نحو منهج أمثل في قراءة القصة الشاعرة
الأستاذ الدكتور صبري فوزي أبوحسين
أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد
بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات
بمدينة السادات، وعضو اتحاد كتاب مصر
مقدمة:
في زمن الانكسار حيث تكون المؤامرات أجمع، والضربات أوسع، والغارات أوجع، والعاصفة الهوجاء مستشرية: في حياتنا كلها، وفي علومنا كلها، وفي تراثنا كله، وحيث يكون الكلام عن اللغويين الآخرين أكثر من الكلام عن علمائنا، وحيث يدرس طلاب اللغة العربية بغير طرائقها وبغير أصولها المنتزعة من لحمها ودمها، كما كان الحال في تاريخها كله([1])، وحيث يتكلم البلاغي في الأسلوبية وأخواتها أكثر مما يتكلم في البلاغة العربية وعلومها، وحيث تُجمَع علومنا كلها وتُوضع تحت اسم (العلوم القديمة)، وحيث يُجمَع النقد العربي كله ويُوضع تحت اسم (النقد القديم)، وهو بهذا الاسم في المقررات الجامعية! أي تنكيس للهامات وأي ذل يصيب الجيل؟!([2])“، ومن ثم صرنا أمام ركام متداخل متشعث أو تيه من المناهج والقراءات، منها تهاويم أو أضاليل وافدة غازية مستوردة ومستهلكة، أو مناهج وقراءات تقليدية مكرورة مُمِلَّة مملولة!… وإن التأرجح بين التقليد المنغلق للمنتج العربي التراثي، والنقل الأعمى للمنتج الغربي الوافد، ينم عن غيبوبة فكرية، ويعلن عن انحطاط وتخلف واستلاب؛ فالإنسان لا يمكن أن يعيش بمعزل عن التأثر والتأثير، فإما أن يكون مؤثراً وفاعلاً في حركة التاريخ، وإلا سحقته العجلة، ولفظه العالم خارج السياق، وبهذا يكون ملاذًا لكل فكر تخطته صيرورة الحياة، وقام على أنقاضه فكر جديد .
والمطلوب- علاجًا لهذا الضعف المستشري-حضور التراث العربي الإسلامي في الطلاب والباحثين حضورًا فاعلاً يثير حركة فكرية حية([3])، وشاملة مستوعبة جوانب الحياة والأحياء حوله؛ لنستخرج دواءً قديما لداء جديد([4])“، ويتمثل ذلك في قراءة أصيلة، قراءة ليست مستعيدة للتراث استعادة الضعيف المقلد، وليست قراءة مكررة إياه تكريرًا غثًّا عشوائيًّا، بل إنها قراءة مبدعة إيجابية فاعلة، أسهمت في بناء العقل العربي المعاصر، وأضافت إليه، قراءة تحيي التراث العربي، وتعبئ النفوس بالأمل والطموح، وتشحنها بالثقة والعزة، بعد أن طمرتها ما يسمى المناهج الغربية بالأفكار المبعثرة، وأحدثت فيها انكسارًا وانهزامًا. إن الاطلاع على تراث الإنسانية أمر لا جدال فيه، ولكنه اطلاع الكبار وليس الصغار([5])“. وشتان بين الاطلاعين: اطلاع الكبار المبني على حوار ذكي مبدع ناقد مضيف، واطلاع الصغار المعتمد على نقل وتقليد واستيراد بلا وعي أو عقل أو هوية!
ولعل (القصة الشاعرة(Alkessa Alsha’era)) ومبدعيها وقارئيها وناقديها والمتثاقفين فيها، يمثلون بذرة خير وباكورة أمل في هذا التوجه العروبي الأصيل؛ مما يدفعنا دفعَا إلى درسها وبحثها والإعلام بها، والإعلام عنها، ومحاولة تيسير إيصالها إلى القطاع الأكبر من المتلقين: محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا.من خلال منهج قرائي عربي أصيل حديث…
ومن ثم كان هذا البحث الموسوم بـ:(نحو منهج أمثل في قراءة القصة الشاعرة) الذي يتغيا تذليل العقبة الأولى أمام المطلع على هذا الفن، وهي كيفية قراءته لتذوقه ومقاربته، لاسيما وهو فن معروف لدى العامة بأن الغموض والتكثيف والترميز من البنى الأساسية فيه!
ويتمثل هذا المنهج في ضرورة توافر ركائز عامة قبل قراءة (القصة الشاعرة)، ثم حتمية التسلح بآليات خاصة أثناء عملية قراءتها.
ولا أدعي أن هذا المنهج هو المنهج الأكمل الصارم في القراءة، لكنه بداية يُبنَى عليها، ويُؤسَّس من خلالها، إنه منهج يحاول أن يتكامل عن طريق حوار بنَّاء فيه أخذ ورد، وحذف وإضافة، وتغيير وتطوير من قبل الجميع في رحاب (القصة الشاعرة): مبدعين وقارئين ومتذوقين ومؤولين…
أولاً: مدخل إلى المنهج:
إن (فن القصة الشاعرة(Alkessa Alsha’era)) لدى المتلقين من نقاد وعشاق، ونخبة وعامة، ومتخصصين ومثقفين، وأصدقاء وأعداء، يتأرجح وصف الحالة الشكلية والدلالية له بين ثنائيتين أحدثتا جدلاً واسعًا بين القبول والرفض في مدونات النقد الأدبي قديمًا وحديثًا، هما التعقيد والغموض:
أما (التعقيد المذموم المنفر) فهو الوصف المعتمد عند القراء العَجِلين للقصة الشاعرة، وعند المناوئين إياها، ذلك التعقيد المذموم على حد قول الإمام عبدالقاهر(ت471ه)الذي:” أحوجك إلى فكر زائد على المقدار الذي يجب في مثله، وكدَّك بسوء الدلالة، وأودع المعنى لك في قالب غير مستوٍ، ولا مُمَلَّس، بل خشن مُضرَّس، حتى إذا رُمت إخراجه منك عسُر عليك، وإذا خرج خرج مشوهَ الصورة، ناقص الحسن([6])“!
أما الغموض اللذيذ الموحي فهو عند القراء العاشقين (القصة الشاعرة)، المقبلين عليها، المتسربلين بمفاهيمها واصطلاحاتها وتقنياتها، والمعاشرين أنماذج عديدة متنوعة لها، إنه الغموض الذي ليس يصعب فتح أقفاله وتَخَطِّي أسواره ليصل إلينا، بل هو السمة الطبيعية الناجمة عن آلية عمل (القصة الشاعرة) العربية المبينة إبانة فنية خاصة، بعناصرها المكونة لها مع تضافر قوات عدة من الشعور والروح والعقل والثقافة، متستِّرة وراء اللحظة الفنية، إنه غموض يشدنا إلى حوار مع هذا الفن، ويستفزنا بمشاعره وفكره وعباراته وصوره وموسيقاه ودرامياته، وما فيه من ثراء إبداعي، حيث يكون حمَّال أوجه، متعدد الدلالات، قابل لكثير كثير من القراءات والمقاربات والتأويلات؛ مما يخلق نوعًا من اللذة الحسية والذهنية تجاه خبايا هذا الفن وغير المتوقع أو غير المنتظر في صوره وجمالياته الفنية. إن فن (القصة الشاعرة) هو فن معنى المعنى، أو المعنى الثاني الذي نعته الإمام عبدالقاهر قائلاً:” ضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالةً ثانية تصل بها إلى الغرض… أن تقول (المعنى) و(معنى المعنى)، تعني (بالمعنى) المفهوم من ظاهر اللفظ، والذي تصل إليه بغير واسطة، و(بمعنى المعنى) أن تعقل من اللفظ معنًى، ثم يُفضي بك ذلك المعنى إلى معنًى آخرَ ([7])“.
وهذه الحال القرائية العالية تخلق نوعًا من التواصل واللذة والدهشة والألفة بين النص والقارئ الذي يتلقى فن (القصة الشاعرة)، ويشعر أنه بحاجة إليه، مهما كان غامضًا؛ ليطفئ من خلاله لهيب مشاعره، وطموحه الذهني.ومن ثم يكون الغموض اللذيذ الموحي ذا دلالة جمالية إذ يتحول بموجبها إلى تقنية فنية، مرتبطة بطبيعة فن (القصة الشاعرة)، وبغاية الفنان المبدع (محمد الشحات محمد ومبدعي فنه)؛ مما يجعل المتلقي هذا العمل الفني بحاجة حسية وفكرية ماسة من أجل فك رموز العمل الفني، وتفسير دلالاته، وتحديد رؤاه؛ لكي يقف المتلقي على طبيعة العمل الفني وجوهره، وهذا هو سر النص الإبداعي، وجوهر وجوده، وسبب خلوده..
وعندما ننظر إلى موقف الجانب الغربي من الكرة الأرضية من قضية الغموض والتعقيد في الإبداع نجد الناقد والشاعر الإنجليزي وليام إمبسون (William Empson – في كتابه المعروف سبعة أنماط من الغموض (Seven Types of Ambiguity) الذي نشره عام 1930م، يُحضر مصطلح الغموض في النقد المعاصر، ويعرّفه بقوله: كل ما يسمح لعدد من ردود الفعل الاختيارية إزاء قطعة لغوية واحدة”. وبناء على ذلك، فقد حدد أنماط الغموض في سبعة أنواع. وأرى أن الغموض في (القصة الشاعرة) يتمثل في الأنماط الثلاثة الأولى، وهي:
– (النوع الأول من الغموض) يحدث عندما يتجسد في النص عدد من التفاصيل التي تتحدث عن دلالات متعددة في الوقت نفسه، ويتمثل ذلك في الاستعارة البعيدة أو الإيقاع أو الوزن.
–(النوع الثاني) يتمثل في وجود تركيب نحوي في النص يسمح بتعدد التأويلات.
–(النوع الثالث)، يحدث في النص عندما يتوفر فيه عدد من المفردات أو التراكيب ذات الدلالات المشتركة([8]).أما الأنماط الأربعة الباقية فهي تخص التعقيد المذموم المنفر، الذي يجعل الوقوف على الدلالة أو الدلالات مستحيلاً، فيتحول النص إلى أُحجية أو لُغز أو مُعَمًّى، على النحو الذي نجده عن السرياليين والعبثيين والخرافيين الشواذ في كل عصر ومصر وحضارة!
.هيعر إلى الجانب الغربي من الكرة الأرضية دبي قديمًا وحديثًا، هماومصطلحاتها وتقنياتها،
وقد صار مسلمًا بالغموض اللذيذ المُوحي في النقد الأدبي الحديث، يقول الدكتور محمد غنيمي هلال: إن “الصورة التعبيرية الإيحائية اقوى فنيًّا من الصورة الوصفية المباشرة، إذ إن للإيحاء فضلاً لا ينكر على التصريح([9])“.حيث يكون في النص ضرب من الرمز والوحي والكناية والتعريض والإيماء، يَشي بالمعنى ولا يشرحه، ولا يَفطِن له إلا من غلغلَ الفكرَ وأدَقَّ النظرَ، ومَن يرجع من طبيعته إلى ألمعيته، يَقوَى معها على الغامض، ويَصلُ بها إلى الخَفِيِّ..
إن (القصة الشاعرة) إذن تصون البلاغة الأدبية وترفعها من الابتذال الهاوي أو التعقيد المنفر، فلم تطلب الإغماض إلا رغبة في الإيضاح، ولكنه ذلك الإيضاح الذي يقع من المرء موقعًا لطيفًا ممتعًا، يشعر معه بقيمة الفكر، وروعة الخيال عن طريق الغموض اللذيذ الموحي، فمناط الجمال البلاغي الأدبي هو ذلك التلهف الظامئ للمعرفة والمعاني الثواني والطلب لها، أو الاشتياق إليها، ومعاناة الحنين إليها.
وهذه الخصوصية الفنية لـ(فن القصة الشاعرة) تستدعي نوعًا خاصًّا من(القراءة الأدبيةLiterary reading)، التي هي منهج نقديّ معاصر، أنتَجتْه نظريَّةُ القراءة والتلقي الحديثة، والتي هي من إفرازات ما بعد البنيوية، والقراءة تتنوع بتنوع القارئ والمقروء و وسيلة القراءة. والقراءة في (القصة الشاعرة) مقاربة موضوعاتية تأويلية، تنطلق من الشكل إلى المضمون، ومن المضمون إلى الشكل؛ فتكون فكريةً وشكليةً، فكل منهما تعين الأخرى وتضيف إليها، والأبحاث الدائرة في (القصة الشاعرة) حتى الآن -فيما أعلم- إما فكرية بكمٍّ قليل، أو شكلية بكمٍّ كبير، وندر أن توجد قراءة تجمع بين عنصري الإبداع الأساسيين: الشكل والمضمون معًا!
و(القصة الشاعرة(Alkessa Alsha’era)) نسج كتابي إيقاعي سردي من الكلمات والعبارات المُرتَّبة ترتيبًا يهيئ معنًى، يظهر عن طريق مجموعة من العلامات، ومن ثم فهي فن كتابي يجمع بين الدلالة و التدليل، ويقيم معنًى أو معانيَ، ويضمِّن مرجعية، ويُحيل إلى العالم الخارجي بما فيه من أشياء وأشخاص ووضعيات وما إلى ذلك. ولذا فالعبء في فك شفرة (القصة الشاعرة) وفهم رسالتها، وفي تحقيق مرجعيتها، يقع كله على المُستقبِل أي على القارئ، القارئ ذي المؤهلات الخاصة، وكلما زادت مؤهلاته عاطفيًّا وثقافيًّا، زاد قربه من القصة الشاعرة، وتعمق تأويله إياها، ومن ثم يحتاج النص المكتوب إلى قارئ ضمني، وقارئ خاص، كما تدخل في الاعتبار صياغة المقروء، ونوعية المكتوب، و الوظيفة المتغياة، والكيفية الملائمة.
فليست (القصة الشاعرة) ذات كلام خطي مباشر، يسهل إدراك مرجعياته، وليست مرجعيتها سطحيةً جزئيةً متهافتةً، بمعنى أن المتلقي قارئًا أو سامعًا يستطيع فورًا أن يقيم في ذهنه تصورًا واضحًا لما يُحيل عليه، فتتحقق الرسالة أي يتم الإبلاغ والتواصل، ويستهلك النص المستعمل فيُنسَى ويَفنَى، على النحو الذي نعرفه عن الأدب المباشر الخطابي الوعظي، والأدب الشكلي الزحرفي المتكلف! بل (القصة الشاعرة) ذات كلام معمق، مغلف بجو استعاري وكنائي وفني عجيب، والقارئ الخاص هو الذي يتمم إنجاز النص ويعطيه تحققه الفعلي. وهذا ما يقرره ج سارتر بقوله: ” إن الفعل الإبداعي لحظة غير مكتملة في العمل الأدبي، لأن عملية الكتابة تفترض عملية القراءة كتلازم جدلي، وهذان الفعلان المرتبطان فاعلين مختلفين هما المؤلف والقارئ ([10])“؛ فـ(القصة الشاعرة) ينتجها المبدع بنائيًّا، ويُفعِّلها القارئ تأويليًّا، من خلال تجاوز الظاهر فيها إلى الباطن الذي يندس بين ثناياها وعبر فضاءاتها؛ فيصير القارئ صِنو المبدع في معرفة دقائق الفن وحقائقه، ومن ثم فعلى القارئ أن يفعل في التأويل مثلما فعل المبدع في التكوين، و التأويل يتطور بتطور فعل القراءة، ومهما تكن الإجراءات أو الخطوات التي يتبعها القارئ؛ فهو يستهدف استخلاص المعنى الذي هو الخطوة الأولى نحو الفهم، وبناء المرجعية الذي هو الخطوة الأولى للتفسير والتراوح بين الفهم والتفسير هو الحركة الدائبة للتأويل في جميع الأوساط والمجالات.
وإذا كان من شأن المؤول في لحظة بعينها أو في موقف بعينه أن « يُسَيِّجَ » النص من أجل الوصول إلى معناه أو إلى معنى فيه، فإن من شأنه كذلك أن يتابع حركة انفتاحه وأن يجعل من الحوار النصي، ومن الحوار حول النص جزءًا لا يتجزأ من الإبداع حاضرًا واستقبالاً. وعلى العموم فالتأويل هو البحث المستمر عن أمثل شكل للفهم والاستيعاب، والتفاعل الخلاق بين القصة الشاعرة والقارئ، بين ما هو قائم فيها وما هو متوقع حين قراءتها ومقاربتها، على اعتبار أن كل فهم يفتح طريقًا إلى التساؤل وإلى تنشيط الفكر!
ثانيًا:ركائز عامة في قراءة القصة الشاعرة:
تُوجد أربعة أنماط من القراءة لأربعة أنواع من النصوص الأدبية، تُوجز لنا الممارسات النقدية بطريقة إجمالية([11])، وهي: قراءة مفتوحة ونص مفتوح. وهذه أعلى الممارسات النقدية وأنجحها وأمتعها، وقراءة مفتوحة ونص مغلق، وذلك حين تكون القراءة أعمق من المقروء، الذي ليس له إلا فهم واحد، وقراءة مغلقة ونص مفتوح وذلك حين تكون القراءة سطحية ويكون النص عاليًا، وقراءة مغلقة ونص مغلق، وذلك حين تكون القراءة ويكون المقروء محدودًا جزئيًّا .وهذه أدنى الممارسات!
ولعلنا بعد تعرف فن (القصة الشاعرة(Alkessa Alsha’era)) ومطالعة أنماذجه في مجاميعه المطبوعة يمكننا أن نجعل القراءة في (القصة الشاعرة) من النمط الأول: قراءة مفتوحة ونص مفتوح، إذا قام بالقراءة مؤهل بأدوات القراءة: إبداعيًّا، علميًّا، وثقافيًّا؛ فـ(القصة الشاعرة) أبدعت لتكون نصًّا مفتوحًا فلابد لها من قراءة مفتوحة. إن قراءة (القصة الشاعرة) لا تكتفي بعملية الوصف الظاهري الداخلي للقصة الشاعرة، كما هو شأن المنهج البنيوي اللساني والمنهج السيميوطيقي، وإنما تتعدى ذلك الوصف إلى التفسير والتأويل كما هو شان المنهج النفسي، ومنهج البنيوية التكوينية، و المنهج التأويلي(الهرمونيتيقي)…
وتعتمد القراءة في (القصة الشاعرة) على مجموعة من الركائز النظرية العامة التي ينبغي التسلح بها في القارئ قبل القراءة، ويمكن حصرها في المبادئ التنظيمية التالية:
- ركيزة روحية نفسية:
وتتمثل في أن تكون قراءة أنماذج (القصة الشاعرة) معتمدة على خلال روحية ونفسية خاصة مناسبة للغايات المنشودة منها؛ فلن تستقيم القراءة الأدبية للقصة الشاعرة، ولن تكون قيِّمة إلا بمزيد من الجهد والصبر والمكابدة وطول الانقطاع، والإخلاص في طلب العلم والتفرغ له، وعمقِ الاتصال بالتراث العربي والعالمي، ذلك الذي أنتجته عقولٌ صبرت وصابرت وكابدت وثابرت، في سبيل بناء المعرفة ونموها، و القراءة الحقّة لا تكون إلا بالاندماج في هذا الفن فهمًا وتحليلاً وتمثّلاً و وعيًا قادرًا؛ فالمتكئ على أريكته سيكون سطحيًّا ملولاً، وسينفر من هذا الفن، فعلي القارئ أن يغرسَ نفسه كلَّها، ووقته كلَّه، وجهده كلَّه، وأن يصبرها في قراءة خرائد القصة الشاعرة.
- ركيزة عقلية علمية:
وتتمثل في أن تكون القراءة أصيلة متكاملة: بأن يكون القارئ عربيًّا: قلبًا وهمًّا وعقلاً ولسانًا، يمتلك علوم العربية الأساسية من معجم، وصرف، ونحو، وعروض، وبلاغة، ويتسلح باصطلاحات النقد الأدبي في فني الشعر التفعيلي الحر والقصة القصيرة ؛ فالنظر الشامل القصة الشاعرة نظر يتتبع الصلات والوشائج التي تقِفُك على تشاجر جمل النص وأحداثه وأفكاره، وكونها تُسقى بماء واحد؛ وتلتقي لتقدم دلالات عدة؛ حتى يكون لدى القارئ تكامل في الدرس والفهم والتدقيق والتمحيص؛ فالقراءة الشاملة المتكاملة المتماسكة الحية هي التي تصنع العالم والباحث والناقد، والقارئ المثالي النموذجي؛ فما جزأنا، ومزق عقولنا، وشتت نفوسنا إلا تلك القراءات المجزأة المبعثرة التي هي أقرب إلى الرجيع والنفايات، فلا تبني ولا تنمي، ولا تسمن ولا تغني من جوع ثقافي وعلمي أصيل، ومن ثم تكون هذه القراءات الرديئة السبب في النفور من كل فن جديد كفن القصة الشاعرة.
- ركيزة ثقافية:
وتتمثل في أن يكون القارئ في (القصة الشاعرة) مثقفًا ثقافة موسوعية؛ فتعدد الثقافات مطلوب، والإطلالة على ثقافة الآخرين مهمة، ولا تقتصر على ثقافات أوروبا، بل تشمل كل ما يُحتاج له، بغض النظر عن كونها ثقافة عربية أو غيرها، ويعد هذا إشباعًا لرغبة المثقف. أمّا قراءة الملخصات من الثقافات المختلفة، وخلط هذا بذاك, كبائع الأعشاب المقوية؛ فهذا من اللغو والعبث والشعبذة، عند أصحاب العقول الضعيفة المستركَّة التي تتقن التمثيل أكثر مما تتقن المعرفة، وكل ما في جُعبتها هذه المقتبسات غير المنظمة وغير المتلائمة، والأخلاط المبتسرة والغامضة، استُلبت من هنا وهناك، والإصرار على أن تكون هذه بديلاً لفكر حي منظم متكامل متشارب، تلاحقت أجيال العلماء على تصفيته وصقله وبسطه وإزهاره([12])! فينبغي أن تكون القراءة عربية صافية مهجنة بالجديد الطريف المُجدي.
- ركيزة شخصية:
وتتمثل في أن يكون القارئ مستقلاًّ هادفًا، وتكون القراءة مُجدِّدة لا مًستهلكة؛ فالتقليد والاجتزاء والاجترار في القراءة مرفوض؛ فمن الحقائق المقررة أنّ القراءة التقليدية تضر النص البديع، فليس لنا في القصة الشاعرة إلّا طريقٌ واحدٌ, وهو أنْ نُعْمِلَ عقولَنا وجهدنا وذوقنا في هذه القصص الشاعرة, وأنْ نعمل على أن نستخرجَ مضموناتِها المضمراتِ في كلماتها وتعبيراتها, أو التي هي مندسّةٌ مُبْهَمةٌ في نفوس كاتبيها, غمغمتْ بها آثارُهم غمغمةً تائهةً, لا يلتقطها إلا القارئ الدَّرِب … وأنّه لن يكون هناك عمق قرائي إلّا إذا كان الامتدادُ امتدادًا أصيلاً تجديديًّا, يتناسلُ بعضُهُ من بعض, كما يتناسلُ جيلٌ من جيل, ولنْ يتمَّ هذا إلا إذا دارتْ عقولُنا وقلوبُنا في هذا الفكر الذي بين أيدينا, ودارتْ به, وعانَتْ تحليلَهُ والاستنباطَ منه؛ فالقصة الشاعرة تتوهج بتوهج العقول التي تلابسها وتعايشها وتفاتشها، وتنطفئ بانطفاء تلك العقول وتقليديتها. وهذا التوهج هو الذي يحولها إلى فن خصب، ينبت معرفة جديدة وأفكارًا جديدة؛ فالشرط الأساس في تهيئة العقول للإبداع هو التمثل الناضج المستنير للقصص الشاعرة الرائعة؛ فالمقلد لا يفلح ولا ينتج شيئًا ذا بال أو نفع.. فلابد من إعمال العقل، وتدقيق الفكر، والمُكافحة والمُكابدة للخروج من رِبقَة التعمية والإبهام والإغلاق إلى نور العِلم والتأويل، و الطريق اللاحب في المُناقشة الجدية الجادة المستقلة الهادفة للقصص الشاعرة.
ثالثًا: إجراءات خاصة في قراءة القصة الشاعرة:
ينبغي على فاعل القراءة في (القصة الشاعرة) أن يراعي مجموعة من الخطوات أو الإجراءات الخاصة الضرورية أثناء ممارسة عمليات: التحليل والتذوق والتأويل والتقييم والتقويم والتوجيه: شكلاً ومضمونًا، من أجل السعى إلى تأسيس المبدع وتطويره؛ حتى نصل إلى المثل الفني الأعلى المبتغى المنشود في (القصة الشاعرة) إبداعًا وقراءة. وهذه الإجراءات الخاصة تتمثل في:
- المعرفة النظرية للقصة الشاعرة
وذلك بأن يمتلك القارئ التأصيل الاصطلاحي لفن (القصة الشاعرة)، ويتعمق في تعرف الخصائص الفارقة فيها؛ فالقصة الشاعرة(Alkessa Alsha’era) من المصطلحات التى حظيت بجدالات نقدية حادة. وعندما يقرأ الباحث الرؤى النظرية عن القصة الشاعرة في مظانِّها المطبوعة ورقيًّا وإلكترونيًّا، ويطالع أنماذج إبداعية على نسقها مطالعة تدبر، ستثمر توصيفًا خاصًّا بها، ويمكننا إيجازه في أن هذا المصطلح تركيب وصفي، وُصفت فيه القصة بصفة صنوها الأدبي: الشعر، وقد وصفت باسم الفاعل(الشاعرة)؛ تمييزًا لها عن سابقها من فنون، وبخاصة الشعر القصصي(Fiction poetry) والقصة الشعرية(Poetic story)، وبيانًا للغاية من هذا الفن، وهو الجمع الدامج بين جماليات هذين الفنين الآسرين: القصة القصيرة، والشعر التفعيلي، والمستند إلى جماليات أخرى؛ فلذتها من كونها قصًّا وكونها شاعرة في آن واحد، وهذا منبع الجدة في القصة الشاعرة؛ ففكرتها جديدة وغير مسبوقة، على الرغم من أنها مكونة من مادتين كانتا موجودتين قبلها، وهما القصة القصيرة والشعر ولكن كان كل منهما منفصلاً وحده. إننا لو تأملنا تكوين (القصة الشاعرة) من مادتي القصة والشعر نجد أنها تحافظ علي موروثيهما الأصيل معًا وتطورهما معًا.. بل وتنادي على كل ذي موهبة كتابية أن يكون شموليًّا, أن يكون شاعرًا وقاصًّا في الوقت نفسه يحيط علمًا بمكونات كل منهما .. إن جمال وكمال القصة الشاعرة أنها لا تمدنا بشعر فقط على حدة ولا بنثر فقط على حدة, بل بالاثنين، تمتعنا في إبداع رائق وراق؛ لأنها قد جمعت الفنيين معًا وطورتهما وغيرت من شكلهما وموضوعهما معًا, وكأننا نعيش بهذه التجربة تجربتين؛ لأن الشكل شكل (قصة قصيرة جدًّا) تمامًا, ولكن يفاجأ من يبدأ قراءتها أنها (شاعرة) … فالشعر هو أسلوب بنائها الداخلي وسر إيقاعها الخفي، و الحكي المكثف هو شكلها وسبب جذبها …ولذلك يقول ملهمها ومبدعها-محمد الشحات محمد-: “كنت أقرؤها على الشعراء على أنها شعر..فيعجبون بها ,, وأقرؤها على كتّب القصة فيعتبرونها قصة … لا يستنكرها هؤلاء ولا هؤلاء …. إلى أن هداني الله لمسماها وأهداه لي في الرؤيا ,,, فكانت القصة الشاعرة” .
وإن القصة الشاعرة(Alkessa Alsha’era) هي ذلكم الفن الذي يعد تجديدًا أدبيًّا مصريًّا خالصًا من أية تأثرات خارجية: غربية أو شرقية، ويُقصَد به عند مؤسِّسه المصري -المبدع محمد الشحات محمد- أنه “قص إيقاعي تدويري وفقَ نظام التفعيلة، مؤسَّسة على التكثيف والرمز والمرجعيات الثقافية” أو أنها “قص إيقاعي تدويري مكثف لأحداث ترميزية مؤسسة على المرجعيات الثقافية وطاقات إبداعية تشكيلية ذات وحدة وجدانية لرموز متباينة في فضاءات حتمية المغايرة، ترفض سلطة القوالب الموروثة” ..
أما عن الخصائص الفارقة بين القصة الشاعرة وبين القريبات منها، فإننا بقراءة النماذج الإبداعية، وتأمل الأبحاث التنظيرية المقدمة في المؤتمرات العلمية العشرة، وفي مقال المؤسس: (القصة الشاعرة بين المصطلح والواقع)، يمكننا أن نحدد الخصائص الفنية لهذا الفن في الآتي:– القَصْدِية الإبداعية تعد القَصْدِية الإبداعية من شرائط هذا الفن الأولى، و مُهِمِّة لتفرُّد هذا الجنس الأدبي وتحقّقه، ويُقصَد بها قصدية المبدع إلى القصِّ والشعر معًا من أول النص حتى نهايته، فكل ما في النص مقصودٌ ذكرُه، ومقصود ترتيبُه، ومقصود كتابتُه بطريقة مُعيَّنة، وذلك لأداء وظيفة درامية، ووظيفة إيقاعية، ووظيفة ثقافية، مضمرة، ومبطنة.– الكتابية:
(القصة الشاعرة) تختارُ قالبها، وتفرض شكلها الكتابي (رأسيًّا، أفقيًّا، دائريًّا) بانزياحات إملائية، وانحرافات في نمط الكتابة، وتداخل الدلالات وخصوبتها سواء بالتشكيل البصري، أو بانفصال/ اتصال/ تسلسل المتواليات النصية والوسائط المختارة ، والتصميم التشكيلي مع النص المكتوب؛ مما يدفع إلى الموسوعية والعصف الذهني.أما البناء ، فيقوم على امتداد النفَس المتصل بالحدث؛ مما يساعد على تدفق النص كتلة واحدة، تتمرد على الشكل الهرمي التقليدي بأحداث محتشدة وعاطفة مشحونة، وذلك من خلال التكثيف والإيجاز الموغلِ في الرمز؛ فتجعل الكاتب أكثر تحديًا للتنفيس عما يكنه تجاه الواقع رمزًا وإيقاعًا. فالقصة الشاعرة فن كتابي في المقام الأول، يحبذ أن تُقرأ كما كتبها مبدعها؛ لأن طريقة الكتابة تمثل إيقاعًا بصريًّا دالاًّ.
وأحبذ أن نقول: (دفتر القصة الشاعرة)، على الكتاب الذي يحتوي مجموعة من القصص الشاعرة، بدلاً من لفظة (ديوان) الخاصة بفن الشعر، أو لفظة (مجموعة) الخاصة بفن القصة القصيرة!
– الصياغة العروضية:
النص المنتمي إلى (القصة الشاعرة) ينبغي أن يكون سليمًا عروضيًّا، خاليًا من أية محاذير خاصة بالوزن، فلا يقع القاص الشاعر في كسر معيب أو تزحيف ثقيل، أو إعلال قبيح. وعليه أن يلتزم نسق الشعر التفعيلي السطري، وهو ذلك الشعر المبني على أن السطر -لا الشطر ولا البيت – هو بنية النص ووحدته الأولى، وفيه تحرر من التقيد الصارم بعدد التفاعيل أو شكلها أو حالة نهاية السطر(الضرب)، وتحرر – كذلك – من نظام واحد صارم للقوافي؛ فالقصة الشاعرة ليست بيتية (عمودية)، ولا تُعنَى بالروي.
وأسلوب التدوير الإيقاعي: تقنية عروضية ضرورية في بناء القصة الشاعرة؛ حيث تجيء مكونة من أسطر مترابطة متصلة ببعضها، عن طريق توزع التفعلية على الكلمات والأسطر، فكل كلماتها تمتزج لبناء التفعيلات، وهذا حقق وحدة إيقاعية ولغوية بارزة، حتى إننا نقرؤها متتابعةً متلاحقةً حتى نقف على القافية؛ إذ لا يُستطاع الوقوف في القراءة إلا عند السطر الأخير. فليس بالنص تفعيلة مكونة من كلمة مستقلة غالبًا. كما يعمد القاص الشاعر إلى توظيف أسلوب التضمين للربط بين جمل نصه وأسطره ربطًا نحويًّا وبلاغيًّا، من خلال جملة أساليب يختارها، تتوزع خلال أعطاف النص كله بدءًا ووسطًا وختامًا.ومن هنا تظهر أهمية الإيقاع وضرورة العناية في فن القصة الشاعرة، وحتمية جعله موسيقا تصويرية مناسبة للبنية الدرامية الموجودة بها! ولذا فالقصة الشاعرة تبرهن على أن التفعيلة لا تمثل قيدًا أمام مساحة الحرية والتعبير التصويري والترميزي المكثف؛ فبالتفعيلة (عبر القصة الشاعرة) يمكن كتابة نص ما بعد حداثي شعرًا وقصًّا في آنٍ واحد.- التكثيف السردي:التكثيف السردي في(القصة الشاعرة) يعني وحدة العمل الفني واتساق تصميمه: شكلًا، وأسلوبًا، وتيمة، ووحدة عناصر السرد من أحداث وشخوص وزمان ومكان ولغة، مع سَبْكها وحَبْكها بصورة بنائية محكمة، فتأتي متسقة متسلسلة متراتبة، كل عنصر يؤدي إلى الآخر ويتصل به في تناغم دال موح مثير! وقد يحقق المبدع هذا التكثيف السردي من خلال تفاعل عدد من العناصر المتنافرة أو تعاقب مجموعة من المفارقات أو جدل العديد من النقائض أو تراكم أشتات من الذكريات، أو نتف التأملات، التي تشبه الشظايا المتناثرة التي تبدو لأول وهلة أن لا رابط بينها، أو تداخل عدد من أشكال الكتابة القصيرة المختلفة وتفاعلها… إلى غير ذلك من الصيغ البنائية التي يبدو أنها تفتقر إلى البناء التقليدي المحكم، ولكنها تخلق انطباعًا وأثرًا جماليًّا واحدًا… – الدرامية:تمثل القصة الشاعرة فضاء لتقاطع العديد من الدلالات والرموز، تتشكل فيه الأحداث بطريقة فنية معقدة تجمع بين التداخل والتشابك وتعدد الأنسجة، فلا تخضع لترتيب زمني أو منطق تنامي الأحداث وتراكمها بقدر ما تتواتر متداعية؛ فالحدث فيها إيحائي رمزي مؤشر إليه وليس مباشرًا،وفيه تدوير قصصي ومجازي، وتعتمد بناءً حدَثيًّا يقوم على التهشيم والتنوع لإحداث جمالية وذائقة بديلة عما يتوقع القارئ لمشاركته كفاعلٍ ومنفعلٍ له مخزونٌ ثقافي يحتمي بالأساطير والتاريخ. وتلزم (القصة الشاعرة) مبدعها أن يكون القصُّ متبطنًا في العمل الأدبي من أوّله إلى آخره ، وليس مجرد الاستفادة بالدراما. كما ينبغي توافر ما يسمى التدوير القصصي، بحيث يكون النص كله كتلة سردية ودفقة حكائية واحدة، لا قلق فيها ولا نبو، ولا استطراد ولا لغو ولا حشو، فكل لفظ بل حرف له دوره في بناء القصة الشاعرة!
- الترميز:
الترميز (Coding theory) مصطلح مستعمل في تخصصات علمية متنوعة مثل المعلومات، والهندسة الكهربائية، والرياضيات، واللغويات، و علم الحاسوب، وبعض التخصصات تتعامل مع الترميز على أنه نظرية، ويقصد به في (القصة الشاعرة) توظيف كل ما في النص من مفردات وتعابير؛ لضغط البيانات وتشفير المعلومات، وتكثيف الأحداث؛ لتحقيق الغموض الفني اللذيذ الذي هو غاية كبرى من غايات (القصة الشاعرة).
– الثقافية:المرجعية الثقافية ضرورة أساسية في بناء القصة الشاعرة، حيث يستلهم القاص الشاعر حقائق أو رؤى أو أخبار أو أعلام لها حضور في مجالات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو نفسية أو دينية، أو أسطورية، شريطة أن تكون باطنية عميقة خفية، وفي ذلك جذب وتأثير وتشويق وسحر وأسر… إن (القصة الشاعرة) جنس أدبي مستقل، له خصائصه الفنية البارزة، التي يجب أن يقرأ من خلالها. ومن الخطأ أن نقرأ (القصة الشاعرة) بمقاييس الشعر الحر فقط أو مقاييس القصة القصيرة فقط!
- القراءة الشكلية للقصة الشاعرة:
القراءة الشكلية للقصة الشاعرة تتمثل في أسئلة طريقة الصياغة والتعبير الفني يطرحها النص في عقل القارئ، أمام لغته أصواتًا ومفردات، وفي أسلوبه وتعابيره وتصاويره، وفي عروضه وموسيقاه، ومدى أثر تلك العناصر في الرؤية. ولكل عنصر من هذه العناصر معايير أساسية في تحليله وتقييمه؛ ففي تحليل عنصر (اللغة) نجد معايير: تصنيف الأصوات من حيث مخارجها وصفاتها، ونسبة شيوعها، وأثر ذلك دلاليًّا وإيقاعيًّا، والوقوف أمام الألفاظ الغريبة، ومعرفة ما يريد منها المبدع وسبب إيثاره إياها، ومدى تحقق الدقة، والإيحاء، والاشتقاق، والتناسب للموضوع والأحداث، ثم التلاؤم مع سابقه ولاحقه، في اختيار المفردات، وبناء المعجم اللغوي لنص (القصة الشاعرة)، بناءً يحقق الغايتين الكُبْرَيَيْن منها: المتعة الشعرية والجاذبية السردية.
أما بالنسبة إلى معايير عنصر (العبارة أو الأسلوب) في القصة الشاعرة فتتمثل في نوع العبارة فعلية أو اسمية، خبرًا أو إنشاءً، ونوع الخبر أو الإنشاء، والاستعمال النحوي المهيمن ودلالته، والإكثارُ مِن التَوقُّفِ أمامَ تعابير النصِّ وقراءتهِ جيدًا والوقوفِ على معانيهِ بدقةٍ؛ لأنَّ الإعرابَ فرعُ المعنى، وخلال مرحلة القراءة -كذلك- ينبغي أن تلتقط الجمل، أو الفقرات، التي يمكن أن نجد فيها الملامح الأصيلة، والأشكال ذات المغزى، والعبارات المهمة الأشد ارتباطًا بالموضوع؛ لأن قراءة النص تتجاوز الحروف والألفاظ إلى ما يستتر خلفها من مشاعر وأحاسيس وحياة، والقارئ المتأني الفاهم يستطيع أن يفك ألغازها، وأن يكتشف العالم الفكري للقصة الشاعرة كاملًا.([13]).
وخلال دراسة عنصر (الصورة الفنية) يتناول القارئ كمَّها، وألفاظها المكونة لها، والبيئة التي استمدت منها، وأنماطها المعبر عنها من تشبيه ومجاز مرسل واستعارة وكناية، كما يتناول قيمها الفنية في كل نمط منها، وإيثار الأديب لنمط منها دون آخر.
وفي عنصر (الموسيقا) يقف القارئ على التفعيلة البانية للنص، وصور عرضها، وكمِّ كل صورة، والإيقاع في الأصوات والمفردات والجمل، وعلائق الأصوات والمعاني والصور، وأسلوب التدوير، وأسلوب التضمين، ونوع القوافي وحالة نهايات الأسطر! هذا إضافة إلى مدى تحقق الموسيقا الداخلية، من خلال اختيار الكلمات وترتيبها، والمواءمة بين الكلمات والمعاني التي تدل عليها، والتقنيات البديعية اللفظية المحققة للإيقاع، مثل: التصريع، والتنويع، والازدواج، والتقسيم، والجناس، والسجع… وغيرها.
كما ينبغي للقارئ أن يحاكم القصة الشاعرة بمقاييس عروض الشعر الحر عند مُنظِّرته الأولى (نازك الملائكة)، وعند العروضيين المعاصرين، لاسيما الدكتور محمود السمان في كتابه(العروض الجديد)، والدكتور شعبان صلاح في كتابه(موسيقى الشعر بين الاتباع والابتداع)، وغيرهما.
كما يعمل القارئ في القصة الشاعرة على استخلاص بنيات (القصة الشاعرة) العنوانية المدارية تفكيكًا وتشريحًا وتحليلاً، عبر عمليات التجميع المعجمي والإحصاء الدلالي لكل القيم والسمات المعنوية المهيمنة التي تتحكم في البنى المضمونية للنصوص الإبداعية، وعبر تفكيك النص إلى حقول معجمية وجداول دلالية إحصائية لمعرفة الكلمات والعبارات والصور المتكررة في النص أو العمل الإبداعي اطرادًا وتواترًا. ورصد كل الكلمات المفاتيح، والصور المُلِحَّة، والعلامات اللغوية البارزة، والرموز الموحية و قراءتها إحصائيًّا وتأويليًّا.
وتكمن نجاعة قراءة (القصة الشاعرة) في قراءة السياق النصي والذهني للكلمات والمفردات المعجمية المتكررة. ويمكن التسلح في هذا السياق القرائي بمجموعة من الآليات كالتشاكل والتوازي والتعادل والترادف والتطابق والتقابل والتكرار والتواتر، وعبر عمليات نحوية إبداعية كالحذف والزيادة والتحويل والاستبدال؛ لتحديد البنيات الدالة المهيمنة والمتكررة في النص. كما يرصد القارئ الأفعال المحرِّكة والمولِّدة للمعاني في سياقاتها الصوتية والإيقاعية والصرفية والتركيبية والتداولية، مع دراسة دلالاتها الحرفية والمجازية واستنطاقها فهمًا وتأويلاً…
3- القراءة المضمونية للقصة الشاعرة:
ما دام النص محمًّلا بفكرة ما أو غرض ما فهو نص أدبي وإبداعي مقبول عقليًّا. وتنطبق عليه عمليًّا صفة القبول لقراءته ونقده. و(القصة الشاعرة) مُحمَّلة بالفكر المكثف العميق، الذي يمكن تحليله في الآتي:
–اختيار الفكرة أو الموضوع أو الغرض أو “التيمة”؛ فهي أول عمل إجرائي يقوم به المبدع، ويمارسه المتلقي حسب منطوق القراءة، وتأتي، بعد هذه المرحلة، الصياغة والتشكيل؛ فالهدف الأول من القراءة هو مقاربة أو استخلاص الفكرة العامة أو الرسالة المهيمنة أو الرهان المقصدي أو الدلالة المهيمنة أو البنية الدالة التي تظهر في النص أو العمل الأدبي عبر النسق البنيوي وشبكاته التعبيرية تمطيطًا وتوسيعًا أو اختصارًا وتكثيفًا.
– “التيمة” في (القصة الشاعرة) هي ذلك البناء الموحِّد لجمل النص المتشابكة تركيبيًّا ودلاليًّا بواسطة فكرة مهيمنة معنويًّا، والمساعد على تغريض الإبداع، واستقراء التيمات الأساسية الواعية وغير الواعية في (القصة الشاعرة)، وتحديد محاورها الدلالية المتكررة والمتواترة.
-تنطلق قراءة (القصة الشاعرة) فكريًّا من خلال التطابق والتماثل بين المعنى الواضح المباشر والمعنى العميق الضمني غير المباشر فهمًا وتفسيرًا من خلال ربط الداخل بالخارج، والوعي باللاوعي في علاقتهما بما قبل الوعي.
– تبحث قراءة (القصة الشاعرة) في أغوار النص لاستكناه بؤرة الرسالة مع التنقيب عن الجذور الدلالية المولدة لأفكار النص قصد الوصول إلى الفكرة المهيمنة في النص، وتحديد نسبة التوارد لتحديد العنصر المكرر فكريًّا.
-تشغيل المستوى الدلالي عن طريق رصد الحقول الدلالية، وتوسيع الشبكة الدلالية لهذه التيمة المرصودة دلاليًّا فهمًا وتفسيرًا. وربط الدلالات الواعية وغير الواعية بصورة المبدع وظروف عصره.
وإذا انتهت القراءة الفكرية الواعية المتأنية للنص ينبغي أن تتبعها القراءة التأويلية، من حيث فك الرموز، وبيان معنى المعنى أو المعاني الثواني للقصة الشاعرة، وتفكيك ما فيها من أسلوب برقي، تلغرافي، ومضي، إشاري، مغلف، تعريضي، تلويحي…
وهكذا بعد هذه الرؤية المنهجية -المقترحة القابلة للتعديل والتطوير والبناء عليها- لقراءة (القصة الشاعرة) نلحظ أننا أمام خصائص فنية مختلفة ومغايرة، عما نجده في قريباتها في جنسي الشعر والقصة، حيث تتمايز بتقنيات يدركها مبدعها ويقصدها قصدًا، وينبغي للقارئ أن يضعها في حسبانه؛ إذ المطلوب موضوعيًّا ألا يُحكَم على هذا الفن أو له من خلال القراءة عنه، بل من خلال القراءة فيه، قراءة متخصصة واعية؛ فكل رافضي هذا الفن ومنتقصيه حكموا عليه من خلال ذهنية تابعة لأحكام مُقوْلبة ومُسبَّقة ضد كل جديد، أو من خلال نظرية المؤامرة، أو نزعة الاستعلاء القبيحة ونزغة الفوقية المريضة!
وختامًا أدعو إلى إصدار دفتر مطبوع ورقيًّا وإلكترونيًّا يجمع بين طياته القصص الشاعرة العالية التي أبدعها مبدعون ومبدعات من الأقطار العربية المختلفة.
([1]) خصائص التراكيب ص5، د/محمد أبوموسى، مكتبة وهبة بالقاهرة.
([2]) قراءة في الأدب القديم ص (ز) ، د/محمد أبوموسى، مكتبة وهبة بالقاهرة.
([3]) من الحصاد القديم ص167، د/محمد أبوموسى، مكتبة وهبة بالقاهرة.
([4]) الشعر الجاهلي ص491، د/محمد أبوموسى، مكتبة وهبة بالقاهرة.
([5]) من الحصاد القديم ص438، د/محمد أبوموسى.
([6])أسرار البلاغة ص140، تح العلامة محمود شاكر، رحمه الله.
([7]) دلائل الإعجاز ص262-263، تح العلامة محمود شاكر، رحمه الله.
([8])راجع الغموض الفني في البلاغة العربية، د/إبراهيم عبدالفتاح رمضان، ص36، دار الكتا الثقافي، نقلاً عن مقالة: (موقف النقاد العرب من الغموض: دراسة مقارنة)، د/إبراهيم سنجلاوي، مجلة عالم الفكر، أكتوبر- نوفمبر- ديسمبر سنة 1987م..
([9])النقد الأدبي الحديث ص451.
([10]) مفهوم القارئ أوفعل القراءة في النقد الأدبي المعاصر، د/محمد خرماش،مجلة أقلام، ع5، سنة 1999م، ص20.
[11])) راجع هذه الأنماط في مقال:النقد العربي ومناهجه للدكتور جميل حمداوي، منشورعلى موقع ديوان العرب، على الرابط https://www.diwanalarab.com/%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%82%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%80%D9%80%D9%80%D9%80%D9%8A
([12]) دراسة في البلاغة والشعر ص 3، و قراءة في الأدب القديم ص (د، هـ).
[13])) آليات تحليل النصوص لغويا، د/جمال عبدالعزيز، مثبت في أرشيف ملتقى أهل الحديث – 3، وتم تحميله في: المحرم 1432 هـ = ديسمبر 2010م، وراجع رابط الموقع: http://www.ahlalhdeeth.com