القيادة في سورة النمل
دراسة استقرائية
أ.د. محمد السعيد عبد المؤمن
لقد وضع الله سبحانه في سورة النمل عددا مختلفا من نماذج القيادة، مبينا ما تميز به كل قائد، وما آل إليه أمره، نتيجة عقيدته القيادية وإدارته وتصرفاته وأقواله، بل لعله انتقى من القيادات من كرِّمه، وأعطاه مكانة في هذه السورة.
إن اختيار تسمية السورة (النمل) يجعلنا نتوقف عنده، فالنمل له خصائص متميزة يعرفها الناس، منها الصبر والنظام والطاعة والتعاون والوحدة والاجتهاد والثقة في الله، ومعرفة حجم النمل والوقوف عنده، واتخاذه واديا للتوطن، وهو ما يجعل مملكة النمل من أشهر مملكات مخلوقات الله. الأكثر من هذا تواضع القيادة، رغم يقظتها، وعملها لمصلحة أبناء المملكة، وهو ما بينته السورة عند مرور الملك سليمان على وادي النمل، يقول تعالى: حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون، فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والديَّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين.
إن اختيار النمل اسما للسورة يشير إلى توقيرها، حيث من الواضح أن نملة قد أعطت درسا في القيادة للملك سليمان بكل ما يملك من قوة وسلطة، وهي الكائن الصغير الذي إن مر عليه إنسان يسحقه! القيادة هنا تعني ضرورة معرفة حجم من نتعامل معه، ثم نتخذ الاحتياطات الواجبة لتجنب خطره، فإن أحست القيادة بهذا الخطر سارعت على الفور بالتحوط له.
تبسم الملك سليمان من قول النملة طال حتى بلغ الضحك، فكان التعبير القرآني في غاية البلاغة، ولاشك أن هذا الأمر كان له مغزى عميقا استتبع بالضرورة الإحساس بنعمة الله والمبادرة بشكر الله على نعمته، وهو ما ذكره أيضا بأن هذه النعمة قد شملت والديه أيضا، فضلا عن أن شكر النعمة ليس بالقول فقط، بل بالعمل الصالح الذي يرضي الله، وهي سمات القائد الذي يحمل عقيدة إيمانية، ومع ذلك يبدي تواضعه بأن يرجو أن يُدخله الله في عباده الصالحين، عبدا وليس ملكا!
هذه القيادة الواعية من جانب الملك سليمان جعلته لا يتغافل عن أي جندي من جنوده، أو أي عامل من شعبه، فهو يستعرضهم، ويستعرض في حزم أحوالهم بصفة مستمرة، صنفا صنفا وطبقة طبقة: وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين.
وهو لا يفلت المقصرين ولا يتغاضى عن تقصيرهم إلا بعذر مبين: لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين.
هكذا صار الملك قدوة لجنودة، وهو ما ظهر في سلوك الهدهد في تقصي الحقائق في أداء واجبات وظيفته وهي الاستطلاع، والاحتياط من أجل أمن الوطن والمواطنين: فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين. لقد كان أداء الجندي هدهد الكامل الواعي في خدمة الوطن سببا في تحقيق إنجاز عظيم، هذا الوعي بدا في أسلوب تفكيره حول ما رأى من مفاجأة لم تخطر على باله: إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم، وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون، ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون، الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم.
القائد المحنك لا يقبل أي ادعاء أو معلومات من أتباعه دون أن يمحصها ويدرسها جيدا قبل اتخاذ أي قرار: قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين، اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون. هكذا يكون التخطيط السليم للتحرك بجس النبض وحسن صياغة الرسالة، وتوجيه حركة الاستخبارات، فيما نصح به الملك سليمان جنديه خلال تأدية الخدمة.
نقل الجندي هدهد حرفيا ما كان من رد فعل ملكة سبأ إزاء رسالة الملك سليمان، فحمل معه كل علامات وعي الملكة وحسن دراستها للرسالة وتقديرها لمرسلها، وحسن تصرفها بدءا من استشارة أتباعها إلى الفكر النموذجي الحصيف: قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم، إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين، قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون.
الملكة رغم رؤيتها الجيدة سمحت بإبداء الرأي واستمعت له، ثم أدلت برأيها: قالوا نحن أولوا قوة وألوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين، قالت إن الملك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون، وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون.
جاء رد الملك سليمان على تصرف ملكة سبأ يشير إلى إدراكه باستدراج هذه الملكة وخداعها السياسي، والتفافها حول مضمون رسالته، فكان موقفه راسخا ورده حاسما: فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون، ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون. لاشك أن تهديد الملك سليمان يدعمه ما رآه رسل الملكة من عظمة إمكاناته، فهو لا يهدد من فراغ، حتى يستهان به!
لم يكتف الملك سليمان برفض الهدية والتهديد، بل كان من كفاءته ووعيه أن يخطط لانتصار بدون حرب، مستعينا بما يملكه من قدرات للجن والبشر في حاشيته: قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين، قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين، قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم. هنا تتجلى العقيدة الصحيحة لدى القائد، حيث يدرك أن أي إنجاز يتحقق في وطنه من خلال أبنائه هو فضل من الله، وأنه اختبار له، مدركا أنه إن شكر غنم المزيد، وإن كفر فإن الله لا يحتاج شكره.
كانت الخطوة الحكيمة التالية تكشف عن فكر القائد لأتباعه حول اختباره لغيره من الملوك من أجل وضع خطة عمل إزاءهم: قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون، فلما جاءت قيل أهكذا عرشك؟ فظهرت فطنة الملكة في الاحتياط من خلال إجابتها: كأنه هو. ثم كان الاختبار الثاني الذي أجراه الملك سليمان لها معززا لمبدأ التحوط عندها: قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها! قال إنه صرح ممرد من قوارير. هنا أدركت الملكة خطة الملك سليمان التي استدرجها بها لكي تدرك أن الإيمان بالله يمكن أن يمنحها مكاسب لا تملكها، وقد وعت ذلك جيدا فلم تخضع للملك سليمان، أو تطمع فيه، وأكدت أنها تسلم لله معه وليس له: قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.
ثلاثة قادة أبدع الله في خلقهم واختيارهم للقيادة، وعرض مزاياهم على المسلمين ليتعلموا منهم، وما أبدع ما ختم به الله سبحانه السورة، حيث قال تعالى: وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون، صدق الله العظيم.
ألا هل بلغت اللهم فاشهد.