هما وأنا
قصة بقلم/ د. عزة شبل
وقفتْ تتأملهما، كانتا تتشاجران بحدة، أما هي فقد ظلت واجمة دون أن تنطق ببنت شفة، يعلو صوتهما بنبرات كثيفة أثارت شغفها بالإنصات إليهما؛ لعلها تجد ما تبحث عنه، نظرات قلبها المفعم بالحيرة تلتصق بهما.
كادت إحداهما تجهز على الأخرى، وتطيح بها، فقد تملكت منها بسرعة شديدة، وأطبقت على كل جوارحها، فهى تعرفها جيدًا فداعبت أظافرها في الجرح القديم الذي لم يندمل بعد، فسالت دماء، ربما دماء الغيرة وربما دماء الجرح،
لقد كانت قوية عنيدة ترفض الاعتراف بضعفها، أما الأخرى فقد كانت على النقيض تمامًا، من أول وهلة تعرف أنها ضعيفة، تكسوها الطيبة والحياء، ابتسامة صغيرة تخرج من شفتيها، فتترك خيوطًا حريرية ناعمة بجوار عينيها، تطبع في قلب من يراها صورة الحسن الملائكية.
العراك يحتدم بينهما، والكفة أبدًا لم تكن متساوية، فالخصمان غير متكافئين، وأنا واقفة أختلس النظر إليهما فى حذر شديد، تدور عيناى في كل أرجاء الغرفة، أترقب لمن ستكون النهاية،
لا أود أن أقع ضحية في براثن إحداهما، أنظر في حذر لقوة الأولى وسطوتها، وأعجب ببراعتها في فنون الجدال، وأنصت للأخرى، ويميل قلبى لرقتها وعذوبتها، لكنني أقف ولا أفعل شيئًا، فكلاهما صديقة لي منذ أمد بعيد،
كم من مرة لجأت للقوة، فساعدتني في التغلب على أصعب قرار، وكم من مرات صاحبتني العذوبة، فاجتزتُ معها الرياح العاصفة.
أرجعُ خطوات للخلف قبل أن تلتفتا إلىَّ، لكن صاحبة القوة بادرتني قائلة لي، أنتِ الحكم بيننا. فأنت تعرفيننا حق المعرفة، ثلاثتنا أصدقاء منذ الطفولة،
كم حضرنا معًا دروس العلم في المرحلة الابتدائية، واستمرت صداقتنا إلى أن تخرجنا في نفس الكلية، وتعمقت صداقتنا، وتحولت شيئًا فشيئًا إلى صداقة عائلية،
واليوم حدث ما يهدد صداقتنا، لا نعرف كيف حدث هذا، ولكنه حدث بالفعل. واستمرت صاحبة القوة تشير بكلتا يديها يمينًا ويسارًا، وصوتها يخرق أذنيَّ، وانفعالاتها تملأ الغرفة ضجيجًا نافذًا الجدران وصولاً للنصف الآخر من الكرة الأرضية،
أما الأخرى فكانت على النقيض تمامًا رقيقة، مطمئنة، الذي يعلو فقط هو دقات قلبها خوفًا من أن يجبرها كلانا على فراقه، ضعيفة هي حقًا حتى عن المواجهة.
سَحَرها بعذب كلماته، وصوته الهادئ، وضحكاته الرنانة، راقصًا ماهرًا، لكن صاحبة القوة كانت أشد حدة وشراسة، تركت لسانها عليه، يذيقه ألوان الكبرياء والمواجهة،
وعندما سقط قناع وجهه الزائف أمامها، سارع بارتداء قناع البراءة والطيبة، وراح يدخل إلى صاحبتها من كل الزوايا حتى يعلن فوزه، تقافز على أوتار الوقيعة بينهما ليظل هو المايسترو الذي تحركهما أصابعه أينما ذهبتا.
لم تكن تلك الضعيفة المستكينة في حاجة لأن تتكلم، فقد كان انكسار عينيها، ووجومها الشارد كفيلان بأن أتعاطف معها، كيف سأقنع هذا القلب البريء أن يترك من تعلق به،
وكل هذه الحجج الواهية والجدال بلا معنى، والصوت العالي لم يستطيعا أن يحركا لها ساكنًا، عندما يسري العشق إلى شغاف القلب ويستقر به هيهات ثم هيهات له من نجاة،
لقد أصبحت في موقف لا أُحسد عليه، كيف أستطيع الخروج من هذا المأزق، لا أعرف كيف سأفصل بينهما ولمن سأنحاز، ولكل واحدة حجتها..
أما آن لهما أن يلتقيا كمرج البحرين، ويريحاني من هذا العراك الطويل ..
فقط ابتعدتُ بضع خطوات من مرآتى مبتسمةً، ويدي تعبث بشعرى المنسدل وراء ظهرى، ويد قد التصقت بزجاجة العطر المحبب له، وذاب على شفتيَّ قطعة الشيكولاتة التي قد أهداها لي في أول لقاء بيننا..
وإذا بهما قد نظرتا إلىَّ.. ثم انصرفتا في هدوء بائستين إلى غير رجعة.