بقلم: محيي الدين بهلول
في عام 1880 شيد والد عبدالناصر منزلا من حجرة واحدة بالقرب من مسجد القرية. في هذا المنزل ولد عبدالناصر أكبر أولاد الشيخ حسين خليل سلطان في 11 يوليو 1888 وينتمي جد عبدالناصر إلى قبيلة عربية استوطنت صعيد مصر مع الفتح الإسلامي، عاشت هذه الأسرة على الزراعة، شأنها شأن بقية سكان القرية، وكانت هذه القرية تعيش ظلام الجهل محرومة من أبسط أمور التعليم. وقد عز على الشيخ حسين خليل سلطان أن تظل قريتهم محرومة من التعليم والعلم. وفي عام 1900 اقتنع سكان قريته بأن يقوم بإنشاء كتاب صغير لحفظ القرآن الكريم وتعليمهم مبادئ القراءة والكتابة.
وفي عام 1998 تم افتتاح مدرسة متواضعة عبارة عن غرفة صغيرة، وفي 18 فبراير عام 1903؛ أي بعد 3 سنوات من إنشاء الكتاب، كان عبدالناصر قد استوعب كل علوم شيخ الجامع فأجاد القراءة والكتابة وحفظ القرآن. هنا دار في مخيلته أمران إما أن يترك ابنه للزراعة والاهتمام بها، وإما أن يفتح له نهجا لمتابعة تعليمه، إلا أن والده وجد في ابنه جمال استعدادا لأن يتعلم ويتجه إلى التعليم. وهكذا سافر عبدالناصر إلى أخواله في الإسكندرية وكان ذلك في عام 1904، حيث التحق بمدرسة خويصة الابتدائية بباب الحديد، وكانت تسمى (مدرسة النجاح الأهلية)، وهي تتبع مشيخة علماء الإسكندرية. وفي عام 1910 انتهى عبد الناصر حسين من دراسته وعين معاونا لبريد الاسكندرية وهو يعد الأول من أبناء القرية الذي يتولى وظيفة حكومية.
وقد بعث ولديه إلى الكتاب أيضا وهما خليل وعبدالباسط، وبعد ذلك أرسلهما إلى المدرسة الابتدائية بالاسكندرية، وفي بداية عام 1917 تزوج عبدالناصر من (فهيمة محمد حماد) وقد شهد المنزل رقم 18 في حي باكوس بالإسكندرية ميلاد ولده البكر جمال، وكان ذلك في 15 يناير 1918، وبعد ثلاثة أشهر فقد والد عبدالناصر ابنه عبدالباسط، فحزن عليه حزنا شديدا وكان لأخيه خليل كلمة لوالده حيث قال: الحمد لله مات أخي عبدالباسط ولكن الله سبحانه وتعالى عوضنا بأخ هو جمال.
لم يكن جمال عبدالناصر يعلم وهو في سن المدرسة أي طالب، بأنه في يوم من الأيام سيكون لمصر كلها بل للعروبة كلها أيضا، ليصبح عندما كان عمره (35 سنة) منقذ مصر ومحررها والداعي إلى سلام العالم كله.
لقد عاش جمال عالما متنوع الأطر والمقومات، وكان لذلك أثره في بلورة وتشكيل رؤيته وتكوين فكره. وذات يوم سأل والده: «أبي لماذا نأكل اللحم والفلاحون الذين يرعون الماشية ويربونها لا يأكلونه؟!». تاه الأب من هذه المقولة وتوقفت اللقمة في يده، والتفت إلى ابنه جمال صاحب السؤال وهو لا يملك لذلك جوابا.
كان جمال وقتها لم يتخط عمره ثماني سنوات، من عام 1925 إلى 1930 كانت فترة عدم استقرار بالنسبة إلى جمال، بعد ذلك أرسله والده إلى عمه الأستاذ خليل حسين الموظف بوزارة الأوقاف بالقاهرة، ثم جاءت ثورة 1919 التي شارك عمه فيها وعلى أثرها تم سجنه لقاء هذه المشاركة وفي عام 1925 – 1926 التحق جمال بمدرسة النحاسين الابتدائية مدة عام. لقد عاش جمال وهو في سن الرابعة عشر منطويا على نفسه، بعيدا عن اللهو واللعب، لكنه كان تلميذا ناضجا نصف وقته للمدرسة والنصف الآخر لقراءاته الخارجية. وهو في طفولته كانت له ميول لمعرفة عدد كبير من الزعماء وفي مقدمتهم (غاندي) في أواخر شهر أبريل 1926 بعث الأب يقول لولده إن أمه لم تتمكن من الرد على رسائله بسبب انشغالها بأمور البيت والأبناء، لقد أخفى والده عنه النبأ الأليم، حتى لا يسبب له فجيعة تؤثر عليه صحيا وعلى دراسته.
أتم جمال دراسته بين الإسكندرية والسويس بمدرسة النحاسين عام 1928 ولم تخفف عنه هذه الرحلة إلى الاسكندرية إلى بيت جده لأمه مرارة فقدانه لوالدته، فقرر العودة إلى قرية الخطاطبة ليغادرها إلى بيت عمه بالقاهرة، فرجع عبدالناصر إلى مدرسة النحاسين وأكمل فيها دراسته الابتدائية عام 1936.
وواكب عبدالناصر أحداث ثورة 1919 ثم انتقل بعد ذلك من مدرسة رأس التين إلى المدرسة (القريدية) حيث واصل دراسته مدة عامين وفي عام 1933. وكان لجمال عبدالناصر حب وشوق لقراءة الكتب الدينية والسياسية والاجتماعية لكثير من الكتاب أمثال: أحمد أمين، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، جان جاك روسو وعباس محمود العقاد، فكتور هوجو، توفيق الحكيم، من خلال كتابه (عودة الروح).
كما احترم جمال عبدالناصر الإرادة الحديدية التي عاشها طه حسين في كتابه (الأيام) وفي عام 1934 بدأ جمال عبدالناصر وهو في السادسة عشرة من عمره تأليف رواية (في سبيل الحرية)، ولكنه لم ينته من كتابتها.
بعد العودة من حرب فلسطين 1948، قام جمال عبدالناصر بتكوين اللجنة التأسيسية لتنظيم الضباط الأحرار في شهر أكتوبر 1949 في اجتماع عقد في بيته، وتكونت من جمال عبدالناصر، خالد محيي الدين، حسن إبراهيم، كمال الدين حسين، عبدالمنعم عبدالرؤوف.. واكتمل التنظيم الفعلي عام 1950 عندما انضم إليه أعضاء اللجنة، صلاح سالم، عبداللطيف البغدادي، عبدالحكيم عامر، وأنور السادات.
في نوفمبر 1949 بدأت حركة المنشورات، إذ صدر أول منشور متضمنا تحليلا للحالة التي كانت قائمة وقتئذ والفضائح التي يكشف فيها قضية فلسطين، وقد كلف الضباط الأحرار بتوزيع هذا المنشور كل بحسب وضعه وبتوقيع الضباط الأحرار وبالتالي اتخذ جمال عبد الناصر عدة قرارات لحماية الضباط الأحرار، وكان أولها تغيير طريقة توزيع المنشورات وتغيير سكن الضابط (حمدي عبيد) الذي كانت المنشورات تطبع في بيته بنقله من كوبري القبة إلى حي غير معروف، وهو الجيزة واستمرت طباعة المنشورات حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952.
في يناير عام 1950 أجريت الانتخابات لرئاسة الهيئة وانتخب جمال عبد الناصر رسميا رئيسيا للهيئة التأسيسية للضباط الأحرار بالإجماع. وفي عام نفسه 1950 جاء عبدالحكيم عامر مبشرا بأنه وجد الرجل المناسب لينضم معهم في التنظيم وكان هو محمد نجيب، وقد رحب جمال عبدالناصر بالفكرة.
وكان الضباط قد اتفقوا على اختيار اللواء محمد نجيب لكي يكون قائدا للحركة في يوم تنفيذها، وبقي هذا الاختيار سرا ولم يفصحوا به إلى محمد نجيب إلا قبل معركة انتخابات نادي الضباط في ديسمبر عام 1951 وفي السادس من يناير 1952 جاءت انتخابات نادي الضباط ومع بداية فجر يناير 1952، أعلنت النتيجة وحصل محمد نجيب على أغلبية شبه إجمالية.
وجاءت ساعة الصفر، وهي قيام ثورة 23 يوليو 1952 في تمام الساعة الثانية بعد الظهر اجتمع عشرة من الضباط الأحرار في منزل خالد محيي الدين بشارع فوزي المطيعي بمصر الجديدة، كان ستة منهم أعضاء القيادة وهم جمال عبدالناصر وكمال الدين حسين وحسن إبراهيم وعبداللطيف البغدادي وخالد محيي الدين وعبدالحكيم عامر، الذي كان يعمل برئاسة الفرقة برفح وحضر الاجتماع أربعة ضباط من خارج اللجنة وهم عبدالمنعم أمين من سلاح المدفعية وحسين الشافعي من سلاح الفرسان وزكريا محيي الدين من سلاح المشاة وإبراهيم الطحاوي من سلاح خدمة الجيش وقرروا أن تكون ساعة الصفر ليلة الأربعاء 23 يوليو 1952، حيث كانت الخطة مسجلة في ست صفحات مكتوبة بخط يد عبدالحكيم عامر، ووضعت عليها بعض التعديلات بخط زكريا محيي الدين مع بعض الملاحظات بخط عبدالناصر.
وقد رسمت الخطة من ثلاث مراحل، السيطرة على القوات المسلحة وتحريك بعض القوات إلى مبنى القيادة في كوبري القبة، وكانت هذه هي الأولى، والمرحلة الثانية إنزال قوات إلى الشارع للسيطرة على عدد من المواقع المدنية مثل الإذاعة والتلفزيون وقصر عابدين.
المرحلة الثالثة: التحرك للإمساك بالحكم، وانطلق الضباط الأحرار لتنفيذ الخطة للثورة بحسب ما هو متفق عليه، وفي الساعة السابعة والنصف صباحا أصدرت قيادة الثورة بيانها الأول الذي ألقاه محمد أنور السادات.
وأهم ما ورد به وباختصار: بني وطني، اجتازت مصر فترة في تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم. وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش. وجاء في البيان أيضا، وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا وتولينا أمرنا في داخل الجيش. وأخيرا جاء في البيان وسيقوم الجيش بواجبه هذا متعاونا مع الشرطة، وإني أطمئن إخواننا الأجانب على مصالحهم وأرواحهم وأموالهم، ويعتبر الجيش نفسه مسؤولا عنهم، والله ولي التوفيق.
ولقد تبلورت أهداف الثورة في ست نقاط:
القضاء على الاستعمار وأعوانه من المصريين.
القضاء على الإقطاع.
القضاء على الاحتكارات وسيطرة رأس المال على الحكم.
إقامة العدالة الاجتماعية.
بناء جيش وطني قوي.
إلغاء الرقابة وإنشاء حياة ديمقراطية سليمة.
بعد ذلك توالت الأحداث، حيث أعلن قيام الجمهورية في 23 يوليو 1953، وتم تنصيب اللواء أركان حرب محمد نجيب رئيسا للجمهورية، وهكذا بدأت مصر مرحلة سياسة جديدة، وتولى جمال عبدالناصر رئاسة مجلس الوزارة ونائبا ووزيرا للداخلية، صلاح سالم وزيرا للإرشاد وشؤون السودان، عبداللطيف البغدادي وزيرا للحربية، وتعيين عبدالحكيم عامر قائدا عاما للقوات المسلحة.
استمر مجلس قيادة الثورة في تولي كل سلطاته بقيادة الرئيس جمال عبدالناصر بعد خلافات مع محمد نجيب أدت إلى استقالته عام 1954، وتأكدت رئاسة جمال عبدالناصر للجمهورية في استفتاء شعبي في يونيو 1956.
وهكذا كان جمال عبدالناصر، قبل أن يكون رئيسا لمصر وقائدا للأمة العربية كان إنسانا، ومن أصدق ملامحه حبه لأبناء الأمة العربية معتبرا أولئك جزءا لا يتجزأ من عائلته، فكان بمثابة الأب والأخ والصديق حتى لأسرته المكونة من زوجته وأولاده.
هذه محطات من مسيرة القائد الفذ جمال عبدالناصر من قرية بني مر إلى سدة حكم مصر ثم رحيله في يوم 28 سبتمبر 1970، وذلك في السادسة والربع من مساء يوم الإثنين بعد سماعه نشرة الأخبار، حيث عاشت القاهرة خمس ساعات من الألم عندما بدأت جميع الإذاعات المصرية والعربية في الوطن العربي بإذاعة آيات من القرآن الكريم.
إذ توقف قلب جمال عبدالناصر عن الخفقان وأصبح في رحاب الله. لقد كان فقدانه بمثابة صرخة ألم وصمت هائل، وتحولت مصر وبيوتها إلى مأتم كبير لا يسمع فيه سوى صوت القرآن الكريم والبكاء، وفي الساعة السابعة والنصف مساء توجه أنور السادات بصفته نائبا للرئيس إلى الإذاعة ليعلن النبأ المحزن.
جاء في مقدمة البيان: (فقدت الجمهورية العربية المتحدة وفقدت الأمة العربية وفقدت الإنسانية كلها رجلا من أغلى الرجال وأخلص الرجال وهو الرئيس جمال عبدالناصر الذي جاد بأنفاسه الأخيرة في السادسة والربع من مساء يوم 27 رجب 1390هـ الموافق 28 سبتمبر 1970، بينما هو واقف في ساحة القتال يكافح من أجل الأمة العربية).
كما جاء فيه: ليست هناك كلمات تكفي عزاء في جمال عبدالناصر أما الشيء الوحيد أن يبقي حقه وقدره هو أن تقف الأمة العربية كلها الآن وقفة صابرة، صامدة شجاعة قادرة حتى تحقيق النصر الذي عاش واستشهد من أجله ابن مصر العظيم وبطل الأمة وقائدها جمال عبدالناصر.