جنون الكلمات
قصة بقلم/ د. عزة شبل
أطفأ الأنوار، وهو مطأطأ الرأس حزينًا، تقفز الأفكار في مخيلته، لا يستطيع أن يلاحق بعضها، أغلق الباب منصرفًا إلى حيث لا يدري، بعد أن ظل يفكر طويلًا كيف سيكون مستقبله، بعد أن كان ماضيه سعيدًا، فقد عرفه الناس، وذاع صيته في الأوساط الثقافية كلها، وباتت مطبعته علمًا على الطريق، وسُمِّيت تلك المحطة باسمها، وصار الناس يعرفونها ذهابًا وإيابًا، يركبون من محطة المطبعة، وينزلون عند محطة المطبعة.
ماذا أفعلُ الآن، لقد تعطلت الماكينة، وانكسر محرك تجميع الحروف، المشكلة أني قد ورثتها عن جدي منذ سبعين عامًا، الذي ورثها بدوره هو أيضًاعن أبيه، وهكذا نتوارث أشياء نظن أنها قيِّمة، ومع مرور الوقت نكتشف أنها ليست ذات قيمة تُذكر، فلم يعد هناك من يستطيع إصلاحها، كما أن قطع غيارها بالطبع ليست متوفرة، آه من كثرة التفكير العبثي، ماذا لو أنني كنت بعقلي، وبعتها حين ورثتُها، ما كنت لأشعر بالحسرة والمرارة، فالآن لم يعد لها ثمن، تمسَّك والدي المثقف بها، وأذكر أنه قال لي لنا ذات يوم: العلم يا ولدي لا يُقدَّر بثمن، وظل أبي طوال حياته لا ينتظر أن يُقدَّر عمله بثمن، وظل الناس بدورهم لا يقدرون ثمن علمه، وما يقدمه لهم، وهكذا مرت بي سنوات عمري أنا أيضًا، يجب عليَّ أن أنبه أولادي، حتى لا يقعوا في الجهل مثلي، لن أجعلهم يتمسكون بهذه الآلة الصدأة، ويورِّثونها لأبنائهم من بعدهم، لكن المشكلة الآن أنها لم تعد صالحة حتى للبيع (خردة) وكيف سأعيش أنا وزوجتي الجميلة التي رضيت بحالي المتواضع منذ أن تزوجتها وأنجبت منها أبنائي الثلاث الذين سرت في دمائهم عروق العلم من جدهم رحمه الله، وصار أكبرهم في السنة النهائية في كلية الحقوق، والأوسط في الفرقة الثانية بكلية الإعلام، أما الصغيرة حبيبة أبيها، فهي ما زالت في المرحلة الابتدائية، ما زال مشوار الحياة أمامهم لم يبدأ بعد.
انفرجت شفتاه قليلاً بعد أن لمعت في رأسه فكرة أن يذهب في الصباح الباكر إلى سوق (الخردة) في (حي النحاسين)، علَّه يجد قطعة مشابهة يصلح بها الماكينة، اطمئن قلبه الباهت قليلاً، وأغلق الأنوار، وانصرف هادئًا.
وبمجرد أن أغلق باب المطبعة، قامت الحروف كعاتها تتحاور إلى أن احتدم الشجار بينها، ما ذنبنا نحن في تلك المصيبة، الآن نتشرد بعد أن كنا نجتمع معًا ونشكِّل أجمل الكتب والدواوين والصحائف، ماذا عساه سيفعلُ بنا، لم يعد لنا أهمية عنده، بعد تلف الماكينة، سنُباع (خردة) مثلما كان الرقيق يُباع في الأسواق.
وعلت الأصوات واختلطت ببعضها، وانقسموا على أنفسهم فرقًا ثلاثة، وتسرب أحدهم إلى الباب وفتحه، وذهب كل فريق يبغي طريقه.
كان بعض هذه الحروف مائلاً، يحب العبث، ويتزاحم عند اصطفافه، فقرروا معًا أن يتحدوا ويصنعوا عملاً خاصًّا بهم يبهرون به الجميع، بما فيهم صاحب المطبعة، سيعتمدون على أنفسهم دون الحاجة لتلك الماكينة الصداة المُعَطَّلة، سنصُفُّ بعضنا بعضًا ليخلِّد التاريخ كتاباتنا الديستوبية التي سنعري فيها الواقع، دعونا من ذلك العالم اليوتوبي الحالم الذي ليس له وجود على أرض الواقع، فإننا لن نترك منزلاً مستورًا حتى نفضحه، سندخل جميع النوافذ لنرى ونسمع ونتلصص، سننفتحُ على العالم الذي حرمنا منه طيلة السنوات الماضية، في جراة لا متناهية، سنصطفُّ معًا لنتحدث عن الموبقات والشرور، كل الشرور، لا أحد سوف يستطيع أن يمنعنا بعد الآن، فقد اتحدنا معًا، وفي الاتحاد قوة، سنحقق أحلامنا، وسننظر إلى الفريقين الآخرين ونشعر بالسعادة والفخر، وهما يتحسران لعجزهما عن اللحاق بنا، سنسير بسرعة الشيطان، بل سنسبقه، كالنار فوق الهشيم.
وإذا هم في قمة زهوهم وسعادتهم يبنون مستقبلهم ويحلمون بالثراء الوفير، قد استرق السمع بعض حروف الفريق الآخر، فذهب ليخبر جماعته بذلك الأمر، وفي اجتماع عاجل، قرر الفريق الآخر أن يسير في طريقه المعتاد دون أن يتأثر بتلك الحروف المائلة، وأقنعهم أصغرهم، وكان أكثرهم حكمة وتعقلاً بأنهم قد عاشوا عمرهم في سعادة غامرة باصطفافهم معًا، يذكِّرهم بكم من شيخ استعان بكتبهم في أروقة المساجد، وكم من رجل صار عالمًا بفضل ما وضعوه من أسرار في بطون صحائفهم، فأجمعوا على قلب رجل واحد أن يستمروا على ذلك النهج، داعين الله أن يبارك ثمرة عملهم، وأن يحميهم من الشرور والآثام.
أما الفريق الثالث وكان أكثرهم عددًا، فقد وقف حائرًا في منتصف الطريق، لا يعرف أي الطريقين يسلُك، فأشار عليهم أحدهم أنه من الحكمة ألا ننحاز كلية إلى أحد الفريقين، وإنما علينا أن نأخذ من كلا الفريقين أفضل ما عندهما، فصاروا يأخذون من الحروف المائلة أجود ما وصلوا إليه من الفحش والرزائل والشرور والآثام، ومن الفريق الثاني راحوا يقتبسون روائع الكلم والحكم والنفائس، وصاروا يوزعونها في صحائفهم بالتساوي مرة، ومرة أخرى يزيدون الآخذ من الحروف المائلة بذكاء شديد عندما يرون لها رواجًا في الأسواق، ومرة ثانية ينقصونها على حساب روائع الكلم عندما يتوهج الإقبال عليها.
وصار كل فريق في طريقه يصطفُّ، ويملأ الكتب والصحائف، كلُّ سعيد بمنجزه، ينظر إلى الآخر، ويترقب مصيره، ليعلن فوزه في النهاية.
أما مالك المطبعة، فقد ذهب في الصباح الباكر لحي (النحاسين) في منطقة الحسين، يكسوه الأمل فلربما وجد قطعة (الخردة) التي سيصلح بها ماكينته الصدأة المتهالكة.