لماذا كان الشيخ محمد عبده خلاصة عباقرة الدنيا؟!
صلاح حسن رشيد
باحث وناقد أدبي مصري
لعل الناقد الواعي المنصف؛ يدرك بحق؛ لماذا كانت كل هذه الحفاوة، والتبجيل، والثناء؛ بـ”محمد عبده” فقط؛ دون غيره من الأعلام؛ في عصره، أو في العصور التالية له؟! وأقول؛ كما قال غيري؛ فأجمعوا منصفين بعد قراءة مستوعبة لمشروعه النهضوي الحضاري المثمر: فهذا رجل؛ كان بمثابة الأُمَّة؛ فأحدث في الشرق؛ من النهضة، والإفاقة، والتأثير، والبعث، والانتشار؛ ما عجزت قرون خمسة قبله عن إحداثه قاطبة!
فـ”محمد عبده”؛ بحساب التاريخ، والأرقام .. لا يقل في تأثيره، ولا في نتائجه؛ ولا في جهاده؛ ولا في تربيته، وتثقيفه؛ ولا في فقهه؛ ولا في اجتهاده وتجديده؛ عما أحدثه شوامخ الصحابة والتابعين، وزمرة الأئمة المجتهدين!
ولا أغالي؛ ولا أبالغ؛ إذا وصفته بـ”رجل القدر”؛ الذي انتظرته الأمة أكثر من خمسة قرون؛ ليعيد لها بهاءها؛ وجوهرها؛ ونهضتها من جديد!
فمن يطالع صفحات سيرته العطرة؛ ومؤلفاته الزاكية؛ يعرف كيف أخذ الأستاذ الإمام محمد عبده(1849-1905م) من أعلام التاريخ الإسلامي أبرز ما فيهم من ملكات ومواهب وإضافات وتبريزات، وتجديدات؛ وإلمعات؛ فأضاف إليها من خاصة نفسه؛ وروحه المجبولة على البناء والإضافة والتجديد؛ ما كان معجزة بحق!
فمن الإمام الشافعي؛ أخذ مرونته الفقهية؛ وتبحره الأصولي؛ وعبقريته في دراسة البيئات؛ والأزمان؛ والأمكنة؛ والشخوص؛ وتأثيرها على الفتيا والإفتاء!
ومن حُجَّة الإسلام الغزالي؛ أخذ الاهتمام بالتربية والتعليم على حساب العنف والثورة .. ومِنْ الإمام الشاطبي؛ الحفاوة بفقه المقاصد والغايات؛ أي غاية تثقيف الأمة، والارتقاء بها حضارياً وفكرياً ودينياً وأخلاقياً.
وأخذ من الفيلسوف الفقيه ابن رشد الحفيد؛ التوفيق بين الحكمة والشريعة؛ في عصرٍ؛ باتت فيه الفلسفة ممنوعة من الحياة؛ ومنبوذة داخل أروقة الأزهر الشريف؛ حتى جاء محمد عبده؛ فأعاد لها سلطانها؛ وبعث لها دولتها؛ وأوجد لها جمهورها وراغبيها؛ ونال لها مشروعيتها وجدواها! فرجع أرسطو ورفاقه؛ يُدْرَسون في الأزهر؛ بعد قطيعةٍ وحروب!
وأخذ من الإمام ابن خلدون فقه العمران؛ فوسَّعه حتى أضحى عنده فقه العمران الحسي والمعنوي معاً؛ فلا نهضة؛ ولا رفعة إلا بالارتقاء المادي والروحاني، ومن هنا كانت هذه سبيله في الإصلاح الشامل التام المرجو!
كما أفاد الإمام محمد عبده من إصلاح رفاعة الطهطاوي الرائد في العصر الحديث؛ أنَّ مِلاك التقدم الحق؛ يجب أن يغرز أرجله على أسباب الرقي الأوربي الحديث؛ وأن يستنبت بذور نهضتهم؛ وأن يستزرع على شاكلتهم؛” فالحكمة ضالة المؤمن؛ أنى وجدها؛ فهو الأحق بها”؛ كما يقول الحديث الشريف.
وأفاد محمد عبده كذلك؛ من شيخه جمال الدين الأفغاني(1839-1897م)؛ أن النهضة شاملة لجميع البلدان العربية والإسلامية؛ لذلك؛ وجدنا محمد عبده؛ يُرَبِّي له أبناء وتلامذة في لبنان، وسورية، وتونس، والهند، والمغرب، والجزائر، والعراق، واليمن، والحجاز، وباريس، ولندن؛ جميعهم تلقَّفوا آراءه، وفتاواه، ومنهجه التسامحي التربوي الإصلاحي الموسوعي؛ فانتقلت مدرسته إلى كل أصقاع الأرض.
كان محمد عبده إذاً؛ صيحة كبرى؛ نقليةً عقليةً معاً؛ انتشرت في كل جنبات الحياة؛ فامتد تأثيرها؛ بفضل علمه، وإخلاصه، وجهاده؛ إلى كل اللغات؛ فدروسه، ومؤلفاته؛ يتم ترجمتها؛ لتقرأها شعوب الأرض؛ إذاً؛ فلم يكن غريباً؛ ولا مستغرباً؛ أن كان للأستاذ الإمام مريدون من الأوربيين، والأوربيات؛ الذين وجدوا فيه الأستاذ الأمين؛ والفقيه المُجَدِّد؛ والمُفَكِّر الرصين؛ والحكيم الخبير؛ وحامل لواء الدين والدنيا؛ بلا غلو، ولا تقصير!
حينما اشتغل محمد عبده مبكراً بالسياسة؛ فلم يحقق أية فائدة من ورائها؛ لوطنه ولأمته؛ أدرك كم كان مخطئا؛ بإغفاله وجوب تربية الشعوب، وتثقيفها قبل الاشتغال بأمور السياسة المتغيرة؛ وهو ما كان سبباً في اختلاف منهجه عن منهج شيخه جمال الدين الأفغاني؛ القائم على الثورة والعنف!
لذلك؛ كانت مقوله محمد عبده الرائجة عن حِدَّة الأفغاني؛ وعن اختلاف المنهجين، والرجلين: “وطالما هدمت الحِدَّة؛ ما بَنَتْه الفِطنة”!
فاشتغل الأستاذ الإمام؛ بالإصلاح التدريجي؛ وبنشر التربية، والتعليم بين الناس؛ وبتحقيق أكبر مكسب ممكن؛ لانتشار طريقته الجديدة الإصلاحية؛ بالاقتراب المشروط؛ غير المباشر بالخديو؛ وبالمندوب السامي البريطاني؛ لكي يجني ثمار غرسه؛ ولئلا تعترضه السلطة أية سلطة؛ لو كابر؛ فجاهر بالعداء والقطيعة؛ مثلما فعل الأفغاني؛ فأخفق مشروعه؛ موازنة بمحمد عبده؛ الذي تحقَّق له ما لم يتحقق لأستاذه الأفغاني!
وصفه تلميذه الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي (1880-1937م)؛ الذي حضر مجلسه العلمي؛ فقال بعد أن رآه؛ فأيقن أنه المنذور لرسالة؛ وأنه مُجَدِّد القرن: “كان أعظم هيبةً من الملوك؛ لأن هؤلاء؛ يحيطون أنفسهم بالديوان والمواكب؛ أما الشيخ؛ فكنت تراه حيث رأيته كالمحراب؛ حيث يكون، لا يقف عنده إلا من وقف ليخشع! رجل لم يخلق من قبل زمنه؛ لأن الأقدار المصرفة دخرته للقرن الرابع عشر .. ولست أدري على أي روحٍ نَبَتَ هذا الرجلُ؛ ولكنَّ الذي أعرفه؛ أنه حين أثمر؛ فأنضجَ؛ فحلا؛ أذاقَ الناسَ من ثمره طعم معجزة الفكر العربي”!
وقال عنه؛ وعن تأثيره الواسع في عموم البلاد؛ وبين العباد؛ الشيخ الجزائري محمد البشير الإبراهيمي (1889-1965م): “إنه لا نزاع؛ في أن أول صيحة ارتفعت في العالم الإسلامي؛ بلزوم الإصلاح الديني والعلمي … هي صيحة إمام المصلحين؛ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رضي الله عنه؛ وأنه أندى الأئمة المصلحين صوتاً، وأبعدهم صيتاً في عالم الإصلاح …لقد كان الأستاذ الإمام حجة من حجج الله في فهم أسرار الشريعة، ودقائقها، وتطبيقها، وفي البصر بسنن الله في الأنفس والآفاق، وفي العلم؛ بطبائع الاجتماع البشري، وعوارضه ونقائصه … ولقد كان تفسير الأستاذ الإمام للقرآن المعجزة في التفسير؛ المُنْبئ بظهور إمام المفسرين بلا منازع؛ فهو أبلغ من تكلم في التفسير بياناً لهديه، وفهماً لأسراره، وتوفيقاً بين آيات الله في القرآن؛ وبين آياته في الأكوان … وبالجملة؛ فالرجل فذ من الأفذاذ؛ الذين لا تُكَوِّنهم الدراسات؛ وإنْ دَقَّتْ؛ ولا تُخَرِّجهم المدارس؛ وإنْ تَرَقَّتْ؛ وإنما تقذف بهم قدرة الله إلى هذا الوجود؛ فيكون وجودهم مظهراً من مظاهر رحمة الله بعباده؛ وحجة للكمال على النقص؛ وإصلاحاً شاملاً، وخيراً عميماً؛ فرضي الله عن الأستاذ الإمام”!