سورة الإسراء
دراسة استقرائية
أ.د. محمد السعيد عبد المؤمن
سورة الإسراء من السور العميقة الدلالة الجديرة بالاستقراء، تبعث كثيرا من الرسائل، وتطرح كثيرا من التساؤلات، وتقدم الكثير من الإجابات.
أولا: لماذا جمع الله لرسوله الكريم الإسراء والمعراج في رحلة واحدة، في حين أنه سبحانه أفرد للحديث عن الإسراء سورة سميت باسمه، وللمعراج سورة سميت بالنجم؟!
صحيح أن كلتاهما نزلتا في مكة، وهذا معناه أن المخاطب واحد، وصحيح أن رواية الرسول صلى الله عليه وسلم للمخاطبين جمعت بين الأمرين، إلا أن الدليل على رحلة الرسول كان متعلقا بالإسراء(قافلة التجارة)، ونزلت آيات الإسراء لتأييده.
أما المعراج، فلم يكن له تأييد مادي، فنزلت سورة النجم لتأييده. من ثم كان التفريق بينهما يشير إلى الفرق بين نوعيهما، وأدلتهما، ويشير بذلك إلى أبعاد كل منهما، فهما لم تختلفا، بل فصلتا بين حديث الدنيا وحديث الآخرة، وبين آيات الدنيا وآيات الآخرة، ففي الإسراء مسيرة الحياة على الأرض، وفي المعراج سمو إلى السماء.
السؤال الثاني: كيف صلى الرسول الكريم بالأنبياء والرسل في رحلة الإسراء، وقد فرضت الصلاة على المسلمين في المعراج؟!
لاشك أن هناك فرقا بين مفهوم الصلاة في الإسراء ومفهومها في المعراج، وبين رمزها في الإسراء ورمزها في المعراج، وبين شكلها في الإسراء، وشكلها في المعراج، وبين ما تضمنته من قراءات في كلتاهما. كانت صلاة المسجد الأقصى تأكيدا لوحدة الأديان السماوية وختمها، فإذا كانت هذه الصلاة بإمامة الرسول الخاتم عليه السلام فهو الحي بين الأنبياء، وهو الباقي منهم لاستكمال الدعوة إلى دين الله وختم رسالته، ودعوة أتباع الديانات السابقة لاتباعه تأسيا بصلاة رسلهم خلفه، وقد صلى في القدس حيث مجمع الديانات التي سبقته، ومن ثم كانت الصلاة صلاة تسليم.
السؤال الثالث: لم صلى الرسول الكريم عليه السلام بالأنبياء في المسجد الأقصى، ولم لم يصل بهم في الكعبة؟!
إذا كان الله سبحانه قد أراد لرسوله أن يصلي في المسجد الأقصى، فقد ترتب على ذلك أن يجعل القدس قبلته الأولى، فإذا انتشر الدين بين العرب، كان هذا دليلا على نضجهم، ومن ثم تكون المكافأة لهم وللرسول الذي هو منهم، أن تحول القبلة إلى الكعبة، وهي ما كان يرضي الرسول ويطلبه من ربه، ودليل على صحة التوجه. من ثم كان اعتراض أهل الكتاب على تحويل القبلة، عدم نضج منهم، لأنهم لو فكروا لعلموا أنه اختبار لهم على صدق إيمانهم، واقتدائهم برسلهم الذين أسلموا، وأن عليهم الدخول في الإسلام بالقبلة النهائية للأديان، وهو ما أكده حديث الله سبحانه عن تحويل القبلة، حيث كان تحويل القبلة تطورا أساسيا في حركة دين الله نحو الاكتمال.
السؤال الرابع: لم كانت سورة الإسراء (١١١آية) أطول من سورة النجم، في حين أن الموقف في المعراج كان أطول من الموقف في الإسراء، وكانت آية الإسراء واحدة وآيات المعراج(١٨آية)؟!
اختلاف حجم السور كان متعلقا بالهدف وآلياته من نزول هاتين السورتين، فسورة الإسراء تهدف إلى هداية أتباع الديانات السماوية إلى استكمال دينهم باتباع الإسلام، وخاصة بني إسرائيل، من خلال تذكيرهم بخروجهم عن كتاب رسولهم موسى عليه السلام وإفسادهم في الأرض وعواقبه، ومؤكدا لهم أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.(آية٩).
وهو ما جعل السورة تستغرق في بيان الله لهم آياته في الليل والنهار، ومسئولية الإنسان عن اعتقاده وعمله: وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه. ثم التذكير بنهاية فساد القرى بفعل مترفيها، وهكذا تسير السورة في طريق الترغيب والترهيب، وكيفية التفضيل. ثم تضع أسسا ثابتة لبناء المجتمع في ظل وحدة الدين، سواء ما يتعلق بالأسرة والتربية، أو ذي القربى والمسكين وابن السبيل، وعدم التبذير، وأدب الرحيل، وعدم الخوف من الإملاق الذي يؤدى إلى قتل الأبناء، وتحريم القتل إلا بالحق، وحق اليتيم، والأمانة في البيع، وعدم الغرور، وغير ذلك من الحكمة. ثم التأكيد على عدم الشرك، والخلط في تقدير الذكور والإناث، وإثبات وحدانية الله بتسبيح كل الكائنات له. وهي كلها مسائل ضرورية لتثبيت وحدة الدين.
السؤال الخامس: لم لم يذكر الله سبحانه في سورة الإسراء عن رحلة الإسراء إلا آية واحدة، ولم طال السياق مرتبطا بأهل الكتاب والكفار؟!
لقد أجابت السورة عن هذا السؤال في الآية ٤٥، حيث عبرت عن جدل غير المصدقين حول الآية الأولي، بعدما انتهت من إحباط ادعاءات أهل الكتاب، وبينت لهم أسس مجتمع التوحيد الذي عليهم أن يلتزموا به، من ثم جاء الدور على كفار مكة، حيث وضعت حدا بين الرسول الكريم وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة في الخطاب، وقد كشف الله سبحانه ظنهم أن السحر قد غلب على الرسول، فكانت رحلة الإسراء، ومن ثم لن يفيد تكرار وصف الرسول عليه السلام للرحلة في القرآن، يقول تعالى: وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا، نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا، انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا.
كما يدرك الله سبحانه أنهم سوف يعمدون إلى تغيير الموضوع للحديث عن الموت والبعث، يقول تعالى: وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا، قل كونوا حجارة أو حديدا، أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا، يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثم إلا قليلا.
هذا التوقف علامة على دعوة المسلمين إلى تجنب الحدة في القول والإقناع، لأن الشيطان ينزغ بينهم، والله أعلم بمن خلق وما خلق، لذلك فهو لا يرسل بالآيات حسب الطلب، لأن الأولين كذبوا بما رأوه منها، رغم أنها تحذير مخيف لهم، من الانسياق وراء الشيطان الذي تعهد بإغوائهم.
السؤال السادس: هل كان في الإسراء فتنة للمسلمين والكفار والرسول على السواء؟
يأتي الرد على هذا السؤال من الآية٧٢وما بعدها، يقول تعالى: ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا، وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا، ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا، إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا، وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا، سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا.
السؤال السابع: لم عادت سورة الإسراء لإثارة موضوع الروح، وما أثير من الجدل حولها؟!
لقد قطعت الآية الأولى الشك باليقين عندما قال تعالى: سبحان الذي أسرى بعبده، وهذا يعني أن الإسراء كان بالروح والجسد، لكن السورة عادت لتثير موضوع الروح حسما للجدل، الذي يمكن أن يمتد إلى الوحي وكيفيته، ثم إلى طبيعة القرآن ذاته وما يحمل من إثبات، حيث يقول تعالى: ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا، ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا، إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا، قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، ولقد صرفنا في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا.
السؤال الثامن: لماذا أوردت السورة مطالب الكفار في مقابل إيمانهم برسالته، وما علاقة ذلك برحلة الإسراء؟!
لقد كشفت السورة أن الكفار طلاب دنيا، استغلوا ما قاله الرسول الكريم عن الإسراء، لكي يقدموا له قائمة بطلبات غير معقولة في مقابل أن يصدقوه ويسلموا، يقول تعالى: وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا.
كل هذه الطلبات كانت ادعاء يريدون من ورائه إحباط قيمة رحلة الإسراء والمعراج، ورغم هذا فقد سايرتهم السورة وألزمتهم الحجة، يقول تعالى: وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا، قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا، قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا.
لقد ختمت السورة بما يؤكد الهدف من رحلة الإسراء، وهو تأكيد وحدة الأديان ووحدانية الله، في قوله تعالى: وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا. صدق الله العظيم.