يا رب! ولكن لا تسلبني اللذة بأنّة السّحر، ولا تحرمني نعيمها”([2])
بل كان يتمنى من الله أن تتعدى هذه الأنّة، إلى شباب الأمة كي تحرك سواكن قلوبهم، وتنفخ الحياة في هياكلهم فيقول في قصيدة له:
” اللهم اجرح أكباد الشباب بسهام الآلام الدينية، وأيقظ الآمال والأماني النائمة في صدورهم بنجوم سمواتك، التي لا تزال ساهرة، وبعبادك الذين يبيتون الليل سجداً وقياماً، ولا يكتحلون بنوم، أزقهم لوعة القلب، وارزقهم حبي وفراستي” ([3])
فللسّحر أهمية كبرى لدى العلامة إقبال، وهذا ما جعله يوّظفه في قصائد عديدة فيقول في إحدى رباعياته والتي يدعو الله فيها بأن يرزق الشباب لذة السّحر، ثم يناجي الله قائلاً: يا رب تلك أمنيتي، أن تنتشر فراستي ويعم نور بصيرتي بين المسلمين:
اللهم ارزق الشباب شجوني في السّحر واكسو أجنحة صغار الصقور ريشاً
إلهي! لي أمنية وهي أن يعم نور بصيرتي([4])
كما أنشد إقبال بالسّحر في قصيدة أخرى، حيث يقول:
فطرتي مثل نسيم السّحر
تُبطئ حركتها حيناً وتُسرع أخرى.
كسوتُ ثياب الحرير بالورود
واصنع من شوكه إبرة حادة للوخز بها ([5])
ولأن إقبال كانت لديه فلسفة خاصة، فقد وظف عناصر الطبيعة لتطويع فلسفته هذه، فقد استعان بالطبيعة لعوامل سياسية ملتهبة متمنياً هطول أمطار الثورة لتزدهر حال أمته وتنقشع الغمة وينزاح غبار الاستعمار عن وطنه، وكانت قصيدة “ذوق وشوق” من أروع ما نظم في الطبيعة، وهذه القصيدة نظمها عندما زار فلسطين، وكان ممثلاً للهند في المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في القدس عام 1931م. وقد حركت مناظر الطبيعة في فلسطين، التي أكرمها الله بجمال الطبيعة والرسالات السماوية، عواطف الشاعر فهاجت قريحته وتحرك الحب الدفين داخله، ومن شأن هذه المناظر أن تثير الدفائن، وتظهر الكوامن، عندئذ يتذكر الإنسان أحب شيئ إليه فيحن إليه، ويتمثله، ويتغنى به، وقد حل ” الإسلام” والأمة الإسلامية في قلبه محلّ الحبيب الأثير، وسيطر حبه على مشاعره، فما كان من الشاعر المؤمن إلا أنه تذكر حبيبه وتغنى بجماله ومحاسنه، فقال:
الصباح في الصحراء، حياة للقلب والنظر
تتدفق أنهار النور من الشمس
فقد هتك الحسن الأزلي سِتر الوجود
فالنظرة منه تفيض على القلب بألف نعمة.
خلف سحاب الليل، سحب حمراء والزرقاء
فكست جبل الاضم حلة حمراء ووردي
الهواء صاف عليل، والنخيل مبلل بالندى
ورمال أطراف كاظمة أشبهبالحرير المطرز
هنا نار منطفئة، وهناك حبال متقطعة
كم من قوافل عبرت من هذا المكان([6])
كما ذكرتُ سابقاً، أن للشعر رسالة بالغة الأهمية، وهي إصلاح الأمم الإسلامية، فالشعر عند إقبال له ” رسالة أخلاقية” مهمته إشعال العواطف في قلوب الأمة، يحرك النفوس ويبعث بالأمل، وقد نجح شعر إقبال في تحقيق هدفه المنشود، فقد كان شعره قادر على إثبات الذات والتعبير عنها، والتأثير فيها، وكان الطاقة التي تدفع إلى الأمل، والنور الذي يشع الضياء في العين.
وقد يكون الشعر عند إقبال ذاتياً، يحمل تأملات خاصة، فقد يكون تأمل في الطبيعة وحوار معها- حوار بين الشاعر والطبيعة أو حوار بين عناصر الطبيعة- كما سأذكر في القصيدةالتالية، فمن تأملاته في جمال الطبيعة، وفي الذات، كانت تلك الغزلية:
أضاءت شقائق النعمان قنديلها على الجبال
ودعاني العصفور لأنشد لحني من جديد
اصطفت الزهر في الصحراء متتابع في إهابها ما بين
قرمزي قرمزي، أزرق أزرق، أصفر أصفر
وألقى نسيم الصباح بلؤلؤة الندى على أوراق الزهر
فأضاء شعاع الشمس هذه اللؤلؤة
الحسن غير مبالٍ بسفوره
إذا كانت الغابة تروق لي أكثر من المدن، فالمدينة هي أفضل غابة
أَغَرق في ذاتك، بحثاً عن قنديل الحياة
فإذا لم تروق لك غابتي، فابحث عن غابتك ([7])
كما ذكرت أن خيال إقبال في استخدام الحوار لا يتوقف به عند حد الطبيعة الحية فقط، بل وصل به إلى الطبيعة الصامتة أيضاً، فجعل من عناصرها إنساناً، يتخيل أن الشمس، والقمر والنجوم، … إنساناً يكلمها وتكلمه- أو تصغي إليه على الأقل، وقصائد إقبال في هذا الوصف كثيرة، منها قصيدة “اذان: الأذان”، فيقول:
ذات ليلة، قال نجم السّحر للكواكب.
هل رأى أحد منكم آدم مستيقظاً ؟
فقال المريخ ساخراً .
الحكمة تقتضي أن يغطّ هذا الصغير في سُبات عميق.
قالت زهرة، ما هذا الهُراء ؟
هل سنمضي الليلة في حديث غير ذي بال !([8])
استعان إقبال بعناصر الطبيعة في بناء لغته الشعرية، حيث تفاعل معها وتأثر بها، إلى الحد الذي جعلها تشاطره همومه وأشجانه، فنجد عنده وصفاً للطبيعة بجميع مظاهرها ومباهجها، فنجد عنده الطبيعة الصامتة برياضها، وأشجارها، وأزهارها، وأنهارها، وجبالها، وسمائها، ونجومها، وما يتصل بذلك كله من نسيم ورياح وأمطار … إلخ.
كما وصف إقبال الطبيعة الصائتة/ الحية، حيث تحتل مساحة واسعة في أشعاره، فنجد عنده العديد من القصص على ألسنة الحيوانات، والحشرات، والطيور الجارحة وغير الجارحة، وأفرد لها قصائد خاصة تحمل عنواناً لقصائده،ويبدو أن إقبال في هذا التناول متأثر إلى حد كبير بكتاب “كليلة ودمنة”، الذي ترجم إلى عدة لغات، فتأثر به معظم الأدباء والشعراء والفلاسفة، في الآداب العربية والعالمية، وقد كتب إقبال هذه الأشعار القصصية بهدف العظة والعبرة والدرس الأخلاقي للأطفال.
“حين يأتي الشعر- وهو أرقى وأسمى أنواع البيان الإنساني- على ألسنة الحيوان، فإن ذلك يُعد من الأعاجيب التي تثير خيال الطفل، لأن الكلام الموزون محبب إلى قلوب الأطفال حتى قبل أن يدركوا معانيه ومراميه، كما أنها تجذب انتباه الطفل وتأسر حواسه فيتابعها بشغف وإعجاب شديد، فإذا ما اندمجت هذه المحببات إلى قلب الطفل في بوتقة واحدة، فإن ذلك يكون له وقع أقوى في وجدانيات الأطفال، وأسرع إلى أذهانهم ،وأكثر تأثيراً في سلوكياتهم”([9])
ومن هذه القصائد نذكر قصيدة: “شير اور خـﭼر: الأسد والبغل”، “ﭼيونـﭨـى اور عقاب: النملة والنسر” ، “عقاب: النسر” ،”ايكـ مكـﮌا اور مكهى: العنكبوت والذبابة” ،” ايكـ ﮔـائـﮯ اور بكرى: البقرة والنعجة”، “ﭘروانـﮧ اور جـﮔنو: الفراشة واليراعة”، … إلخ وكما ذكرت أن كل هذه القصائد التي نظمها إقبال كانت مخصصة للأطفال، فكان الهدف الأساسي منها العظة والعبرة، والدرس الأخلاقي للطفل، ونستطيع أن نلمس ذلك من خلال تلك قصيدة “ﭼيونـﭨـى اور عُقاب”:
النملة
لماذا أنا مهدور الحقوق، ذليل، وقلق، ومتألم
وأنت ذو رفعة، مكانك بين النجوم ؟
النسر
أنا لا أبحث عن رزقي وسط التراب
ولا أنظر نظرة نحو السماء !([10])
في القصيدة السابقة لم يكتف إقبال بوصفه للطبيعة أو بتصوير مشاهدها، بل لقد أخرجها من حد الطبيعة الحية إلى حد الإنسانية، فجعل النملة تتحدث وتشكو سوء حالها، إلى النسر، فتقول لماذا أنا كائن مظلوم في البحث عن رزقي، بينما النسر يطير محلقاً في السماء العُلا؟ فرد عليها النسر رداً مقنعاً، بأن هذه هي حكمة الإله، فهو ليس مثلها يبحث عن رزقه وسط التراب، كما أنه لا ينظر إلى من هو أعلى منه فلا ينظر نحو السماء.
بينما كان للشاهين “الصقر” مكانة خاصة عند إقبال، حيث كان عنصراً أساسياً من عناصر الطبيعة لديه، فنظم عنه قصيدة بعنوان “شاﮨين: الشاهين”، كما كان له حضور في العديد من القصائد التي نظمها، حيث إن الشاهين عند إقبال رمز للشرق، وفي أحياناً أخرى رمز به إلى الصوفي (قلندر) كما ورد هنا في قصيدة “شاﮨين”
لقد اعتزلتُ كل شيئ في الدنيا من أجل رزق بماء وحب
في الخلوة سعادتي والرهبانية، فطرتي منذ الأزل
أنا درويش “قلندر” في عالم الطير
فكيف لا يبني الشاهين عشاً([11])
- الربيع في شعر إقبال
- إذا بحثنا عن الربيع عند إقبال من خلال ديوان “بال جبريل” ، سنجد قصيدة “ساقي نامـﮧ: رسالة الساقي” .
- جاء وصف الطبيعة عند إقبال في قصيدة ” ساقي نامه” من خلال وصف فصل الربيع بمصاحباته الدالة من نسيم ووديان وغابات تحتشد بالأشجار والزهور والطيور وينابيع المياة المتدفقة .
حطت قافلة الربيع رحالها وفاح عبيرها في أودية الجبال
الزهر والنرجس والسوسن والنسرين وشقائق النعمان ذات السياج الأحمر
انبثوا جميعاً في ألوان الزهر وتدفقت الدماء في شرايين الحجر
وأضحت السماء زرقاء سروراً وبهجة وغادرت الطيور أعشاشها
وترى ينابيع الجبال قافزة،منسابة ملتوية، مستقرة، مرنة، منسلة
قافزة، منسابة، تتهادى تارة وتفيض أخرى فتتدفق بسرعة
وإذا ما أعترضها حجر، فتته وتشق أعماق الجبال
تمعن قليلاً، أيها الساقي إنها تعزف قيثارة الحياة([12])
- العلامة إقبال في قصيدة “ساقى نامـﮧ”، استخدم تقنية دالة ولافتة للانتباه وهي تقنية الرسم بالكلمات، فحين تقرأ هذه القصيدة تشعر وكأنك ترى صورة فنية طبيعية رائعة أمامك، فـ إقبال قد رسم بريشة الفنان المبدع صورة فنية راقية الذوق عن فصل الربيع، وهذا أسلوب فريد تفرد به شعر إقبال عن غيره، فهو يثري هذا الفن بأسلوبه الرشيق الذي لا يستطيعه إلا أمثال إقبال من عباقرة الشعر.
وقديماً قال البلاغيون العرب: “إن أفضل الشعر ما قلب السمع بصراً، والتفت البلاغيون اللاتينيون إلى هذه الخاصية،فحدثونا عن أن الشعر نوع من الرسم، متابعين في ذلك ما ذكره الجاحظ قبلهم من أن الشعر نظمُ وتصوير .. وهكذا إلى أن نصل إلى الإمام محمد عبده ، الذي تحدث عن فن الشعر، مقارناً إياه بفن الرسم فوصف الرسم بأنه شعرُ صامت، والشعر بأنه رسم ناطق”([13])
فيصف إقبال تدفق ينابيع المياه وهي تتراوح بين القفز و الانسيابية في الجبال متخذة مسارات مختلفة ما بين متعرجة، ومستقيمة، ومتخفية، وإذا ما اعترضها حجر صلد تحول هذا الحجر إلى شظايا صغيرة من شدة اندفاعها، فهناك تناغم بين هذه العناصر وانسجام كأنها فرقة موسيقية تعزف نغمة على قيثارة الحياة. فيقول :
وترى ينابيع الجبال قافزة،منسابة ملتوية، مستقرة، مرنة، منسلة
قافزة، منسابة، تتهادى تارة وتفيض أخرى فتتدفق بسرعة
وإذا ما أعترضها حجر، فتته وتشق أعماق الجبال ([14])
- غالبًا ما يكون الخمر ملازمًا ومرتبطًا بوصف الطبيعة. فالخمر عند الشعراء، هو العبث والمجون، وهو الوقود الذي يمنح النفس الطاقة لمواجهة أعباء الحياة، كما أنه أحد مفاتيح كشف أسرار الكون. لكن توظيف الخمر في قصائد إقبال جاء مجرداً من العبث والمجون واللهو كعادة الشعراء العرب الجاهلين لأن شعره خرج من منابع الصوفية وروحها. فهو يخاطب ساقي الخمر وهو في كامل وعيه بضرورة كشف سر الخمر ونزع الغطاء عنه حتى يصل إلى سر الوجود، كما يصور نفسه بالعصفور الصغير في مواجهة غواية الخمر التي شبهها بالصقر الكبير ويدعو الساقي أن يحميه من سطوتها. فقد انتقل إقبال بعد وصفه للربيع إلى وصف الخمر التي تعوضه عن غياب الربيع الذي لم يأت بعد، وإقبال هنا يذكرنا بشعراء الجاهلية حين كانوا يبكون الأطلال، فهو يجعل ذكريات الخمر والشراب هي أطلاله وربوعه التي يتمنى رائحتها، حيث يقول:
اسقني من تلك الخمر فلم يأت الربيع بعد
اسقني من تلك الخمر التي تنير الحياة تلك التي هي نبع الطرب والنشوة
تلك الخمر التي تمنح الحماس تلك التي تملك مفاتيح سر الكون
أيها الساقي! انزع الستار عن هذا السر
واحمي هذا العصفور الصغير من ذلك الصقر([15])
فالخمر هنا رمز من رموز الصوفية فى الشعر رمز للنشوة فى الحب الإلهى
- كما شرت سابقًا أن إقبال كان لديه فلسفة خاصة، وقد وظف عناصر الطبيعة لتطويع فلسفته هذه، فقد استعانا بالطبيعة لعوامل سياسية ملتهبة متمنيا هطول أمطار الثورة لتزدهر حال أمته وتنقشع الغمة وينزاح غبار الاستعمار عن وطنه. فالشعر عند “إقبال” له ” رسالة أخلاقية” مهمته إشعال العواطف في قلوب الأمة، يحرك النفوس ويبعث بالأمل، وقد نجح شعره في تحقيق هدفه المنشود، فكان شعره قادر على إثبات الذات والتعبير عنها، والتأثير فيها، وكان الطاقة التي تدفع إلى الأمل، والنور الذي يبعث الضياء في العين. فنجده يلقي باللائمة على المواطن الشرقي الذي يترك سحر وبهاء الشرق سواء في مصر والحجاز أو فارس والشام ويتجه إلى الغرب بحثاً عن المتعة والجمال في حين أنه يترك من خلفه النساء الحسناوات الأشبه بالحور العين، وكذلك مضارب الخيام في الصحراء المكتنزة بالأسرار،وكذلك افتقد الخمر المعتقة والكأس الجميل،ولكنه لا يعثر على ربيع هناك في الغرب.ورغم تقدم الغرب ماديا وتقنيا لكنه يفتقد سحر الطبيعة وجمالها وما زال طائر الشرق يحلق في سماوات السحر والجمال.فحين كان في لندن، كتب هذه الغزليةوالتي يتصدّرها بقوله:
لقد تخليت عن أعراف وطنك، ولم تقطع الطريق بعد.
لقد هجرت مصر والحجاز، وفارس والشام
من يعمل بلا هدف، فلا جزاء له.
لقد تركت الحور والخيام، والخمر والكأس.
فإذا كان القلب يرنو إلى ربيع الغرب.
إلا أن طائرك المحلق في أعالي السماء، يتألق من بعيد([16])
وإقبال هنا يرسم خريطة للشرق والغرب، فهو يؤمن بأن الشرق ما زال يمتلك طبيعة بكر لم تنتهك، في حين أن الغرب غارق في حضارته المادية.
3-شعرية الوجود: في الوقت الذي كان فيه كل ما يحيط بإقبال وشوقي جديرا بأن يعمل ضدهما، أو يدفع بهما على الأقل نحو أفق محدود مثل معاناة الاستعمار والتخلف، ذهب كل ما يحيط بهما على العكس من ذلك، فسمح لهما بكتابة شعر أصيل ملهم وعميق في آن معاً؛لأن الشعر لديهما ليس لعباً لغوياً لكنه حركة وجود.فعندما يقول إقبال :
وألقى نسيم الصباح بلؤلؤة الندى على أوراق الزهر
فأضاء شعاع الشمس هذه اللؤلؤة
الحسن غير مبال بسفوره
لا شك أن كلمات إقبال صوره تنبض بالحياة، ولا شك أن بينها وبينه علاقة بصرية، وأنه يستوحيها ويعيد تشكيلها بعينيه. فنلمس من هذه الأبيات أن إقبال واقفا مغروساً في وسط الحدائق مستيقظاً بكل حواسه، متأملا لكل ما تعرضه الطبيعة من كنوزها الجمالية، فهناك تناغم وتناسق بين الزهور والندى وشعاع الشمس .. كل تلك العناصر تعزف سيمفونية نادرة ويتجلى الحسن للعيون متخلياً عن خجله التقليدي وخفره المعهود. فإقبال يخلق الطبيعة خلقاً جديداً في الشعر الأردي.وينحو منحى مختلف صاغه التأمل في الطبيعة على طريقة التأمل في الوجود فيقول:
ذات ليلة، قال نجم السحر للكواكب.
هل رأى أحد منكم آدم مستيقظاً ؟
فقال المريخ ساخراً .
الحكمة تقتضي أن يغطّ هذا الصغير في سُبات عميق.
قالت زهرة، ما هذا الهُراء ؟
هل سنمضي الليلة في حديث غير ذي بال !([17])
فالوجود عند إقبال علامات ومرايا، علامات تنبيء عما تنطوي عليه الطبيعة من أسرار تغوي الإنسان بالبحث عنها وفيها، ومرايا للحضور الكلي المطلق الذي هو موجود في كل الوجود، ولذلك تبقى الطبيعة خالدة بينما يفنى الإنسان الذي سرعان ما يتحول إلى رماد ([18]).
الخاتمة
كان الموضوع الأساسي الذي يدور حوله هذا البحث هو تحليل مختارات من عناصر الطبيعة من خلال قصائد الشاعر (إقبال)، ثم خصصت الربيع بالدراسة، وبعد أن انتهيتُ من الدراسة توصلتُ إلى عدة نتائج وهي:
- إن إنجاز إقبال الشعري يرتقي إلى مستوى الروائع العالمية التي تعبر عن النزعة الإنسانية، فإقبال ليس شاعر الهند أو باكستان فحسب، بل شاعر الشرق، فقد ذاع صيته في العالم الشرقي والغربي، وقد جاء إنتاجه الأدبي يحمل فكراً وفلسفة خاصة وانعكاساً لواقع معيش بما فيه حياة الناس المسلمين بمعاناتهم وطموحاتهم.
- الرؤية الشعرية عند إقبال فيها الحرية والطلاقة وروح الجدة والأصالة ، حيث جاء شعره ملاذاً يحمي الشخصية القومية من هجمات الغزاة ورياح الثقافات الأجنبية، والنهوض بالوطن نحو التقدم.
- الشاعر إقبال من شعراء الطبيعة بامتياز، حيث تفاعل مع الطبيعة، وتأثر بها، فشاطرها همومهم وأشجانهم، كما يمتلك قاموساً شعرياً جديداً، زاخراً بالألفاظ الجديدة، والأسلوب الشعري المبتكر الذي يهدف إلى التعبير عن النفس وتصوير العواطف في صدق وواقعية.
ثبت المصادر والمراجع
أولاً: الأردية
- اردو ادب كي تاريخ- عظيم الحق جنيدي- ايجوكيشنل بكـ ﮨاوس، على ﮔرهـ، 1990ء.
- بال جبريل- علامـﮧ محمد اقبال- علم وعرفان پبلشر، اردو بازار، لاﮨور، 2010ء.
- جديد نظم: حالى سـﮯ ميرا جى تكـ- كوثر مظﮩرى- مظـﮩر ﭘبلى كيشن-2005ء.
- كليات إقبال”اردو”- علامـﮧ محمد إقبال( مرتب: سعيد بزمى)- زاﮨد بشير ﭘرنـﭨرز، لاﮨور- 2008ء.
- لاﮨور ميـﮟ مدفنون تاريخى شخصيات- راؤ جاويد اقبال- مشتاق بكـ كارنر، اردو بازار، لاﮨور، 2011ء
- مقدمـﮧ شعر وشاعرى- الطاف حسين حالى- مكتبـﮧ جامعـﮧ لمـﭨﮈ- نئى دهلـﮯ.
ثانياً: العربية
- الأعمال الكاملة: الشوقيات- أحمد شوقي- المجلد الأول- الجزء الأول- المجلس الأعلى للثقافة-القاهرة 2007م,
- الرمزية والأدب العربي الحديث، أنطوان غطاس كرم، بيروت، دار الكشاف، 1949م.
- الشوقيات- أحمد شوقى (ت:محمد عبد المطلب)- المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2007م.
- العيون في الشعر العربي، محمد جميل الحطاب،دمشق، مؤسسة علاء الدين للطباعة والتوزيع، الطبعة الثالثة، 2003م,
- اللغة واللون، أحمد مختار عمر، القاهرة 1997، علام الكتب، الطبعة الثانية.
- المعجم اللوني في شعر عز الدين المناصرة، حسين نشوان، الأردن، مجلة أفكار، وزارة الثقافة الأردنية، عدد 189، تموز، 2004م.
- تحرير التحبير، ابن أبي الأصبع، تحقيق عبد آعلى مهنا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1987م.
- روائع اقبال- أبو الحسن علي الندوي- دار الفكر بدمشق- ط 1- 1960م.
- رؤيا حكيم محزون .. قراءات في شعر صلاح عبد الصبور- جابر عصفور، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 2017م.
- سلطة الشعر-محمد عبد المطلب- الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2009م.
- مدرسة البعث وأثرها في الشعر الحديث- عبد العزيز الدسوقي- الهيئة العامة لقصور الثقافة- القاهرة1999م.
- مفكرون من عصرنا- سامي خشبة- مكتبة الأسرة- القاهرة 2008م.
- موسوعة الفنون الجميلة المصرية في القرن العشرين، صبحي الشاروني، الجزء الأول، الدار المصرية اللبنانية، 2013م.
- نقد الشعر، قدامة بن جعفر، تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتب العلمية، لبنان.
ثالثاً: شبكة المعلومات الدولية
1- WWW. Liilas.com
2- WWW. Alukah.net
[18]– جابر عصفور: رؤيا حكيم محزون .. قراءات في شعر صلاح عبد الصبور، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة، 2017، ص 34.