الباخرة
قصة قصيرة للأديب
محمد الشرقاوي
يخيم الصمت على كل الحاضرين وترتسم فوق الوجوه علامات الدهشة والانتباه لما يرون بأعينهم ، فبعد مرور وقت ليس بالقليل سادت فيه مشاعر الود بين أبناء العائلة في وجود كبيرهم الحاج محمود ، يدخل القبطان حمدي دون إلقاء السلام كما اعتاد الناس في مجالسهم لكنه بدا حاملا حذاءه في يده وقام بلطم وجهه بالحذاء عدة مرات متتالية قائلا : ” أنا غلطان يا أبوي محمود ، حقك على راسي يا أبوي محمود …. ”
كانت تلك الكلمات وذلك التصرف الغريب مثارا للدهشة من الجالسين وخصوصا من لا يعرف منهم الأحداث السابقة التي أدت إلى ذلك . ينظر الحاج محمود إليه داعيا إياه للجلوس ولكن القبطان حمدي يغادر المجلس سريعا وكأنه يفر من عقاب شديد ينتظره .
من هنا بدأ بعض الحاضرين يطالبون بسرد القصة كاملة حتى يستطيعوا ربط الأحداث ببعضها ، ولذلك توجهت الأنظار إلى الحاج محمود باعتباره من طرفي الأحداث ولكنه ينظر إليهم جميعا قائلا : كلكم أبناء أخوتي وأنا أعتبر نفسي والدكم ومنكم من عمل معي في عدة بواخر سياحية ، أستحلفكم بالله أن تجيبوا عن هذا السؤال بكل صراحة : هل رأيتم مني تقصيرا في العمل أو غلظة في معاملتكم أنتم وكل طاقم الباخرة ؟ تأتي الإجابات بالنفي من الجميع بل ويقسمون بالله على تمكنه وخبرته في عمله قائدا وقبطانا معروفا بطول نهر النيل وصاحب تاريخ مشرف كما يشيدون بحب الناس له لحسن معاملته لهم وتواضعه مع الجميع من أكبر العمال إلى أصغرهم .
يأتي دوره في الحديث ويطلب شهادة من شهدوا تلك الأحداث ، يقول : ذهبت لتسلم عملي قبطانا للباخرة التي يعمل بها القبطان حمدي حيث إن الباخرة يجب أن تضم ثلاثة من القباطنة ، ورأيت ترحيبا شديدا من الجميع وبعد مرور دقائق أقلعت الباخرة من الأقصر متجهة إلى أسوان وكان على متنها عدد كبير من السائحين من مختلف الجنسيات وفكرت في أن أريح القبطان حمدي لبعض الوقت فطلبت الجلوس على أجهزة القيادة بدلا منه وتم ذلك بالفعل . يكمل الحاج محمود حديثه قائلا : تمضي الباخرة وهي تشق المياه بأقصى درجات سرعتها حتى لاح لنا من بعيد أحد الأماكن التي تبدو بها المياه ضحلة ولا يجب الاقتراب منه ، حاولت تعديل وجهة الباخرة لتسير في ممر سير السفن حيث المياه العميقة ولكن باءت محاولاتي بالفشل وتستمر الباخرة في سيرها للأمام فقط ، هنا قفز الرعب إلى قلبي وكاد عقلي أن يجن ، فلو وصلنا لهذا المكان ربما بل بالتأكيد ستنقلب الباخرة ونغرق جميعا .
يزداد الانتباه والترقب لمعرفة ما ستسفر عنه تلك الأحداث الغريبة فتسود حالة الصمت الشديد إلا من صوت واحد هو القبطان الحاج محمود الذي يكمل قائلا : فجأة يهب القبطان حمدي مذعورا من مقعده بكبينة القيادة وهو يصرخ : ” قوم بسرعة يا أبوي محمود , غرقنا كلنا ، غرقنا —- ” وعندما أخليت له مقعد القيادة وجلس مكاني على الفور سمعت صوت مفتاح يغلقه بيده لكني لم أره لأن الأضاءة مغلقة ليلا في كبينة القيادة حتى نستطيع رؤية كل الأماكن الخارجية جيدا وهنا أدركت ما فعله عندما ترك القيادة لي ، لقد قام بتفعيل عمل هذا المفتاح الذي يعطل كل المفاتيح الأخرى ويجعل الباخرة تسير في خط مستقيم وعندما واجهته بذلك لم يستطع الإنكار لأن كل العاملين رأوا ذلك وفهموا ما حدث .
يبدو التعجب والذهول على الوجوه ويسأل أحد الحاضرين : وماذا يقصد من وراء ذلك ؟
يرد القبطان الحاج محمود بألم وحسرة : لقد كان يدبر لي الفشل في عملي من أول يوم حتى لا أستمر معه وكان بإمكاني إبلاغ المسئولين ولكني خفت عليه من انقطاع عمله وتعرضه للسجن المشدد وفضلا عن ذلك شماتة جميع عمال السياحة فينا فكلهم يعلمون أنه ابن أخي ولم أكن أتوقع منه ذلك .
ينهي الحاج محمود حديثه ويؤيد ما قاله بعض الجالسين الذين شاهدوا تلك القصة بأعينهم عند حدوثها في الباخرة ، يقول بعضهم : لقد سقط من أعيننا جميعا عندما رأينا تلك الأحداث التي تظهر مدى حقده وأنانيته وبالرغم من أن عمره يقترب جدا من عمرك يا عم محمود ولكنك أثبت للجميع أنك أكثر منه عقلا وذكاء وإيمانا وصفحا بدليل أنك لم ترتب لهذه الجلسة ولم تسع إليها ولا تحب العتاب الذي يقضي على وحدة العائلة .