والتأم الجرح
قصة الكاتب الكبير/ محمد الأمين البس
(2)
كان الحاج عبد المولى في حاجة ماسة لجهود شاب له مواصفات مثل مواصفات بكر ابن أخيه يأتمنه ويثق فيه ويتحمل معه بعض أعباء شركة المقاولات التي اتسعت وامتد نشاطها لتنفيذ مشروعات عمرانية في بعض البلاد العربية، فطلب منه الاكتفاء بالثانوية العامة والتفرغ للإشراف على قطاع المعدات الثقيلة .
لكن بكرًا كان يُحلق بأحلامه في مجال آخر،فكان حلمه الذي لم يفارقه يوماً أن يكون أستاذًا مرموقًا بالجامعة ليدخل الفرحة على قلب أمه التي أقسمت أن تساعده بكل ما تستطيع حتى يحقق حلمه، ويوم أخبرها برغبة عمه وإلحاحه في العمل معه قالت له قولتها المأثورة التي ظلت محفورة في قلبه:
– لازم تكمل دراستك يا ولدي مهما كلفني ذلك من جهد حتى لو قعدت في السوق بشوية خضار.
كانت كلماتها وقوداً شحن طاقة بكر، وزاد من تصميمه على بلوغ هدفه، فاعتذر لعمه الذي كان في مقدوره أن يوفر له كل يحتاجه من نفقات إقامته بالقاهرة وتكاليف دراسته بالهندسة.
أقام بالقاهرة في حجرة صغيرة بأحد الأحياء الشعبية، ثم قدَّر الله له أن يلتقي “رفعت بدوي” أحد أبناء بلدته في محل كشري بشبرا.
كان رفعت قد تخرج حديثاً من كلية التربية وقد مارس مهنة التدريس قبل تخرجه ويقيم بشقة صغيرة بمفرده، وكم سعد بكر بعرض صديقه الإقامة معه.
كانت تكاليف الدراسة بكلية الهندسة مرهقة وبحث بكر عن عمل في الفترة المسائية حتى اهتدى إلى مكتب كبير للمحاسبة والمحاماة بوسط القاهرة، وكانت المشكلة التي تؤرقه هي عودته متأخراً منهكاً لا يجد متسعاً من الوقت ولا بقية من جهد، فأحس بخطورة استمراره في هذا العمل وتأثيره على دراسته، فترك هذا العمل وعرض عليه رفعت أن يقوم بتدريس الرياضيات، فوافق على الفور.
ولأن الله أعلم بحال أم بكر وقدراتها المادية المحدودة وفق الله بكرًا في مجال التدريس توفيقاً ملحوظاً واستطاع بفضل الله أن يوفر تكاليف إقامته ومعيشته مع صديقه رفعت وذاع صيتهما كمدرسين ناجحين في المنطقة.
مرت أعوام الدراسة وبكر يخط كل يوم سطرًا جديدًا في ملحمة كفاحه، وجاء موعد امتحاناته في البكالوريوس وهو يواصل الليل بالنهار في دراسته وعمله حتى استطاع بفضل الله ثم بدعوات أمه أن ينتهي من مشروع البكالوريوس بنجاح .
خلال تلك الأعوام الخمسة لم يتمكن بكر من رؤية “حبيبة”، فقد ترك عمه الشقة التي كان يقيم فيها إلى بيت كبير لا يعلم مكانه بكر، وبذلك فقد كل وسيلة للاتصال بابنة عمه.
كالعصفور العائد إلى عشه، عاد بكر إلى قريته يحمل بين جوانحه أملاً لم يفارقه يومًا، ألا وهو الزواج من ابنة عمه، وها هو يحمل شهادة نجاحه الباهر بتقدير امتياز ليدخل السرور على قلب أمه التي نذرت حياتها من أجله ومن أجل شقيقتيه حسنية ومنال.
استقبلته أمه في أحضانها بفرحة غامرة، أما هو فانحنى مقبلًا يديها ومحاولًا تقبيل قدميها عرفاناً وتقديرًا، قضى يومين مع أمه وأختيه واستأذن في السفر لمقابلة عمه.
وفي مكتب عمه تلقى صدمة موجعة؛ إذ قابله عمه بوجه طلق وبادره بمجرد جلوسه قائلًا:
– قبل الشاي لازم تشرب شربات خطبة حبيبة.
وعاد الشاب إلى أمه والحزن قد كسره وخيب أمله، فقالت له تواسيه:
– يا بكر عمّك شايل منك، اعذره، كان يريدك ذراعه اليمين فتعوضه عن الصبيان ويعتبرك ابنه.
فرد عليها والدموع تملأ مآقيه:
– يا أمي والله ما عملت حاجة غلط، أنا كنت أنحت في الصخر كي أحقق حلم كبير، الحلم الذي كنت أتمنى أن أحققه في حياة أبي فأرى الفرحة في عينيه.
لم تفقد أمه الأمل، فأشارت عليه أن يذهب ثانية لعمه قائلة:
– أنا عندي إحساس أن حبيبة من نصيبك بإذن الله.
وسافر بكر وأمه تودعه بالدعاء وتوصيه أن يتحدث مع عمه بهدوء فربما يلين قلبه، وللمرة الثانية يتلقى
طعنة أكثر إيلامًا، فقد ترك له ولأسرته دعوة حضور عقد قران حبيبة على شخص آخر غيره!